هل تحول بورقيبة الى حائط مبكى؟

بقلم محمد العماري
لا اعتقد أن أحدا من المنصفين لا يشهد لبورقيبة بنضاله وحبه لتونس وزعامته و نظافة يده من المال العام.. لم يثبت على الاقل أنه كان يمتلك عقارات لنفسه أو لأفراد عائلته أو هرّب أموالا أو امتلك حسابات بنكية خارج تونس..
فالرجل كان يعشق السلطة للحكم والجاه وليس للثراء والاستثراء…كثيرون اليوم الذين يسعون إلى اختزال تاريخ تونس المعاصر في شخص بورقيبة مع البخس المتعمد لحقوق كل بقية الوطنيين الذين شاركوه النضال وبناء الدولة..
سر نجاح بورقيبة في بناء دولة الاستقلال عشرين سنة الأولى من الاستقلال، كان يكمن في ذاك الفريق الوطني من المناضلين من جيل الحركة الوطنية الذين بدأوا معه المشوار منذ معركة التحرير إلى بناء الدولة ويقاسمونه نفس الافكار والحماس في بناء الدولة العصرية…..فبورقيبة كان رجل دولة بلا منازع، يتميز بالجرأة و البراغماتية الفائقة في تنفيذ مطالب النخب الوطنية التي كانت تحيط به بعقلية قول الشاعر:” إن صَحّ قولُكما، فلستُ بخاسر أو صَحّ قولي، فالخَسارُ عليكمافمشروع مجلة الأحوال الشخصية مثلا كان جاهزا منذ بداية الخمسينات لكنه ظل مجمدا ينتظر من يضعه على السكة.. تعميم التعليم ومجانيته والإحاطة الاجتماعية المتمثلة في مجانية الخدمات الصحية والتضامن الاجتماعي، كانت كلها مطالب النخبة من خلال الاتحاد العام التونسي للشغل.. هذه المطالب مدونة في لوائح مؤتمره السادس سنة 1956 و برنامجه الاتحاد الاقتصادي والاجتماعي الذي تبناه الحزب الدستوري خلال مؤتمره بصفاقس سنة 1955 ( أي قبل ما يتقلد بورقيبة المسؤولية العليا بالبلاد)..
فهذا لا يعني أن بورقيبة لم يكن همه هذه المطالب الحضارية وزيادة، كتوحيد القضاء وتأميم الاراضي الفلاحية، وحرصه البالغ على تغيير الأوضاع التونسيين البائسة بعد الاستقلال بكل السبل، لكن أؤكد مرة أخرى على انه لو لم تكن هناك نخبة وطنية واعية تشاطره تلك الطموحات ما قبل وبعد الاستقلال لما استطاع بورقيبة تسجيل اسمه في تاريخ تونس المعاصر.
فالمتشدقون اليوم بخصال الزعيم واسرافهم في التطبيل المغشوش والكاذب للبورقيبية وحصرها في تحرير المرأة والتعليم وبناء الادارة العصرية للدولة على الاقل مقارنة بمثيلاتها.. عليهم ايضا أن تكون لهم الشجاعة لإتمام النصف الاخر من البورقيبة التي كرست مبدأ الحكم الفردي.. والحزب الواحد.. ومعاداة الحريات والديمقراطية.. وهرسلة المعارضين ..الذي بلغ حد التصفية الجسدية.. فمن اراد ان يتحدث عن البورقيبية فليتحدث عنها بشمولية ولتكن له الجرأة في كشف مربعاتها السوداء.. فهي كل لا تتجزأ.. فهي تاريخ أو جزء منه.. والتاريخ لا يجوز قراءته بانتقاء…
كان أولى بهم اليوم أن يستحيوا على أنفسهم و يكفوا عن المبالغة في العويل المصطنع و المتصنّع.
فمجانية واجبارية التعليم و الانتعاش الاجتماعي وبناء مؤسسات مجتمع الدولة المستقلة.. كلها واجبات الدولة المستقلة ومجهود مشترك بين كل التونسيين وليس منة من أحد مهما علا شأنه.. فلو لم يكن بورقيبة لكان غيره بنفس الحماس وبنفس العقلية ولنفس الاهداف دون ان نستنقص من رموز الوطنية أو نبخس اعمالهم في سبيل الوطن..
فالمشكلة إذن، ليست مع الأموات فمن قضى نحبه، فأمره إلى خالقه، وإنما مع أولائك الذين نراهم اليوم يسيلون دموع التماسيح والنفاق على بورقيبة في مناسبة وغير مناسبة؛ طمعا منهم في استغلال ” الباتيندة” لعلهم يكسبون بها ما فاتهم من منافع.. أو نكاية منهم في خصومهم وخصوم بورقيبة السياسيين، (المبالغين هم كذلك في الجحود و القراءة العدمّية لتاريخ تونس الحديث حتى يُخيّل للذي لا يعرف الرجل وتاريخه، بأنه لم يُخلق ألا للقضاء على الهوية التونسية ومحاربة الدين والعروبة…)هؤلاء مازالوا لم يفهموا أن هذه العقلية المتزلفة الركيكة قد تجاوزها الزمن.. بورقيبة نفسه قد تجاوزه الزمن وهو في الحكم، يوم تمسّك بالكرسي إلى النهاية حتى خارت قواه..
فخارت مؤسسات الدولة معه وأصبحت مرتعا للوصوليين والمغامرين وحوضا وحياضا للانتهازيين .. لم يدرك بورقيبة بان زمنه قد انتهى منذ بداية عشرية السبعينات من القرن الماضي …
بورقيبة رجل دولة لا شك في ذلك، رجل له بُعد نظر وموضوعية في تحليل الواقع خاصة على مستوى السياسة الخارجية، لا شك في ذلك ايضا؛ بل التاريخ قد أنصفه في كثير من المحطات… لكنه للأسف رغم ذلك لم يكن موضوعيا في استشراف نهايته في الحكم.. .
لقد كان بورقيبة غربي الثقافة فكرا، وشرقي السلوك ممارسة للحكم.. فرغم عقليته المدنيّة، لم يستثمر للتونسيين في الحريات والديمقراطيّة ومبدأ التداول على الشأن العام.
فما تعيشه تونس منذ عقود من الزمن، ما هو إلا نتيجة عدم إدراكه لتخلّفه عن الزمن ومتطلبات المستقبل للأجيال التي لم تعرف الاستعمار ولكنها تنظر بطموح بالغ إلى ما يدور حولها في العالم المتطور..
فهناك فرق شاسع بين الجيل أو الأجيال التي عاشت معه بؤس المستعمر، الذين كانوا يرون أن كل ما جاءت به دولة الاستقلال هو كثير ومقنع مقارنة على ما كانوا يعيشونه أيام الاستعمار.. وبين أجيال لم تعش هذا الماضي البائس.. وبالتالي المقارنة عندهم بين الموجود والمنشود..
تكون بين ما وفرته الدولة الوطنية، وما هو متوفر لدى الشعوب الأخرى في بلدان العالم المتقدم.. وأن طموحات هذه الاجيال في نمط العيش، قد تختلف تماما عن إسلافهم قطعا.. وهي سنة الله في خلقه.فليت هؤلاء يستوعبون دروس التاريخ ويبحثون عن أنجع السبل للمحافظة على المكاسب الوطنية التي تحققت والنهوض بالبلاد نحو الأفضل، والحديث بإنصاف عن تاريخ رجال قدموا لتونس دون أن تكون لهم عصمة، فخلطوا عملا صالحا و آخر سيئا، عسى الله آن يتقبلهم بعفوه وكرمه.. بدل البكاء على الأطلال وإحياء تصرّفات ماض قد مجّها أغلب التونسيين لإمعانها في التزلف الكاذب وعبادة الشخصية والتغوّل باسم الحزب الواحد والزعيم الأوحد..
سلوكيات كانت سببا في تطرّف الكثرين من اليسار واليمين.. تطرّف وغلو حالا بين هؤلاء، وبين قراءة تاريخ الدولة الوطنية بأكثر موضوعية.