منوعات

الأعذار المعفية من العقوبة و الأعذار المخففة


بقلم: الدكتور جابر غنيمي
المساعد الأول لوكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد

  • الأعذار المعفية من العقوبة:
    يقوم الإعفاء من العقوبة على توفّر أسباب نصّ عليها القانون باعتبارها مانعة من العقاب، فهذا الإعفاء قرّره المشرّع في بعض الجرائم الهدف منه حثّ المجرم على مراجعة نفسه بنفسه واسترداده إلى ذاته للاعتراف بأخطائه وتجاوزها والتّشجيع على إصلاح الضّرر النّاتج عن الجريمة. فجاءت الأعذار الخاصّة منحصر في أسباب محدّدة تعكس اعتراف الجاني بجرمه ووعيه بخطورة فعله خاصّة أن المشرّع حصر انطباق هذه الأعذار على جرائم مخصوصة، لدقّتها وخطورة وقعها على الأمن العامّ، فشجّع الجاني على كشف المجرمين وإرشاد السّلطات إلى القائمين بالعمل الإجرامي أو المساهمين فيه ويكون ذلك عبر الإخبار:
    يقصد بالأخبار تبليغ السّلطة العامّة عن وقوع الجريمة والإشارة إلى مرتكبها بغية تتبّعهم والقبض عليهم لمحاكمتهم ممّا يكشف عن ضآلة الخطورة الإجراميّة لدى الجاني ومدى قابليّة نفسيّته للإصلاح والرّجوع إلى الجادّة.
    وقد حدّدت الجرائم التي يعفى من عقوبتها الجاني بموجب الأخبار على وجه الحصر وهي جرائم نصّت عليها المجلة الجزائيّة وأخرى وردت في قوانين خاصّة تتمحور حول الأخبار عن جرائم الاعتداء على أمن الدّولة هو موضوع الفصل 80 م ج “يعفى من العقوبات المستوجبة لمرتكبي الاعتداءات على أمن الدّولة…”.
    كذلك شمل جرائم الاعتداء على الأموال من خلال الفصل 143 م ج الذي نصّ على خصوصيّة تكوين شركات للإجرام والاحتيال والفصل 192 م ج الذي اهتمّ بجرائم التّدليس والتزوير.
    أمّا الفصل 93 م ج فقد اهتمّ بجرائم الارتشاء وأهميّة إثبات المرتشي لهذه الجريمة لإعفائه من العقاب وأخيرا الفصل 234 م ج فقرة ثانية ويتعلّق بالإخبار عن جريمة إسقاط جنين والتي تمثّل جنحة لا يعاقب الطّبيب على إفشاءها، كما تعرّض القانون عدد 75 لسنة 2003 المتعلّق بالجرائم الإرهابيّة إلى الإخبار كعذر يستوجب الإعفاء نصّ عليه ضمن الفصل 26 والذي جاء فيه “يعفى من العقوبات المستوجبة من بادر من المنتمين لوفاق أو لتنظيم أو من كان له مشروع فردي يهدف إلى ارتكاب إحدى الجرائم الإرهابيّة بإبلاغ السّلط ذات النّظر بالإرشادات أو معلومات مكّنت من اكتشاف الجريمة وتفادي تنفيذها…” فالإخبار والإرشاد يمكّنان الجاني من التّكفير عن خطئه ممّا يبرز إنصلاحه من تلقاء نفسه واضمحلال الخطورة التي يمثّلها على المجتمع فكافأه المشرّع بإعفائه من العقوبة ولا تنحصر الأعذار المعفيّة في الإخبار بل تتجاوزها إلى :
    الرجوع عن شهادة الزّور هو موضوع كلّ من الفصلين 242 و243 م ج ففي هذا الرّجوع إثبات عن ندم واعتراف بالخطأ المرتكب وبالتالي صحوة لشخصية الجاني.
    والمشرع حدّد شروط للتّمتّع بهذه الآليّة وهي أن يكون الإخبار أو الرّجوع في الشّهادة تلقائيّا قائما على وعي من المجرم بخطئه وإقرارا به، كما يجب أن يستفيق الجاني ويصلح خطأه قبل وقوعه أو قبل قيام التتبّعات، إلاّ فيما يتعلق بجريمة تزوير العملة في جريمة مستمرّة.
    وقد رأي المشرّع أنّ إعفاء الجاني من العقوبة لا يعني انتفاء للجريمة التي تبقى قائمة وتسجّل بسجلّه العدلي لمحاسبة المجرم على أفعاله في حالة إقدامه على ارتكاب جرائم مستقبليّة، يعتدّ بها القانون في تقدير العقوبة والشّكل الذي تكون عليه.
    يستفاد ممّا سبق بسطه أنّ المشرّع استند إلى تطوّر شخصيّة الجاني وإفصاحه عن جرمه لإعفائه من العقوبة في صور محدّدة، وقد تدعّم هذا المنهج في فرنسا حيث يسند الإعفاء من العقاب للمحكمة في مادّتي المخالفات والجنح متى ثبت لديها أنّ الجاني قابل للإصلاح، وأنّ الضّرر الحاصل من الجريمة قد وقع جبره، وهو إجراء فاعل حبّذ لو يقع تبنّيه من مشرّعنا.
    وامتدّت هذه الأعذار لتطبّق على الطّفل عبر تكريس نزعة التّجريم في الجرائم التي ارتكبها واقتناع المشرّع بضرورة تفريد العقوبة جعله يضع أكثر من آليّة لتحقيق الملاءمة ومراعاة شخصيّة الجاني خاصّة إذا كان لا يمثّل خطرا على المجتمع بإقرار اعتماد آليّة التّخفيف إذا ما توفّرت شروطها وأعذارها القانونيّة والتي حدد منها صورا مخصوصة.
    ب- الأعذار المخفّفة من العقوبة:
    أسباب التّخفيف هي الأسباب التي تلطّف من العقوبة إذ ينص القانون أحيانا على أعذار معيّنة توجب تخفيض العقوبة لملاءمة شخصيّة المجرم الذي قام بالفعل، تتمثّل في :
  • صغر السنّ كعذر مخفّف :
    عذر صغر السنّ هو عذر قانوني يفسّر بحداثة سنّ الطفل وعدم قدرته على تحمّل العقوبات المحدّدة للرّشد، ممّا يلزم تلطيف الجزاء المقرّر له حتى يكون متناسبا مع سنّه.
    فوضع المشرع عقوبات مخفّفة تراعي سنّ المجرم لميّز الطّفل كغيره من التّشاريع الأخرى بأحكام خاصّة من حيث المسؤوليّة والعقاب لما تستوجب شخصيّته من وقاية وإصلاح فهو شخص زلّت به القدم في عالم الانحراف نتيجة لوضع اجتماعي أو نفسي يعيشه.
    وقد اعتمد المعيار البيولوجي لتحديد المسؤوليّة فتطوّر نموّه العقلي والجسدي والنّفسي يحدّد مدى قدرة الطّفل على التّمييز والإدراك لنتعرّض إلى 3 مراحل :
  • مرحلة انعدام التمييز :
    تتميز هذه المرحلة بانعدام التميز تماما مما بنفي عنه المسؤولية وتطبق عليه التدابير التربويّة وحددت هذه المرحلة من الولادة إلى حين بلوغ سن السابعة.
  • مرحلة نقص التّمييز :
    حدّدها أغلب الفقهاء من السّابعة حتّى سنّ الخامسة عشر عاما، وهي مرحلة اكتمال التّغيّرات البيولوجيّة، كما يقرّ بعضهم أنّها تمتدّ إلى الثّامنة عشر ويبرّر المختصّون أنّ الإنسان في سنّ الثّامنة عشر عاما وهو السنّ القانونيّة التي تنتهي فيها مرحلة الطّفولة قد يكتمل نضجه الفيزيولوجي والبسيكولوجي والاجتماعي.
  • مرحلة اكتمال التّمييز :
    تبدأ من سنّ البلوغ وفي هذه المرحلة يبرز فيها الطّفل كإنسان راشد بالمظهر والتّصرّفات يتحمّل مسؤوليّة كاملة عن كلّ الجرائم التي ترتكب لتمتّعه بالقدرة على التّمييز وإدراك أفعاله.
    شاءت إرادة المشرّع تجنيب الأطفال المنحرفين في مثل تلك السّنّ صرامة العقوبات الجزائيّة وتخفيفا على أبدانهم من وقعها، حدّد سنّا أدنى للمسؤوليّة وسنّا قصوى يفقد على إثرهما المجرم صفة الحدث، إذ يمكن القول أن الطّفل هو علّة العذر لخصوصيّة شخصيّته وعدم تأصّل النّوازع الإجراميّة فيه وإنّما هي نتاج لعوامل خارجيّة أثرت فيه بطريقة أو بأخرى. تتجاوز الأعذار المخفّفة من العقاب عذر صغر السّنّ الذي يعتبر عذرا هامّا ينسحب على جميع الجرائم التي يكون المجرم فيما حدثا، لتشمل أعذارا خاصّة تهمّ جرائم محدّدة.
  • الأعذار الخاصّة الموجبة للتّخفيف :
    قام المشرّع بالتّنصيص على جملة من الأعذار الخاصّة المخفّفة من العقاب والتي ينحصر تطبيقها على جرائم معيّنة أي أنّها محدّدة سلفا، وقد وردت على سبيل الحصر سواء بالمجلّة الجزائيّة أو في القانون المتعلّق بمكافحة الإرهاب ومن خصائص هذه الأعذار أنّها تسند طابعا تخفيفيّ وجوبيّ على العقوبات الأصليّة، كما أنّها أعذار تراعي شخصيّة القائم بها ونفسيّته ومدى قدرته على الإنصلاح والحدّ من النّوازع الإجراميّة الكامنة فيه وتتمّثل هذه الأعذار في :
    إقرار المشرّع تخفيف العقوبات على من يأخذ عملة مزيفة عن حسن نيّة ثمّ يكتشف عيوبها بنفسه أو بواسطة ويدفعها للتّداول عن سوء نيّة على أساس أنّها صحيحة وهو موضوع الفصل 191 م ج والأخذ بهذا العذر مردّه محدوديّة الخطورة الإجراميّة مقارنة بغيره من مروّجي العملة فحدّد المشرّع العقوبة بالخطيّة دون السّجن والتي تساوي ستّة مرات قيمة القطع التي أرجعها للتّداول.
    كما نصّ الفصلين 211 و214 م ج المتعلّقين بجريمة قتل الأمّ لمولودها وإسقاطها لحملها ويفسّر إسناد ظرف التّخفيف مراعاة لحالتها النّفسيّة في تلك الآونة وعدم توازنها سواء أمام الفضيحة أو السّبب القاهر الذي دفعها لارتكاب مثل هذا الفعل.
    فخصّ الأمّ التي تسقط حملها بعقوبة لمدّة عامين فقط في حين أقرّ عقابا لغيرها يصل إلى السّجن مدّة خمسة أعوام، أمّا الأمّ القاتلة لمولودها خصّها بعقوبة سجنيّة مدّتها عشرة أعوام عوضا عن الإعدام أو السّجن المؤبّد.
    فالإقدام على ارتكاب مثل هذا الفعل يبرّز الخلل النّفسي الذي ألمّ بالأمّ والمشرّع أمن بوضعيّتها وبحالتها النّفسيّة واعتبره تبريرا لتخفيف الحكم عليها.
    كما أقر قانون 10 ديسمبر 2003 في فصليه 27 و28 اعتماد التّخفيف من العقوبة إذا توفرت الأعذار التي نصّ عليها الفصلين والمتمثلة في الاعتراف والإفصاح عن معلومات من شأنها وضع حد لأعمال إرهابيّة أو ثبوت المشاركة في الجرائم الإرهابيّة.
    برز أنّ المشرّع سعى في ظلّ السّياسة الحديثة ونسجا على منوال القوانين المقارنة للنّظر إلى المجرم في المرتبة الأولى، آخذا بتطور شخصيّته وتراجع نوازعه الإجراميّة لمكافئته بآليّة الإعفاء أو التّخفيف من العقوبة لكنّ هذا لا ينفي أهميّة ردع المجرم الذي تأصّلت فيه النّوازع الإجراميّة والذي وجب تشديد العقوبة عليه لردعه وإصلاحه ليعود فردا صالحا غير مضر بالمجتمع ككلّ.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى