تونسغير مصنفمقالات

جريمة الإدعاء بالباطل

STP LA TUNISIENNE DE PUBLICITÉ

إعداد: جابر غنيمي دكتور في القانون المساعد الأول لوكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد مدرس جامعي


وهي الجريمة المنصوص عليها صلب الفصل 248 من المجلة الجزائية حيث اقتضى الفصل المذكور أنه: ” يعاقب بالسجن من عامين إلى خمسة أعوام وبخطية قدرها سبعمائة وعشرون دينارا كل من أوشى باطلا بأية وسيلة كانت بشخص أو عدة أشخاص لدى سلطة إدارية أو عدلية، من نظرها تتبع هذه الوشاية أو رفعها للسلطة المختصة، أو لدى رؤساء الموشى به أو مستأجريه.
ويمكن للمحكمة أن تأذن، علاوة على ما ذكر، بنشر كامل الحكم أو ملخص منه بإحدى الجرائد أو أكثر وذلك على نفقة المحكوم عليه.
وإذا كانت الأفعال موضوع الوشاية موجبة لعقاب جزائي أو تأديبي فإنه يمكن إثارة التتبعات بموجب هذا الفصل إما بعد الحكم الابتدائي أو الاستئنافي القاضي بعدم سماع الدعوى وترك السبيل أو بعد قرار الحفظ الصادر عن محاكم التحقيق وإما بعد حفظ الوشاية من قبل القاضي أو الموظف أو السلطة المعنية أو المستأجر الذين من نظرهم تقرير مآل الوشاية.
وعلى المحكمة المتعهدة بموجب هذا الفصل أن تؤجل النظر إذا كانت التتبعات المتعلقة بموضوع الوشاية مازالت منشورة”.
ومن المهم أن نعرف بأن موقع هذا النص قد ورد في القسم الخامس تحت عنوان “في هتك شرف الإنسان وعرضه” من باب الاعتداء على الأشخاص من المجلة الجزائية.
بالنسبة للنص القانوني المذكور فقد اعتمد في تعريف الإدعاء الباطل على مصطلح “الوشاية الباطلة” وهو مصطلح يعتبر المشرع التونسي قد وفّق في اعتماده لأنه وبالنظر لظاهره فقط فإنه يعبّر عن الوضاعة.
لكن النص القانوني لم يعط تعريفا لمعنى الوشاية الباطلة واعتمد على المعرفة الآلية للمعنى على أساس أن العبارة لا تحتاج للتفسير. ولكن في الحقيقة فإن المصطلح يحتاج للتوضيح فما معنى الوشاية الباطلة في اللغة والمعنى.
‌- مفهوم الوشاية الباطلة في اللغة:
• مفهوم الوشاية: هي كلمة لها مرادفات عديدة، لكنها كلها تصب في خانة السوء والسلبية، فمن أهم معانيها: الإخبار بأمر الناس، الدسيسة، الغيبة، المكيدة، المؤامرة، النيل من الشخص إلخ…
لكن أقرب المعاني لروح القانون الجزائي هي النميمة وبالتالي يكون المعنى الأقرب لنص القانون الجزائي هو اعتبار أن الوشي بالشخص هو النميمة به ونقل الشيء عنه بخبث.
والسبب في هذا الاعتقاد هو التمشي المنطقي الذي وردت عليه الفصول القانونية السابقة (الفصل 245 و 246 و 247 م.ج.) وهي فصول تتكلّم عن القذف والنميمة
• مفهوم الباطل: إن مصطلح الباطل هو الآخر له عدة مفردات والتي نجد منها العبث والكذب والبهتان والتلفيق وانعدام الجدوى والفائدة.
ولقد ورد مفهوم الباطل كصفة ملاصقة للوشاية وبالتالي فهي صفة ضرورية لقيام الجريمة فلا يمكن المرور لمحاسبة الفاعل إلا إذا ثبت زيف وشايته عن طريق نقل الخبر المزعوم على شخص أو مجموعة من الأشخاص بشكل ملفق وغير صحيح.
حتى تكون المسألة مرتقية إلى مرتبة الجريمة يجب ألا يكون الخبر المنقول بالهيّن أو البسيط، بل وأكثر من ذلك فإن هذا الخبر لا يقتصر على أن يكون ذا صبغة خادشة للحياء أو ماسّة من الشرف فقط (لأن في ذلك نصوص أخرى تجرّمها) وإنما يجب أن ينجرّ عن ذلك حصول تتبعات رسميّة للموشى به يمكن أن تؤدّي به لعقاب جزائي من طرف سلطة رسمية.
والوشاية الباطلة هي من أخطر أنواع النميمة نظرا ولأنها تهدف إلى التخلّص من الضحيّة جملة وتفصيلا عن طريق الاعتماد على وسائل السلطة من أجل تحقيق مآرب خبيثة.
والوشاية الباطلة تختلف عن النميمة والقذف في أن الواشي هو الذي يحث على افتتاح اجراءات التتبع عن طريق تشكيه هو مباشرة إلى السلط المعنية أي أنه يعلن نفسه طرفا متضررا من وشايته المزعومة أمام السلطة المعنية ويقف موقف المتضرر.

