الإيجار في تونس… الاتجار العقاري يضرب الاستثمار ويهدد الاستقرار الاجتماعي

شمس اليوم
لم يعد غلاء الإيجار في تونس أزمة ظرفية أو خللًا محصورًا في أحياء بعينها، بل تحوّل إلى ظاهرة وطنية شاملة تضرب كل الولايات دون استثناء. فبين ارتفاع الأسعار، وفوضى السمسرة، وغياب الرقابة، أصبح الإيجار عامل خنق مباشر للاستثمار، ومصدر تهديد حقيقي للاستقرار الاجتماعي، ودافعًا متزايدًا لهجرة الكفاءات ورؤوس الأموال.
غلاء يعمّ البلاد… لا استثناء جغرافي
من البحيرة 1 و2 حيث يتجاوز سعر المتر المربع أحيانًا 300 دينار، إلى صفاقس وسوسة والقيروان وجندوبة وسيدي بوزيد، تتكرر المعضلة نفسها:
-
مؤسسات عاجزة عن تحمّل كلفة الإيجار.
-
مشاريع ناشئة تُلغى قبل الانطلاق.
-
مواطن يدفع أضعاف دخله من أجل مسكن أو محل لا يعكس قيمته الحقيقية.
هذا الغلاء لم يعد مرتبطًا بجودة البناء أو بالموقع، بل تحكمه المضاربة والطلب المصطنع، في غياب أي تقييم فني جدي للمباني أو سياسة وطنية واضحة لتنظيم السوق.
سمسرة بلا ضوابط… ومن يدفع الثمن؟
أحد أخطر أوجه الأزمة يتمثل في الانتشار الواسع للسمسرة غير المنصفة. فالمكتري، سواء كان مواطنًا أو مؤسسة، يدفع في كثير من الحالات أضعاف ما يصرّح به صاحب العقار لدى المصالح الجبائية، بينما تتحوّل الدولة إلى متفرّج في سوق تُدار خارج أي رقابة فعلية.
السماسرة والمضاربون أصبحوا فاعلين أساسيين في تحديد الأسعار، دون مسؤولية قانونية أو اجتماعية، ما حوّل العقار إلى أداة استنزاف بدل أن يكون رافعة للتنمية.
ضربة مباشرة للاستثمار والنمو
هذه الفوضى العقارية انعكست سلبًا على المشهد الاقتصادي من خلال:
-
إغلاق مؤسسات صغرى ومتوسطة.
-
عزوف الشباب عن بعث المشاريع.
-
تعطّل الاستثمار المحلي والأجنبي.
-
تسارع نسق الهجرة، بعدما أصبح الاستقرار المعيشي والمهني حلمًا بعيد المنال.
وهنا لا تخسر تونس فقط مشاريع أو مداخيل، بل تخسر مواردها البشرية، وهي أخطر خسارة يمكن أن تتكبّدها أي دولة.
أين الدولة؟ وأين السياسات العمومية؟
رغم امتلاك الدولة لعقارات وأراضٍ غير مستغلة، ورغم الخطاب الرسمي الداعي إلى تشجيع الاستثمار، لا تزال سوق الإيجار تُترك للفوضى. لا تسقيف للأسعار، لا آليات تقييم شفافة، ولا رؤية وطنية للسكن والإيجار التجاري، في وقت تتعمّق فيه الأزمة الاجتماعية.
حلّ الإيجار المُملّك ومراقبة السوق: نحو عدالة سكنية واقتصادية
في هذا السياق، تطرح صحيفة شمس اليوم جملة من الحلول العملية، في مقدّمتها التوجّه نحو منظومة الإيجار المُملّك، التي تمكّن المواطنين والمؤسسات من استغلال العقارات مقابل أقساط شهرية معقولة تنتهي بالتمليك، بدل الإيجارات الاستنزافية التي تستهلك الدخل دون أن توفّر ملكية أو استقرارًا.
هذا الخيار من شأنه أن يحقق توازنًا حقيقيًا بين القدرة الشرائية للمواطن وحقوق المالك، ويمنح المؤسسات رؤية طويلة المدى، ويحوّل العقار من أداة مضاربة قصيرة الأمد إلى عنصر دعم للنشاط الاقتصادي المستدام.
وبالتوازي مع ذلك، لا يمكن لأي إصلاح أن ينجح دون مواجهة حازمة لفوضى السوق العقارية، عبر:
-
فرض مراقبة صارمة على نشاط السماسرة والمضاربين.
-
إطلاق حملات دورية للتثبّت من عقود الكراء والأسعار المعتمدة فعليًا.
-
تعميم الرقمنة في تسجيل العقود وربطها آليًا بالتصريح الجبائي.
-
مراجعة وتحيين القوانين العقارية بما ينسجم مع متطلبات المرحلة الاقتصادية والاجتماعية.
لا يمكن تحقيق عدالة اجتماعية ولا استقرار اقتصادي في تونس دون إصلاح جذري وشجاع لسوق الإيجار. فالحل لا يكمن في تشخيص الأزمة فقط، بل في إرادة سياسية واضحة تخوض معركة الإصلاح من بوابة القانون، مرورًا بالرقابة الفعلية، وصولًا إلى رؤية تجعل من السكن والعمل حقًا مضمونًا لا امتيازًا خاضعًا للمضاربة والاحتكار.










