مقالات قانونيةمنوعات

خيانة الأمانة

إعداد : الدكتور جابر غنيمي قاضي واستاذ جامعي محاضر ومختص في القانون الدولي المساعد الأول لوكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد

خيانة الأمانة:
الخيانة في اللغة : خان خونا وخيانة ومخانة فعل متعدى بنفسه ، والخائن هو الذي خان ما جعل عليه أمينا .
والخيانة خون النصح وخون الود ، وتعنى التفريط بالعهود والمواثيق ، وضد الشفقة ، والنقص أو الانتقاص من الشئ ، وعدم النصح والاتهام ، والتدليس ، والبحث عن أخطاء الآخرين . 
يتضح مما سبق إن الخيانة تتضمن عدة معاني من بينها : التفريط بالعهود والمواثيق ، وعدم الشفقة ، والغش والتدليس ،وتبديد الأموال والأغراض ، وعدم إبداء النصح ، والانتقاص من الشيء ، وتصيد أخطاء الآخرين .
الأمانة في اللغة : لفظ الأمانة مصدر أمنه ، يأمنه أي وثق به وأطمأن إليه ولم يحفظه وللفظ الأمانة أصلان متقاربان أولهما : الأمانة التي هي ضد الخيانة ومعناها سكون القلب ، وثانيهما : التصديق الذي هو دلاله على الثقة التي هي الاطمئنان ، والأمن هو عدم الخوف ، والإيمان هو تصديق وإذعان ، وفي كليهما استقرار واطمئنان .
ومظاهر الأمانة في ظل الشريعة الإسلامية هي علاقة المسلم بربه إذ قال الله سبحانه وتعالى ” إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين إن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان انه كان ظلوما جهولا ” وقوله تعالى : “إن الله يأمركم إن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعطيكم به إن الله كان سميعا بصيرا”. 
ويمكن أن نعرف خيانة الأمانة بصورة أعم وأشمل في ضوء الشريعة الإسلامية  بأنها ” تعمد فرد يتمتع بكامل الأهلية المعتبرة شرعا إساءة استغلال الثقة التي أودعت فيه من خلال ارتكاب محظورات شرعية نهى الله عنها بتعزيز لكونها تتنافى مع القيم والمبادئ ومكارم الأخلاق التي حثت عليها الشريعة الإسلامية بتبديد أو سوء استغلال أو  اختلاس  أو استعمال ما أؤتمن عليه في غير موضعه لصالحه أو لصالح غيره ” .
فخيانة المؤتمَن هي تعمّد المؤتمن الاستيلاء الفعلي على المال المؤتمن عليه والتصرف فيه خيانة منه، وبقصد إلحاق الضرر بصاحبه، كما لا تنتفي الجريمة بإرجاع المال بعد التفطن للجريمة ومضي مدة على الاختلاس.
و قد نص الفصل 297 م ج ” يعاقب بالسجن مدة ثلاثة أعوام وبخطية قدرها مائتان وأربعون دينارا كل من يختلس أو يتلف أو يحاول أن يختلس أو يتلف سندات أو نقودا أو سلعا أو رقاعا أو وصولات أو غير ذلك من الكتايب المتضمنة لالتزام أو إبراء أو القاضية بهما لم تسّلم له إلا على وجه الكراء أو الوديعة أو الوكالة أو التوثقة أو الإعارة أو لأجل
عمل معيّن بأجر أو بدونه بشرط ترجيعها أو إحضارها أو استعمالها في أمر معيّن قاصدا بذلك الإضرار بأربابها أو المتصرّفين فيها أو من هي بأيديهم.
ويكون العقاب بالسجن مدة عشرة أعوام إذا كان الجاني وكيلا أو مستخدما أو خادما أو أجير يومه لصاحب الشيء المختلس أو وليّا أو وصيّا أو ناظرا أو مقدّما أو مؤتمنا أو متصرّفا قضائيا أو مديرا لوقف أو مستخدما به”.
على ضوء نص الفصل 297 م ج يمكن تعريف جريمة خيانة الأمانة بأنها اختلاس أو استعمال أو تبديد مال منقول مملوكا للغير سلم إلى الجاني بناءا على عقد من عقود الأمانة المحددة حصرا ، وذلك إضرارا بمالكيها أو أصحابه أو واضعي اليد عليها مع توافر القصد الجنائي.