  • الوشاية بين المباح والممنوع:
    من الواضح أن الأمر يخضع لمبدإ واستثناء وبين المبدإ والاستثناء تتغيّر المصطلحات المعتمدة من طرف المشرّع.
    • المبدأ: التشكي الجزائي حق لكل شخص:
    هو مبدأ أساسي في القانون قائم على أحقية كل مواطن اللجوء للسلط المعنية من أجل إثارة دعوى عمومية عندما يكون له صفة المتضرر أو بصورة أخرى عندما ينجر له مضرة من فعل المعتدي، وقد وقع التنصيص على إحدى صور هذا المبدأ صلب الفصل1 من مجلة الإجراءات الجزائية في فقرته الأخيرة.
    وبالتالي يكون أمر إثارة الدعوى من طرف الأشخاص ممكنا إذا ما حصلت مضرة جدية وحقيقية من الفعل الإجرامي وهو مناط الإباحة.
    • الاستثناء: المشتكي مسئول جزائيا عن شكايته:
    يكون الحق مباحا دائما في طلبه أو ممارسته إذا كانت هنالك شرعية في ذلك وفي حدود المعقول أما إذا وصل الأمر حدّ التعسّف في استعماله أو المبالغة في ذلك فإن الأمر يدعو للمحاسبة لا المدنية فقط وإنما التأديبية والجزائية أيضا. وبالتالي يكون السعي نحو تفعيل استعمال السلطة العمومية بشكل متطرف خدمة لمآرب غير مشروعة له حساب عسير وعليه فإن رمي الناس بالمجرمين والسعي نحو تشويه سمعتهم دون وجه حق مدعاة للمحاسبة الجزائية أيضا وبالتالي يفتح ذلك بابا لممارسة حقّ التشكي لفائدة من شوّهت سمعته بسبب من اشتكى به سابقا.
    و دراسة جريمة الادعاء بالباطل يقتضي تحليل اركانها )الفقرة الأولى( و عقوبتها )الفقرة الثانية(

الفقرة الأولى: اركان الإدعاء الباطل:

  • وحيث وبالنظر الى خصوصية هذه الجريمة فان فقه القضاء تأرجح في البداية في خصوص تحديد أركان هذه الجريمة وانتظرنا تدخل محكمة التعقيب لوضع أركان محددة لهذه الجريمة باعتبار وأن أحكام الفصل 248 من المجلة الجنائية لم تكن واضحة فمحكمة التعقيب (ومن بعدها كل المحاكم) اعتبرت وأنه لقيام جريمة الادعاء بالباطل يجب أن يتوفر الركن المادي )أ( و الركن المعنوي: سوء النية )ب(
    أ- الركن المادي:
    و تتمثل في وجود الوشاية أو ما يسمى بالاتهام وكذب الوشاية.
  • وجود الوشاية: يستوجب تقديم الشاكي ما يفيد أن هنالك وشاية أو شكاية قدمت ضده ناسبة إليه ارتكاب جرم ما
  • كذب الوشاية: يستوجب تقديم حجة قانونية مثبتة لكذب الوشاية أي قرار نهائي في حفظ التهمة التي نسبت اليه أو حكم نهائي كذلك قاضي بعدم سماع الدعوى في خصوص التهمة التي نسبت اليه
    ب- الركن المعنوي: سوء النية:
    لهذه الجريمة طرح أكثر من اشكال باعتبار وأن هنالك من رجال القانون وبعض الأحكام الصادرة عن محاكمنا كانت اعتبرت في مرحلة معينة أن توفر الركنين الأولين أي الوشاية وببطلان الوشاية يكونان قرينة قاطعة على ثبوت الركن الثالث أي سوء النية بصفة آلية والحال وأن هذا التوجه لا يستقيم ضرورة وأن ما انتهت إليه محكمة التعقيب في العديد من قراراتها منذ أمد طويل جاء ليفند هذا الاجتهاد باعتبار وأن محكمة التعقيب اعتبرت أن ركن سوء النية هو أحد العناصر الواقعية التي تخضع لسلطة اجتهاد القاضي في المادة الجزائية وبصفة خاصة فان القاضي يستخلصها من ظروف وماديات القضية ويستوجب ذلك حتما التعليل.
    قرار تعقيبي عدد 6453 في 04/05/1970 جاء متضمنا ما يلي:
    “أن ركن سوء النية في جريمة الادعاء بالباطل عنصر واقعي يستخلصه القاضي من ظروف القضية ويستظهره بحكمه بتعليل سائغ قانونا.”
    وحيث يمكن القول أن سوء النية يكمن في حقيقة الأمر والواقع في مسألة باطنية يسعى القاضي الى معرفتها مما توفر لديه من ماديات ووقائع ومؤيدات باعتبار وأن هذا الركن أي سوء النية لا يمكن اعتباره متوفر إلا متى ثبت وأن الواشي كان عالما بكذب الوشاية أي عند تقديمه لشكاية ضد شخص ما كان يعلم علم اليقين أن ذلك الشخص بريء من التهمة التي ألصقها به نكالة فيه.
    قرار تعقييبي عدد 3790 في 30/06/1965 “لا تتوفر اركان الوشاية إلاّ إذا ثبت أن الواشي كان عالما بكذب الوشاية”
    وحيث يتضح إذن ولئن كان الركن المادي لا يطرح أي اشكال إلاّ أن ركن سوء النية هو ركن صعب الاثبات ويخضع للاجتهاد المطلق للقاضي وهو ما يفسر انتهاء القضاء للحكم بعدم سماع الدعوى في اغلب قضايا الادعاء بالباطل باعتبار وأن الأركان الثلاث لجريمة الادعاء بالباطل هم اركان متلاحمة cumulatives ولا يمكن لهاته الجريمة أن تقوم إلاّ متى توفرت كلّ اركانها ولم تتخلف أي واحدة منها.
  • وحيث ومن جهة أخرى فانه لا يفوتنا إلا أن نشير الى بعض المشاكل القانونية التي طرحت عندما تكون جريمة الادعاء بالباطل المنسوبة للمتهم مؤسسة على قرار حفظ لعدم كفاية الحجة.
    فان هذه الصورة تختلف عن صورة الحفظ لعدم توفر اركان الجريمة وصورة الحفظ لعدم وجود جريمة باعتبار وأن الحفظ لعدم كفاية الحجة يجعل التتبع الجزائي مازال قائما متى ظهرت أدلة جديدة وقد تدخلت في هذا الصدد محكمة التعقيب في العديد من القرارات لتؤكد أن جريمة الوشاية الباطلة لا تستقيم عندما يكون قرار الحفظ المؤسسة عليه هو قرار حفظ لعدم كفاية الحجة وقد جاء بالقرار الجنائي ع5935دد المؤرخ في 13/02/2001 الصادر برئاسة القاضي الفاضل السيد المنجي الأخضر ما يلي: “من الأركان الأساسية لقيام جريمة الوشاية الباطلة كذب الوشاية وعدم صدقها ويكون ذلك بعد حفظها حفظا قانونيا لعدم وجود جريمة أو تخلف أركانها أما حفظها لعدم كفاية الحجة بمقتضى قرار من قبل قاضي التحقيق يظل الرجوع فيه قائما متى ظهرت أدلة جديدة فإنه لا يقطع بكذب الوشاية وعدم صدقها” معنى ذلك وأنه لا يمكن التشكي من أجل ارتكاب جريمة الادعاء بالباطل إذا كان قرار الحفظ لعدم كفاية الحجة ضرورة أن القرار المذكور يكون قرارا مؤقتا وليس بالنهائي وبالإمكان استئناف التحقيق والبحث في الموضوع متى ظهرت أدلة جديدة أي ان قرار الحفظ المذكور يمكن الرجوع فيه في حين أن جريمة الوشاية الباطلة تتطلب دائما وأبدا قرار حفظ نهائي أو حكم بعدم سماع الدعوى نهائي.
