“د قياتى عاشور” يكتب : عقل يفكر أم قلم يحفظ؟ .. السر في فن التوجيه

خريج الجامعة لا يستطيع كتابة بريد إلكتروني واحد بلغة سليمة”… كم مرة سمعنا هذه الشكوى في سوق العمل؟ إنها شكوى حقيقية تكشف عن فجوة كبيرة بين قاعات الدرس ومتطلبات الحياة.
كأستاذ جامعي، أرى أن جزءاً كبيراً من هذه المشكلة لا يكمن في الطالب وحده، بل في “كيفية” توجيهنا له. نحن نقوم بدور أساسي في تطوير مهارات الكتابة، لكن التحدي الأكبر يظل: كيف نحوّل النقاشات الشفهية الحية داخل المدرج إلى نصوص مكتوبة متماسكة ومقنعة؟.
يكمن السر في “التوجيه البنّاء” أو ما يسمى بـ “التغذية الراجعة”. هذه العملية ليست مجرد وضع “درجة” أو تصحيح أخطاء، بل هي حوار حقيقي بين الكاتب (الطالب) والقارئ (الأستاذ). إنها فرصتنا لنوضح للطالب كيف تصل أفكاره للآخرين، وهل نجح في إيصال رسالته بوضوح؟.
بعد سنوات من الخبرة في الكتابة ومراجعة أبحاث الطلاب، اكتشفت أننا كثيراً ما نقع في فخ “التفاصيل الصغيرة”. أول ما يجب أن نضعه في اعتبارنا عند مراجعة كتابات الطلاب هو التركيز على الصورة الكلية، أي على جوهر الأفكار وتسلسلها المنطقي، قبل أن نغرق في الأخطاء الإملائية والنحوية.
علينا أن نتذكر أن الطلاب يأتون من خلفيات ومهارات كتابية متفاوتة ، ومهمتنا هي مساعدتهم على تحديد نقاط الضعف الرئيسة أولاً. عندما أراجع مسودة أولى، أكون واقعياً في توقعاتي، وأركز فقط على نقطتين أو ثلاث تتعلق بقوة الحجة أو منطق العرض.
أحد الأساليب التي وجدتها فعالة، هو أنني أتجنب الكتابة مباشرة على أوراق الطلاب، وأفضل كتابة ملاحظاتي على ورقة منفصلة. هذا يعطي انطباعاً للطالب بأنني قرأت عمله بعناية، ويمنحه شعوراً بالملكية على نصه، فيتشجع للتفاعل مع الملاحظات بجدية أكبر. كما أحرص دائماً على أن أبدأ بنقطة إيجابية أشيد فيها بما أنجزه الطالب، مهما كان بسيطاً.
أما التدقيق الإملائي والنحوي، فأنا أتجنبه تماماً في المسودات الأولية. لماذا؟ لأن الاستغراق في تصويب “الهمزات والتاء المربوطة” مبكراً، قد يوحي للطالب بأن العمل قد اكتمل، ويقتل حماسه لإعادة التفكير في الأفكار نفسها. يجب أن نؤكد للطلاب أن “بناء الفكرة” يأتي أولاً، ثم يأتي “تزيين النص” لغوياً.
بصفتنا باحثين، مهمتنا هي تشجيع التفكير النقدي والكتابة الواضحة. قد يقاوم بعض الطلاب فكرة إعادة الكتابة، مفضلين الاكتفاء بمسودة واحدة. ولكن هدفنا الأسمى هو التأكيد على أن الكتابة هي عملية “تواصل وتعاون مستمر”، وأن هذا الحوار البنّاء هو أهم جزء في رحلة التعلم.
نريد خريجاً يمتلك “عقلاً يفكر” لا مجرد “قلم يحفظ”.