والعقود التي نص عليها المشرع في االفصل 297 م ج هي الوديعة و الكراء والرهن والوكالة و الاعارة و عارية الاستعمال.

 1ـ الوديعة : هي عقد من العقود الرضائية التي يمكن تعريفها بانها عقد يلتزم به شخص أن يتسلم به شيئا من آخر على أن يتولى حفظ هذا الشيء وعلى أن يرده عينا .
وتتحقق الجريمة في حالة أن يستغل المودع لديه وجود الشيء في حوزته على سبيل الوديعة ويعتدي على ملكية المودع ولا يراعى التزاماته تجاه المودع بالحفاظ على الشيء على سبيل الأمانة بل يتصرف كما لو كان هو مالك الشيء .
والوديعة كعقد تمثل علامة تعاقدية بين المودع والمودع لديه ولكنها قد تكون قضائية أو قانونية.وصورة الوديعة القضائية هي الحراسة القضائية التي يكون مصدرها حكم قضائي على أموال محل التنازل ، في الحالة القانونية فهي التي يكون مصدرها القانون كالحراسة على الأموال المحجوز عليها التي تعين لها حارس
2ـ الإجارة أو الإعارة : هي عقد من عقود الأمانة، و يعرف الإيجار عقد يلتزم المؤجر بمقتضاه بأن يمكن المستأجر من الانتفاع بشيء معين مدة معينة بمقابل معلوم .
والإيجار قد يشمل إيجار العقارات أو المنقول عموما ولكن في جريمة خيانة الأمانة يقتصر الأمر على إيجار المنقولات المادية ـ كأن يبدد المستأجر أثاث المنزل أو الآلات الزراعية ، أو الماشية وفى هذه الحالة يرتكب جريمة خيانة الأمانة المستأجر الذي استأجر هذه الأشياء فعقد الإيجار يرتب التزامات على عاتق المستأجر يجب الالتزام بها والإخلال ببعضها يؤدى إلى قيام الجريمة مثل رفض رد الشيء المؤجر عينا ، وتبديده أو الظهور عليه بمظهر المالك على خلاف الحقيقة . أما الالتزامات الأخرى التي يرتبها عقد الإيجار  مثل الالتزام بدفع الإيجار مثلا فلا يرتب الإخلال به تحقق جريمة خيانة الأمانة وحتى لو أهمل في المحافظة على الشيء المؤجر فلا قيام للجريمة.  

3ـ عارية الاستعمال : عارية الاستعمال هي عقد يسلم به أحد الطرفين شيئا للآخر لينتفع به مدة معينة أو في غرض معين على أن يرجع المستعير عين المعار ويبقى للمعير ملكية الشيء وحوزة الشرعي بحيث لا يكون للمستعير إلا المنفعة “. فإذا استولى المستعير على شيء منقول تسلمه بمقتضى عقد إعارة عد مرتكبا لجريمة خيانة الأمانة .
وفى عارية الاستعمال يجب على المستعير رد الشيء بعينه بعكس عارية الاستهلاك الذي لا يلتزم فيه المستعير برد الشيء نفسه بل يرد شيء آخر مثله لأن الأول يهلك بالاستهلاك .
4ـ الرهن :الرهن عقد يلتزم به شخص ضمانا لدين عليه أو على غيره أن يسلم إلى الدائن أو إلى أجنبى يعينه المتعاقدان شيئا يرتب عليه للدائن حقا عينيا يخول حبس الشيء لحين استيفاء الدين وأن يتقدم الدائنين العاديين والدائنين التاليين له في المرتبة في اقتضاء حقه من ثمن هذا الشيء في أي يد يكون.
5 ـ الوكالة : الوكالة عقد من ضمن العقود ، و تعرف بأنها عقد يلتزم الوكيل بمقتضاه بأن يقوم بعمل قانوني لحساب الموكل والغالب أن تكون الوكالة بمقابل ولكنها قد تكون بدون مقابل .
والوكيل قد يتصور ارتكابه لجريمة خيانة الأمانة في حالة أن يمتنع عن رد ما لديه من مال للموكل حيث يحتفظ بالشيء الذي يحوزه حيازة ناقصة بنية تملكه ويحوله من حيازته الناقصة إلى حيازته الكاملة فهو بذلك يعتدي على حق ملكية المالك الحقيقي للشيء.