    وحيث وبالرغم من هذا التدقيق الذي وضعته محكمة التعقيب في خصوص قرار الحفظ لعدم كفاية الحجة في جريمة الادعاء بالباطل والذي يجعل جريمة الادعاء بالباطل غير قائمة لأن الحفظ ليس بالنهائي وهو حفظ مؤقت ويمكن الرجوع فيه إلا ان بعض المحاكم الابتدائية مازالت لا تبال بذلك وتصدر أحكاما بالإدانة حتى وان كان قرار الحفظ المستند اليه في شكاية الادعاء بالباطل قرار حفظ لعدم كفاية الحجة.
    وحيث ومن جهة أخرى لا بد أن نشير في نفس السياق أن القيام بالتشكي على المسؤولية الخاصة طبق أحكام الفصل 36 من الاجراءات الجزائية لا يمكن بأية حال من الأحوال أن يجعل ركن سوء النية مفترضا في صورة الانتهاء الى حفظ الشكاية أو القضاء في شأن الادعاء بعدم سماع الدعوى باعتبار وأن الفصل 248 من المجلة الجنائية عندما تعرض الى الوشاية لم يخص الوشاية (أو الشكاية) المقدمة على المسؤولية الخاصة بأحكام خاصة وعليه فانه لا فرق بين التشكي العادي والتشكي على المسؤولية الخاصة بالنسبة لجريمة الادعاء بالباطل وكذلك الشأن بالنسبة للطعن بالاستئناف في قرار ختم البحث من طرف الشاكي اذ لا يمكن أن نعتبر ممارسة حق الاستئناف قرينة على ثبوت سوء النية باعتبار وأن حق الطعن بالاستئناف هو حق جاء به القانون طبق أحكام الفصل 109 مجلة الاجراءات الجزائية وهو ما انتهت إليه محكمة التعقيب في قرارها ع4205دد الصادر بتاريخ 19/12/2000 برئاسة القاضي الفاضل السيد المنجي الأخضر الذي تضمن ما يلي:”ان المعتمد لقيام الركن الأول والأساسي لجريمة الوشاية الباطلة هو الاتهام الباطل أما ما يتبع التشكي والحفظ من قيام على المسؤولية الخاصة واستئناف قرار بحث قلم التحقيق فلا يقوم دليلا على الاصرار على توجيه التهمة الباطلة وسوء النية في ذلك طالما أن النص اكتفى بالوشاية الباطلة ولم يرتب على الحق الذي أباحه القانون للأفراد من تشك وسلوك ما خوله الفصل 36 من م.ا.ج من قيام على المسؤولية الخاصة وإتباع ما خوله الفصل 109 من نفس القانون من استئناف القائم بالحق الشخصي لقرار ختم البحث أثرا يؤدي لسوء النية الذي يبقى أمرا موضوعيا خاضعا لاجتهاد محكمة الموضوع التي عليها حسن التعليل.”
    الفقرة الثانبة: عقوبة الادعاء بالباطل
    ينص الفصل 248 م ج ” يعاقب بالسجن من عامين إلى خمسة أعوام وبخطية قدرها سبعمائة وعشرون دينارا كل من أوشى باطلا بأية وسيلة كانت بشخص أو عدّة أشخاص لدى سلطة إدارية أو عدلية، من نظرها تتبع هذه الوشاية أو رفعها للسلطة المختصة، أو لدى رؤساء الموشى به أو مستأجريه.
    ويمكن للمحكمة أن تأذن، علاوة على ما ذكر، بنشر كامل الحكم أو ملخص منه بإحدى الجرائد أو أكثر وذلك على نفقة المحكوم عليه”.
    تنقسم هذه العقوبات الى عقوبات اصلية )أ( و اخرى تكميلية )ب(
    أ- العقوبات الاصلية:
    يعاقب بالسجن من عامين إلى خمسة أعوام وبخطية قدرها سبعمائة وعشرون دينارا كل من أوشى باطلا بأية وسيلة كانت بشخص أو عدّة أشخاص لدى سلطة إدارية أو عدلية، من نظرها تتبع هذه الوشاية أو رفعها للسلطة المختصة، أو لدى رؤساء الموشى به أو مستأجريه.

ب- عقوبات تكميلية:
ويمكن للمحكمة أن تأذن، علاوة على ما ذكر، بنشر كامل الحكم أو ملخص منه بإحدى الجرائد أو أكثر وذلك على نفقة المحكوم عليه
انّ القانون التونسي يسعى جاهدا من خلال العقوبات الأصلية والتكميلية المنصوص عليها صلب أحكام الفصل 248 من المجلة الجزائية، يسعى للحد من تفشّي هذه الجريمة داخل المجتمع، إلا أنه وللأسف الشديد شهدت هذه الجريمة ارتفاعا قياسيا داخل المجتمع، مما نتج عنها ارتفاع ملحوظ في عدد القضايا المنشورة لدى المحاكم التونسية رغم أنّ أغلب الأحكام القضائية تقضي بعدم سماع الدعوى في جرائم الإدعاء بالباطل بسبب صعوبة إثبات سوء نية المبلّغ بالباطل، الشيء الذي شجّع العديد من الأشخاص على إتيان مثل هذه الجرائم

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى