ظروف التخفيف : بقلم الد كتور جابر غنيمي المساعد الأول لوكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد

ظروف التخفيف تقتضي تحديدها ( المبحث الأول ) ( و شروط اعتمادها المبحث الثاني )
المبحث الأول: تحديد ظروف التخفيف
الفقرة الأولى: غياب التحديد التشريعي لظروف التخفيف
بدا للمشرع الجزائي أن العقاب المنصوص عليه للجريمة عقاب يشمل كل الأفعال، يطبق على كل المتهمين وهو ما يتنافى مع قواعد العدل والإنصاف، حيث لا يأخذ القاضي بعين الاعتبار ظروف الجريمة و ملابساتها ولا شخصية المتهم فكان التفكير في ترك الحرية للقاضي في تعديل العقوبات والنزول بها إلى أدناها درجة أو درجتين وهو ما يُعرف بظروف التخفيف.
و لقد أقر الفصل 53 من المجلة الجزائية التونسية مبدأ اعتبار ظروف التخفيف، اذ نص صراحة ” إذا اقتضت ظروف الفعل الواقع لأجله التتبع ظهور ما يحمل على تخفيف العقاب وكان القانون غير مانع من ذلك فللمحكمة مع بيان تلك الظروف بحكمها أن تـحط العقاب إلى ما دون أدناه القانوني بالنزول به درجة أو درجتين في سلم العقوبات الأصلية الواردة بالفصـل 5 من هذه المجلة. “
ولكن الفصل لم يعدد ظروف التخفيف ولم يذكرها لا على سبيل الذكر ولا على سبيل الحصر، وانما تولت محكمة التعقيب سرد بعضها على سبيل الذكر لا الحصر.
وهذه الظروف هي وقائع أو عناصر أو حالات تلازم ظروف القضية وشخصية الفاعل و يرجع تقديرها للمحكمة تستطيع المحكمة ان تستخلصها من ظروف المتهم وعمله وتاريخه الشخصي وسلوكه الاجتماعي ، وترك أمر تقدير هذه الظروف الى فطنة القاضي وقدرته على استنباط هذه الظروف من القضية ، تلتزم بها المحكمة وفقاً لقواعد معينة وكما تستطيع أن تعتبر ظروف الجريمة والمجرم ما يستدعي الرأفة ليجوز لها أبدال العقوبة كعدم وجود سوابق في ارتكاب الجرائم للمتهم ، أو كون المتهم خدم الدولة مدة طويلة باستقامة ونزاهة ، او كون الفاعل صغير السن وشاب في مقتبل العمر ، ما يوجب على المحكمة أن تنزل بالعقوبة وفق ما ينص عليه القانون ، على أن تبرر ذلك اللجوء الى التخفيف في قرار الحكم .
الفقرة الثانية: التطبيق القضائي لظروف التخفيف
أخذت المحاكم التونسية بعين الاعتبار ظروف و ملابسات ارتكاب الجريمة وظروف المتهم الاجتماعية والنفسية وفق ما اقتضاه الفصل 53 من المجلة الجنائية.
والفصل 53 م ج لا يمثل الصور الوحيدة لتخفيف العقاب فمقتضيات الفصل 56 من المجلة الجنائية المتعلق بضم العقوبات في القضايا المتعددة مبناها أيضا التخفيف على المتهم.
وفي سنة 1986 نقضت محكمة التعقيب وقررت أن الضم لا يعتبر من ظروف التخفيف .
و اعتبرت محكمة التعقيب أن تطبيق ظروف التخفيف والتشديد أمر بيد المحكمة و سلطة التتبع ولا دخل للقائم بالحق الشخصي فيه أو المطالبة به.
و اعتبرت أن تطبيق ظروف التخفيف أمر بيد المحكمة لها ان تسعف بها المتهم او تحرمه منها.
بل ان المحكمة يمكنها في نفس القضية ان تأخذ بظروف التشديد لبعض المتهمين وبظروف التخفيف بالنسبة للبعض الآخر
ولئن كان أمر تقدير ظروف التخفيف موكول لاجتهاد المحكمة المطلق فان ذلك مشروط
بجملة من الشروط.
الجزء الثاني: شروط اعتبار ظروف التخفيف
الفقرة الأولى: واجب التعليل
إذا ما أخذت المحكمة الرأفة بالمتهم فلها ان تبين ما حملها على هذه الرأفة
و مراقبة محكمة التعقيب لا تتعلق بمدى وجاهة تطبيق ظروف التخفيف في القضية بقدر ما تتعلق بمدى تماشي تعليل المحكمة لحكمها مع نص الحكم.
فاذا ارتأت المحكمة تطبيق ظروف التخفيف في القضية ثم قضت بالعقوبة الاشد دون النزول بالعقاب درجة او درجتين كان حكمها متناقضا ومستهدفا للنقض.
ان واجب التعليل المفروض على المحكمة عند تطبيقها لظروف التخفيف لا تفرضه محكمة التعقيب عند رفض المحكمة الأخذ بظروف التخفيف فللمحكمة رفضها بدون تعليل .
و يجب ان لا تختلط على المحكمة ظروف التخفيف بظروف التبرير.
الفقرة الثانية: أن لا يحجر القانون على الحاكم بالنسبة للجريمة المرتكبة تطبيق الفصل 53 من المجلة الجنائية
حجر المشرع التونسي على القاضي بالنسبة لعديد الجرائم تطبيق ظروف التخفيف واعتبارها. فالفصل 236 جزائي يمنع الحاكم من تطبيق ظروف التخفيف اذا ثبت زنا الزوج في محل الزوجية، كذلك فان الفصل 53 لا ينطبق بالنسبة لجريمة تزوير شيك .
ولا على مرتكب جريمة التزوج بثانية قبل فك العصمة والتزوج خلافا للصيغ القانونية.
الا ان حرمان مرتكب جرائم معينة من تطبيق ظروف التخفيف أمر يتنافى و قواعد العدل والانصاف فمهما كانت بشاعة الجرم المرتكب، وهي جرائم كما راينا لا ترقى الى بشاعة القتل والنهب و الاختطاف والاغتصاب، قلنا مهما كانت بشاعة الجرائم المرتكبة فان لكل جريمة ظروفها ولكل مرتكب جريمة ظروفه النفسية والاجتماعية.
بل ان الامر يصبح من باب التسلط و تدخل سافر للسلطة التشريعية في مجال السلطة القضائية.
ان تحجير تطبيق ظروف التخفيف في بعض الجرائم يكون سببا في بعض الحالات في اصدار احكام لا تتماشى مع الذوق السليم وتتنافي مع قواعد العدل والانصاف فقد قضت محكمة التعقيب بحرما ن من كان مختل المدارك العقلية جزئيا من الانتفاع بظروف التخفيف اذا ما ارتكب جرما يحجر معه المشرع على الحاكم تطبيق ظروف التخفيف.
إن ما درجت عليه محاكم القضاء من التخفيف في العقاب عندما تكون مدارك الجاني مختلة جزئيا و تطبيق الفصل 53 من القانون الجنائي إنما جاز لها ذلك عندما يكون النص المنطبق لا يمنع من تطبيق ظروف التخفيف.
ان ظروف التخفيف احدثت لتفادي تسلط القاضي فاذا برحمة القاضي تواجهها تشدد المشرع، و الكل يعلم ان االمشرع التونسي لم يكن في جميع الأحوال خير من يمثل الإرادة العامة.
يُحرم القاضي بتدخل المشرع من القضاء حسب وجدانه وضميره ويجد نفسه مضطرا لعقاب المتهم بما لا يراه مناسبا لظروفه النفسية والاجتماعية ولظروف القضية وملابساتها .
الفقر الثالثة: حسن تطبيق مقتضيات الفصل 53 من المجلة الجنائية
اقتضى الفصل 53 من المجلة الجنائية ضوابط لتخفيف العقاب اذا خالفها القاضي كان حكمه معرضا للنقض
فاذا كان المتهم مرتكبا لجريمة اختطاف شخص وتحويل وجهته طبق الفصل 237 وكان العقاب المستوجب السجن بقية العمر ومع ذلك قضت المحكمة بظروف التخفيف وسجن المتهم مدة عامين فقط فان قرار المحكمة مستهدفا للنقض لخرقه لمقتضيات الفصل 53 الفقرة الثالثة القاضي انه في صورة اذا كان العقاب المستوجب السجن بقية العمر فالحط منه لا يكون لأقل من خمس اعوام.
اما الشرط االرابع فغيابه لا يمنع تطبيق ظروف التخفيف ولكن يجعل ذلك اكثر صعوبة.
الفقرة الرابعة :نقاوة سوابق المتهم العدلية
اقتضى الفصل 47 من المجلة الجزائية يعدّ عائدا كل من يرتكب جريمة بعد عقابه بموجب أخرى قبل أن تمضي خمسة أعوام على قضاء العقاب الأول أو على إسقاطه.
أما الفصل 50 انه في صورة العود لا يمكن أن يكون العقاب دون الأقصى المنصوص عليه بالفصـل المنطبق على الجريمة الجديدة ولا أكثر من ضعف ذلك المقدار لكن بدون أن يمنع ذلك من اعتماد الفصـل 53 عند الاقتضاء.
واثيرت بمناسبة تطبيق ظروف التخفيف مسألة تتعلق بتطبيق ظروف التخفيف واسعاف المتهم بها ان كان من اصحاب السوابق وهل يعتبر العود حائلا دون تطبيق ظروف التخفيف بالرغم من ان الفصل 50 من المجلة الجنائية واضح في هذا المجال.
و فرضت محكمة التعقيب على محاكم الاصل متى طبقت ظروف التخفيف على المعيد ان تبين اسباب العود وظروفه وتعليل معاملة المعيد بتخفيف العقاب.
وخلاصة القول انه ان لم يمنع القانون تطبيق ظروف التخفيف وانتفاع المتهم المعيد صاحب السوابق بها فان محكمة التعقيب تشدد المراقبة وتوجب على محاكم الموضوع تعليلا ضافيا يشمل تبرير تطبيق ظروف التخفيف بالرغم من العود.