تتكون جريمة خيانة الأمانة عند قيام جملة من الأركان )الفقرة الأولى( و يترتب عنها عقوبة )الفقرة الثانية(

الفقرة الأولى: أركان جريمة خيانة الأمانة
تتكون جريمة خيانة الأمانة من ركن مادي )أ( و ركن معنوي )ب(
أ- الركن المادي:
صور الركن المادي:
يتحقق النشاط المادي لخيانة الأمانة بأحد الصور الثلاثة الآتية :
(1 الاختلاس
(2 الاستعمال
(3 التبديد
أولا: الاختلاس :
الاختلاس هو فعل يقترفه الجاني بالسيطرة على الشيء وحيازته حيازة كـاملة وممارسة سلطات المالك عليه والظهور بمظهر المالك ويمتنع عن رد الشيء إلى مالكـه بما يحقق الاختلاس كأحد صور خيانة الأمانة .
يعنى الاختلاس هنا كل فعل يدل به الأمين ( الحائز للشيء ) عن تغير حيازته الناقصة إلى حيازة كاملة بنية التملك .
ويظهر الاختلاس في رفض الجاني رد الشيء الذي في حوزته وقد ينكر صلته بالمجني عليه أو بعقد الأمانة الذي بمقتضاه تم تسليم الشيء إليه على سبيل الأمانة . أما إذا امتنع عن الرد ولم يظهر نيته في التملك فلا قيام للركن المادي للجريمة لأن فعل الاختلاس لا يقوم إلا بفعل ايجابي أما إذا عبر عن نيته في تملك الشيء بجانب امتناعه عن رده فهنا تقوم صورة الاختلاس .
فالمقصود بالاختلاس في باب خيانة الأمانة هو غير المقصود بالاختلاس في باب السرقة فبينما يعنى الاختلاس في جريمة السرقة سلب حيازة الشيء من صاحبه أو حائزه بدون رضائه بأزالة العلاقة المادية التي كانت تربط بين الشيء وحائزه ، نجد في خيانة الأمانة يعنى مجرد تغيير شكل الحيازة من حيازة ناقصة ومؤقتة إلى حيازة كاملة ودائمة بإضافة  المختلس إلى ملكه الشيء الذي سلم إليه على سبيل الأمانة .
ويلاحظ أن مفهوم الاختلاس هنا يقتضى إلا يكون من شأن نشاط الجاني أخراج الشيء من حيازته وإلا جاوز ذلك نطاق الاختلاس ودخل في حدود التبديد.
و قد اعتبرت محكمة التعقيب في القرار الجزائي عدد 7520 المؤرخ فى 21/12/1983 – “جريمة الخيانة لا تتكون الا بثبوت نية الاختلاس و الاتلاف طبق احكام الفصل 297 جنائي”.
كما أكدت في قرارها الجنائي عدد 5915 المؤرخ فى 02/04/1969 “تتكون جريمة الخيانة بمجرد تعمد المؤتمن الإستيلاء على المال المؤتمن عليه و التصرف فيه خيانة منه ولا ينفى ذلك إرجاع المال بعد التفطن للجريمة و مضي مدة على الاختلاس”.
و هو ما أكدته كذلك صلب القرار الجزائي عدد 11300 المؤرخ فى 28/03/1984 ” مجرد النقص فى الاموال لا يشكل في حد ذاته جريمة الخيانة الموصوفة اذ لا بد لقيام اركان الجريمة من ثبوت الاستيلاء على المال المؤمن تحت يد الجاني و تعمد التفريط فيه”.

ثانيا: الاستعمال :
الاستعمال هو الصورة الثانية من صور الركن المادي في جريمة خيانة الأمانة .
الاستعمال يعنى استعمال الشيء بما يضيعه على صاحبه أو الاستعمال الذي لا يصدر إلا من مالكه . والمثال الواضح على ذلك أن يتم تسليم الناشر أصول كتاب للمؤلف لكى يطبعه ويسلمه للمؤلف ليبيعه ، فما بالناشر إلا ويطبع عدد كبير من الكتاب لمصلحته ويوزعه دون علم المؤلف بما يعتبر خيانة للأمانة التي سلمت إليه ، فالاستعمال هنا يفيد المعنى السئ للاستعمال الذي يفوت الحق على صاحبه أما الاستعمال الذي يفيد معنى الانتفاع بدون أن يفوت حق المالك في الشيء ولا يؤدى إلى هلاكه فلا تأثير له ولا قيام لجريمة خيانة الأمانة به  .
وهو على هذا الوضع يكون صورة من صور تغير الشيء عن وجهته لتملكه ، فلا يكفى مجرد استعمال المال استعمالا مخالفا لشروط العقد ، لان القاعدة في خيانة الأمانة هي أن يلزم وقوع الفعل على ملكيه الرقبة ، ولا يغنى عن ذلك وقوعه على مجرد المنفعة ، وهذه قاعدة مضطردة في جميع جرائم سلب مال الغير .
وفى حالة الاستعمال لا يشترط أن يتوافر لدى الجاني نية عدم رد المال. وهذا ما يفرق هذه الصورة من الاختلاس والتبديد الذي تظهر فيها نية عدم رد الشيء أو تبديده .
ثالثا: التبديد :
التبديد هو الصورة الثالثة للركن المادي لجريمة خيانة الأمانة التي نص عليها المشرع وهى اشد صور خيانة الأمانة وطأة على مال المجني عليه لان الجاني يأتي بالتبديد سلوكا يفقد المجني عليه ماله ويكون ذلك بإهدار المال نهائيا ، وقد يكون التبديد عن طريق تصرف قانوني ــ وإن كان ليس من حق خائن الأمانة ــ أي تصرف مادي .
ويزيد مفهوم التبديد على الاختلاس بأنه يتضمن إخراج الشيء المسلم إليه على سبيل الأمانة من حيازة الأمين بالتصرف فيه على اعتبار انه مملوكا له .
ويدخل في مفهوم التبديد حالتان :
الأولى :ـ إخراج الأمين الشيء المؤتمن عليه من حيازته بأن يتصرف فيه بأحدي التصرفات القانونية . مثال ذلك أن يبيعه أو يهبه أو يقايضه أو يرهنه للغير ، وأي تصرف آخر يترتب عليه تخلى الجاني عن حيازته للشيء المسلم له .
الثانية :ـ تصرف الجاني تصرفا ماديا كإتلاف أو إحراق أو تدمير أو استهلاك الشيء المسلم له ــ على سبيل الأمانة .مثال ذلك أن يصرف النقود التي اؤتمن عليها أو أن يأكل الطعام موضوع عقد الأمانة . ولمحكمة الموضوع مطلق الحرية في تكوين عقيدتها في حصول التبديد وأن تستدل على ذلك بأي عنصر من عناصر الدعوى .
ويلاحظ أنه في الحالتين يتعين ابتداء ظهور الجاني بمظهر المالك مع توافر نية لديه منصرفة إلى عدم رد الشيء لصاحبه مما يقوم به أيضا فعل الاختلاس ثم التصرف في الشيء .

  • الضرر:
    كل جريمة يترتب عليها ضرر مباشر هو الذي يحظره القانون ويعاقب عليه ، وأن هذا الضرر قد يكون نتيجة مفترضه ومتصله بالفعل المادي أوثق صله بحيث لا يمكن فصلها عنه بحكم طبيعة الأشياء ، وهذا النوع من الضرر في غالبية الجرائم كالقتل والضرب والسرقة والنصب .
    مدلول الضرر في جريمة خيانة الأمانة :
    تقوم خطة المشرع على التوسع في تحديد مدلول الضرر الذي تفترضه جريمة خيانة الأمانة ، فلا يفرق المشرع بين الضرر المادي والضرر الأدبي ولا يفرق بين ضرر حال وضرر محتمل ، ويستوى أن يكون الضرر جسيما أو يسيرا ، وسواء أن يصيب المالك أو غيره ممن لهم على الشيء حقوق ، وسواء أن يكون المضرور شخصا طبيعيا أو شخصا معنويا ، وسواء أن يكون المضرور معينا أو غير معين ولا يشترط أن ينال المتهم كسبا من فعله أو لم ينال شيء من ذلك .
    وعلى ذلك إذا استلم وكيل مبلغا من المال كرسوم أو مصاريف لعمل معين وتمكن بهذا العمل بدون مقابل أو بتكاليف بسيطة وإنما بطريق غير مشروع واستحوذ على الباقي يعد مرتكبا لخيانة الأمانة ، كذلك لا يشترط أن يكون الضرر ماديا بل تقع الجريمة ولو كان الضرر أدبيا كما في تبديد أوراق شخصية أو أشياء ليس لها إلا قيمة تذكارية .
    فإذا لم يكن هناك ضرر مطلقا لا محقق ولا محتمل فلا جريمة . فإذا افترضنا أن وكيلا حصل بضع جنيهات وصرفها على أن يدفع بدلها من نقوده الخاصة عند تقديم الحساب للموكل وكان مليئا لدرجة لا يحتمل معها للشك في قدرته على الوفاء بالمبلغ في أي وقت يطلب منه فلا يعد فعله خيانة أمانة .
    كما لا يشترط أن يلحق الضرر المالك نفسه ، بل يكفى أن يلحق الضرر حائزه حيازة مؤقتة أو من كانت يده عليه يدا عارضة.
    و قد اعتبرت محكمة التعقيب في قرارها الجزائي عدد 3456 بتاريخ 9-2- 1977″من الأركان الأساسية التي تقوم عليها جريمة الخيانة ثبوت نية الاستيلاء بقصد الإضرار بصاحب الشيء المختلس وترتيبا على ذلك فان المحكمة اذا لم تبرز هذا العنصر بما هو كاف واكتفت بذكر ان التهمة ثابتة ضد المتهم بالادلة المادية والشهادة والمصادقة على نتيجة الاختبار واحتفاظ الطاعن بالمبلغ المالي بدون بيان ذلك كان بنية الاستيلاء والإضرار بأصحاب المال فان حكمها المذكور يعتبر ضعيف المستند وبموجب ذلك يكون مستهدفا للنقض” .

ب- الركن المعنوي:
جريمة خيانة الأمانة جريمة عمديه إذ ينص على عقاب الجاني الذي يقدم على اختلاس أو تبديد الأشياء التي اؤتمن عليها قاصدا بذلك الإضرار بأربابها أو المتصرفين فيها أو من هي بأيديهم.
فجريمة خيانة الأمانة القائمة على إيصال الأمانة جريمة عمديه لابد من تحقق القصد الجنائي فيها ولا يقتصر على القصد الجنائي العام وإنما لابد من توافر القصد الجنائي الخاص ، وهو يتمثل في نية التملك أي أن تتجه إرادة الجاني إلى تغير حيازته من حيازة ناقصة إلى حيازة كاملة مع إنكار حق صاحبه عليه  أي انصراف نية الجاني إلى إضافته إلى ملكه واختلاسه إلى نفسه فإذا انتفيت هذه النية لا تقوم الجريمة.
تبعا لذلك تتطلب جريمة خيانة الأمانة بوصفها جريمة عمديه توافر القصد الجنائي العام فضلا عن القصد الجنائي الخاص قوامه نية تملك الشيء موضوع الجريمة .
القصد الجنائي العام:
القصد الجنائي العام يمكن تعريفه على أنه ” إرادة الجاني ارتكاب فعل يعلم أو هو محمول على العلم بأن القانون الجزائي يجرمه “.
يتضح من هذا التعريف أن القصد الجنائي العام يستوجب توافر عنصرين هما :
الإرادة
العلم
فالإرادة هي ” نشاط نفسي ينصب على الرغبة في تحقيق نتيجة إجرامية “.
يجب أن تتجه إرادة الجاني إلى ارتكاب ماديات الواقعة بأن يستولى على المال المسلم إليه بإرادته ويرفض رده إلى صاحبه إضرارا بملكية المالك ، ويجب أن تتخذ إرادته إحدى صور الركن المادي وهى الاستعمال أو الاختلاس أو التبديد .
أما العلم فيتمثل في كون الجاني على يقين بأنه يرتكب عملا إجراميا يمنعه القانون . ففي جريمة خيانة الأمانة ينبغي أن يكون الجاني على علم بالعناصر المكونة للجريمة أي أنه يجب أن يكون عالما بأن الشيء الذي استولى عليه ملك للغير ، فالوارث الذي يقدم على التصرف في شيء مودع عند مورثه معتقدا أن ذلك الشيء تابع لأموال التركة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون مرتكبا لجريمة خيانة الأمانة لعدم علمه بأن الشيء المتلف مملوك لغيره.
