الهجرة المباركة

بقلم
أ.د/ عصام محمد عبد القادر
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر
ماهية الاستخلاف على الأرض، تقوم على انعقاد النوايا تجاه إعمار مستدام، وعطاء لا محدود يغرس في أرجاء المعمورة الخير، الذي يجني ثمرة البشرية جمعاء؛ حيث يتبدد الظلام، وتشرق الأنوار، التي تضيء الطرق أمام كل من ينتوي أن يعتلي سبيل الكفاح؛ ليحقق الأهداف التي تتسق مع صحيح المعتقد، وهنا نوقن أن البدايات، التي تقوّم تصحيح لمسار ليست بالسهلة؛ لكنها تحتاج دومًا لصبر جميل، ومثابرة، وعمل، وصدق، وتوكل على الله.
نستلهم الدروس، والعبر من الهجرة المباركة، التي تجدد فينا الأمل تجاه نصرة الله – تعالى – للحق، وتأييد مسيرة التنمية، التي تقوم على الجهود المضنية، والمتواصلة؛ فتتعالى الآمال، والطموحات، التي تفتح لنا طرائق جديدة، نركض فيها نحو تدشين مشروعات وطنية، تجعلنا قادرين على الإنتاج؛ ومن ثم نتمكن من استثمار ما لدينا من طاقات بشرية؛ لتحدث نقلات نوعية في صورة المعيشة الكريمة؛ فنصون الكرامة، ونتمسك بالعهد، ونفي بالوعد.
هجرة كل ما من شأنه أن يفرق المجتمع، وما يقوّض مسيرة النهضة نتيجة أفكار تشوب العقيدة، وتعكر صفو الوطنية، وتجعل قوى الشر تزداد هيمنة، وقوة، وسيطرة على الساحة، كل هذا يؤكد ضرورة الهجرة، بل، يجعلنا نتمسك بقائدها الملهم؛ لنسترشد بنور الهداية، التي نتلمسها من فيض نور الأعمال، ونغم الكلمات الخالدة، التي نستمد منها اليقين؛ كي نتحمل الصعاب من أجل أن نبني الوطن، الذي نعيش على مهد أرضه بأمن، وأمان؛ ومن ثم يستقر في قلوبنا؛ فنزود عنه بأغلى ما نملك من نفس، ومال دون تردد.
ذكرى الهجرة المباركة نتدارك من أحداثها أهمية سيناريوهات التخطيط لوضع لبنات الوطن، الذي يحتاج إلى تضافر، وتكاتف، وتضحيات كبرى؛ فعندما خرج نبينا عليه أفضل الصلاة، والسلام من مكة المكرمة قاصدًا المدينة المنورة، نظر إلى موطنه، وقال كلمته الخالدة في الوجدان “وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ”. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
لكن مشيئة الله- تعالى- قضت أن يمضي الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- في طريقة؛ ليعلمنا كيف نبني الأوطان؟ في خضمّ عقيدة سمحة، تجمع ولا تفرق، وتحمي، وتصون وتدحر صور الخيانة، وتجعل من العمل، والعزيمة، وبذل الجهود أدوات للبناء؛ فلا مكان للتواكل، ولا مساحة للهوان، والضعف، والاستسلام؛ فمن قِبل المحن تتوالد المنح؛ ومن ثم تتقدم المسيرة في اتجاه محمود رأته الأعين بقين؛ فنهضت الدولة الإسلامية في ظل مدرسة النبوة، التي عزّزت في النفوس قيما نبيلة، ومبادئ رسّخت أسس البناء، والتطوير، والحماية، والصيانة لمقدرات الوطن، بل، وطموح التوسع المشروع؛ بغية شمولية الدعوة لدين يملأ أرجاء المعمورة ضياءً، ونورًا، وهداية، وتسامحا، وسماحة.
زاد اليقين لدينا من ذكرى الهجرة تجاه ضرورة إعمال العقل في خضم هداية النفس؛ لنتمكن من تنظيم أمور الدولة الجديدة؛ فقد أدرك الجميع أن لكل فرد دور يقوم به على أكمل وجه، وأن يخلص النية، ويضع نُصْب عينيه أن الله – تعالى – مُطَّلع عليه؛ فتزداد لديه الرقابة الذاتية، ويكبح النفس الأمَّارة بالسُّوء، ويمنح النفس اللوامة فرصة القيادة؛ ليصبح الإنسان منا ماضيًا في سلم، وسلام، وطمأنينة في طريق الخير، لا يخشى النوازل، ولا تُوقفه كثرة الأشواك، التي يلقيها أصحاب المآرب أمامه؛ فيثابر من أجل تحقيق النصر المبين، الذى وعد به رب العباد من فوق سبع سماوات.
تعلمنا من الهجرة المباركة أن بناء الأوطان له ضريبة يدفعها المخلصون، وأصحاب القيم النبيلة، ومن يمتلك يقين العقيدة السَّمحاء، ومن يدرك أن الجهاد له تبعات، و تضحيات غير محدودة؛ ومن ثم يصبح العطاء المستدام السبيل الوحيد في رفع راية الأوطان، ونعي أن حرية الأوطان لها أثمان، كونها تورث في النفوس العزة، والكرامة، وتمنح الإنسانية الحرية المسئولية التي تجعلنا نحافظ بها على تراب الوطن، وندافع عنه في خضمّ ما ترّسخ في الأذهان من ماهية الولاء، والانتماء؛ ليصبح الوطن الملاذ الضامن؛ لتحقيق الاستقرار، والأمان؛ إذ يصعب أن يحقق الإنسان رسالته السامية، بعيدًا في ظل آمن يستظل به؛ فيبيت في سربه شاعرًا بالسكينة والطمأنينة.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.