مراجعة فيلم «زنقة مالقة – Calle Malaga» لمريم توزاني: ذاكرة تقاوم المحو

يعود فيلم «زنقة مالقة – Calle Malaga» للمخرجة المغربية مريم توزاني، المشارك في «المسابقة الدولية» لمهرجان القاهرة السينمائي والمرشّح لتمثيل المغرب في أوسكار 2026، ليقدّم تجربة سينمائية حميمية تنبض بالدراما والكوميديا الإنسانية، وتطرح أسئلة عميقة حول الذاكرة والهوية والزمن والشيخوخة.
ذاكرة امرأة تقف عند تخوم الفقد
ينطلق الفيلم من قصة بسيطة ظاهريًا: ماريا أنجيلا، امرأة مسنّة تجد نفسها أمام قرار ابنتها ببيع المنزل الذي احتضن حياتها بكامل تفاصيلها. غير أن توزاني تحول هذا الصراع التقليدي إلى رحلة تأملية، تتقاطع فيها الهويات وتتواجه الأجيال، وتُستعاد فيها الذات في مرحلة يُنظر إليها عادة على أنها نهاية الطريق.
لا يظهر المنزل كمساحة مادية فحسب، بل كامتداد لروح ماريا وسيرة عمرها؛ فكل قطعة أثاث، وكل صورة وثريا ومشغل أسطوانات، تتحوّل إلى شواهد على وجودها. ومن هنا يصبح قرار البيع فعلًا أقرب إلى محو ذاكرة كاملة، لا مجرّد إجراء عقاري.
صراع الأجيال: من يكتب السردية؟
تنسج توزاني علاقة معقدة بين ماريا وابنتها كلارا دون الوقوع في فخ الميلودراما. تمثّل ماريا الذاكرة المتجذرة في المكان، بينما ترى كلارا أن البيت ملكية يمكن التخلي عنها. وتطرح المخرجة، من خلال هذا التوتر، سؤالًا وجوديًا:
هل يملك الجيل الجديد حق إعادة كتابة الحكاية؟ أم أن التجربة المعاشة تظل صاحبة الشرعية الأقوى؟
بين الدراما والكوميديا الإنسانية
يمرّ الفيلم بانسيابية من الدراما المؤلمة إلى الكوميديا اللطيفة، خاصة في مشاهد هروب ماريا من دار المسنين، أو رفضها قصّ شعرها، أو مواجهاتها الطريفة مع أختها الراهبة. هذه اللمسات تخفف ثقل الموضوع وتمنحه دفئًا إنسانيًا، وإن كانت في بعض اللحظات تُضعف حدّة الصراع الدرامي.
الشيخوخة كمساحة للمقاومة والاكتشاف
تعرض توزاني شخصية ماريا كامرأة تستعيد رغبتها الجسدية وتعيد اكتشاف ذاتها رغم السبعين عامًا التي تحملها على كتفيها. الجسد هنا ليس علامة انطفاء، بل وسيلة للتمسك بالحياة ومقاومة العزلة.
إنه طرح جريء ونادر في السينما العربية، يضيء مرحلة غالبًا ما يُنظر إليها بنظرة اختزالية أو رومانسية زائفة.
طنجة… مدينة تتحول إلى شخصية
تظهر طنجة في الفيلم ليس كمكان، بل كـ”حضور” يتنفس داخل السرد:
شوارعها، ضوء البحر، الأزقة الحجرية، أصوات الباعة… كلها تتحول إلى مرآة لداخل ماريا، وإلى فضاء لهويات متعددة احتضنت الإسبان واليهود والفرنسيين.
وبذلك يصير الانتماء في الفيلم وجوديًا، لا قوميًّا.
أداء تمثيلي وصورة سينمائية آسرة
تقدّم كارمن مورا واحدًا من أنضج أدوارها، مجسّدة طيفًا واسعًا من المشاعر:
الدهشة، الغضب، الهشاشة، الرغبة، والانكسار.
كما يمنح التصوير السينمائي لفيرجيني سورديج الفيلم ملمسًا بصريًا غنيًا، يحوّل التفاصيل الصغيرة إلى عناصر دلالية تكثّف حالة التلاشي التي تعيشها البطلة.
خلاصة
«زنقة مالقة» ليس مجرد فيلم عن امرأة مسنّة تقاوم بيع منزلها، بل عمل عميق عن إنسان يخشى أن تُمحى ذاكرته أكثر مما يخشى الموت.
إنه فيلم عن الانتماء إلى الأماكن التي تصبح جزءًا من وجداننا، وعن زمنٍ لا يُقاس بالسنوات بل بما نحمله في داخلنا من قصص وصور وروائح.
عمل ناضج، حميمي، وشديد الصدق.