فيجب أن يعلم الجاني بمكونات الواقعة الإجرامية بأن يعلم أن المال مملوك لغيره وأنه سلم إليه ليحوزه حيازة ناقصة على سبيل الأمانة وأنه يلتزم برده عينا إلى المالك وفقا لأحد العقود المنصوص عليها حصرا ، وأن يعلم بماهية فعله من تغيير حيازة المال من حيازة ناقصة إلى حيازة كاملة.
وينبغي كذلك أن يكون الجاني عالما بأنه يرتكب الاختلاس أو الإتلاف على الشيء المؤمن لديه ، أما إذا هلك منه ذلك الشيء نتيجة قوة قاهرة أو تقصير منه أو سوء استعمال عن غير قصد فإنه لا يعد مرتكبا لخيانة الأمانة .
القصد الجنائي الخاص:
القصد الجنائي الخاص هو قصد محدد بنتيجة معينة بذاتها ولا يشترط في كل الجرائم . ويتمثل القصد الجنائي الخـاص في جريمة خيانة الأمانة في نية الإضرار بصاحب الشيء أو المتصرف فيه وكل من القانون التونسي و القانون الفرنسي والقانون المصري يشترطون الضرر كركن مادي لقيام جريمة خيانة الأمانة ، فالفصل 297 م ج يعتـمد عـبـارة ” إضرارا بمالكـيها أو أصحـابها … الخ ” .
ولا تختلف هذه النية في عناصرها عن نية التملك في السرقة والنصب فهي تعنى إرادة السلوك إزاء الشيء كما يسلك مالكه ، أي إرادة الحلول محل المالك في سلطانه على الشيء ؛ فالمتهم يريد أن يباشر السلطات التي ينطوي عليها حق الملكية باسمه ولحسابه غير معترف للمالك بالحقوق والسلطات التي كان سند حيازته يفرض عليه الاعتراف بها. 
فإذا انتفت هذه النية فلا يتوافر القصد ؛ فإذا كان المستعير لا يستهدف بتأخره في رد الشيء غير أن يطيل أمد انتفاعه به ، أو كان المستأجر لا يعنى باستعماله الشيء في غير ما أتفق عليه سوى أن يحصل منه على أكبر قدر من الانتفاع ، فكانت إرادة كل منهما متجهه إلى مجرد الإخلال بالالتزام التقاعدي دون أن تجاوز إلى حرمان المالك من حقه والحلول محله على الشيء ، فإن القصد لا يتوافر بذلك .
وإذا كان موضوع خيانة الأمانة مالا مثليا ، فأن نية التملك تفترض على المتهم بالضرر ( ولو كان محتملا ) الذي قد ينزل بالمجني عليه ، وتفرض اتجاه إرادته إلى ذلك أو قبوله . ومثال ذلك إن ينفق الوكيل النقود التي سلمت إليه لحساب موكله في شئونه الخاصة علما باعساره ، وانه لن يتوافر لديه مال لإبقاء الموكل حقه ، ويتوقع تبعا لذلك عجزه عن أبراء ذمته تجاهه فتتجه إرادته إلى ذلك نكاية فيه ، أو يقبل ذلك لأنه لا تعنيه مصالح موكله ولا يعبأ بفقد ثقته فيه .
وتطبيقا لذلك فإنه  إذا قرر الوكيل أن يستغل الأموال التي تسلمها لحساب موكله في مضاربات البورصة ، أملا أن يسترد هذه الأموال مضافا إليه أرباحها ، فيرد إلى الموكل ماله ويحتفظ لنفسه بالأرباح أو يسلم إلى الموكل جزءا من الأرباح أو كلها بالإضافة إلى ماله . ولكن نتيجة المضاربة جاءت خاسره فضاع رأس المال ولم يستطع أن يرد إلى الموكل ماله فإن الوكيل يسأل عن خيانة الأمانة ، لأنه توقع بالنظر إلى طبيعة عمليات المضاربة في البورصة احتمال الخسارة ” أي الضرر المحتمل ” ولو كان هذا الاحتمال قليلا ، فقبله وأقدم على هذا التصرف في أموال موكله.
ولكن إذا خلط الوكيل أموال موكله بأمواله الخاصة التي تفوقها ثم أودعها جميعا باسمه في مصرف متين المركز ، وكان منتويا أن يسحب أموال الموكل بمجرد طلبه لها ويردها إليه ، ولم يتوقع احتمال أفلاس المصرف ، ولكن هذا المصرف أفلس ، فلم يستطع أبراء زمته لدى مطالبته بذلك ، فإن القصد لا يتوفر لديه.
و على القاضي أن يستخلص القصد الجنائي من فعل الجاني ، فمن السهل على قاضي الموضوع استخلاص قيام القصد في جريمة خيانة الأمانة إذا اتخذ الركن المادي فيها صور التبديد ، إذ يعتبر التصرف في الشيء بالهبة أو المقايضة أو البيع كافيا للقول بتوافر القصد
ولكن الأمر يدق إذا ما أتخذ الفعل صورة الاختلاس حيث تتم الجريمة بمجرد تغير نية الحيازة المؤقتة إلى نية الحيازة الكاملة ، فيجب في هذه الحالة أن يقوم الدليل على تغير النية ويستنتج القصد من أي فعل يدل على هذا التغير كإنكار الشيء أو ادعاء سرقته
وأكثر الأفعال دلالة على تغيير نية الحيازة لدى الجاني هو امتناعه عن رد الشيء عند مطالبته بذلك .
ولا يشترط لبيان القصد الجنائي في جريمة خيانة الأمانة أن ينص  عليه في الحكم بحيازة صريحة مستقلة ، بل يكفى أن يكون مستفادا من ظروف الواقعة المبينة به أن الجاني ارتكب الفعل المكون للجريمة بنية حرمان المجني عليه من الشيء المسلم إضرارا به.

الفقرة الثانية: عقوبة خيانة الأمانة
تختلف العقوبة بحسب ما إذا كانت الخيانة مجردة )أ( أو موصوفة )ب(
أ- عقوبة الخيانة المجردة:
يقصد بالخيانة المجردة في القانون التونسي إتمام جريمة الخيانة عن طريق وجود نية في الاختلاس والاستيلاء على الشيء أو إتلاف الشيء المؤتمن عليه، أو المحاولة في ذلك بنية وقوع الضرر، في غياب أي ظرف من ظروف التشديد الواردة بالفقرة 2 من الفصل 297 م ج.
ويعاقب بالسجن مدة ثلاثة أعوام وبخطية قدرها مائتان وأربعون دينارا كل من يختلس أو يتلف أو يحاول أن يختلس أو يتلف سندات أو نقودا أو سلعا أو رقاعا أو وصولات أو غير ذلك من المؤيّدات المتضمنة لالتزام أو إبراء أو القاضية بهما ولم تسلّم له على وجه الكراء أو الوديعة أو الوكالة أو التوثقة أو الإعارة أو لأجل عمل معيّن بأجر أو بدونه بشرط إرجاعها أو إحضارها أو استعمالها في أمر معيّن قاصدا بذلك الإضرار بأربابها أو المتصرّفين فيها أو من هي بأيديهم.
و ينص الفصل 300 م ج ” يعاقب بالسجن مدة خمسة أعوام وبخطية قدرها سبعمائة وعشرون دينارا كل من أمّن على رقعة خالية من الكتابة بها إمضاء الغير وخان الأمانة بأن ضمّن بها التزاما أو إبراء أو غير ذلك من العقود التي من شأنها توريط ذات أو مكاسب صاحب الإمضاء.
وإذا لم يؤتمن الجاني على تلك الرقعة فإنه يقع تتبعه وعقابه بصفته مدلسا.

ب- الخيانة الموصوفة:
الخيانة الموصوفة تعني وجود نية من الخائن بالاستيلاء على الشيء المؤتمن، و كان الخائن وكيلا او مستخدما او خادما او اجيرا باليوم لدى صاحب الشيء المختلس أو وليّا أو وصيّا أو ناظرا أو مقدّما أو مؤتمنا أو متصرّفا قضائيا أو مديرا لوقف أو مستخدما به.
ويكون العقاب بالسجن مدة عشرة أعوام.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى