منوعات
في المعنى البعيد لأم كلثوم

بقلم : سحر الزارعي
في ركنٍ هادئ من معرض أم كلثوم في قصر عائشة فهمي بالقاهرة، جلستُ وظهري للوحة، كأنني أترك العين لتستريح ويعمل القلب. خلفي وجهها المرسوم بالحنين، وأمامي المدينة التي تعرف كيف تحوّل الذاكرة إلى فنٍّ حيّ. لم أكن أنظر بقدر ما كنت أسمع، فالألوان كانت تغنّي، والظلال تتماوج على إيقاعٍ قديم، والقاعة كلّها بدت كأنها تتنفس من زمنٍ آخر، زمن الستّ الذي لم يغادرنا بعد.
تساءلت: أي أغنية كانت ترافق يد الرسّام وهو يخطّ ملامحها؟
هل كانت رق الحبيب؟ أم الأطلال؟
ثم جاءني صوتها من داخلي، صافيًا، كأنه يهمس بما لا يقال:
هذه الدنيا كتاب… وأنت فيه الفكر.
في تلك اللحظة، أدركت أن ما أمامي ليس لوحة، بل حوارٌ صامت بين الصوت واللون، بين الفنّ والوجدان، بين المرأة والفكرة. كانت أم كلثوم أمامي أكثر من أيقونة؛ كانت حضورًا ثقافيًا مكتمل الملامح، تجسيدًا للأنوثة حين تتجاوز الجسد لتصبح طاقة فكرية وجمالية، ومعنىً يُعيد تعريف الوعي العربي بالجمال.
أن أكون امرأة في حضرة أم كلثوم، يعني أن أكون شاهدة على الفنّ حين يتحوّل إلى وعي، وعلى الأنوثة حين تكتب وجودها بالصوت لا بالمظهر.
لقد جعلت من الغناء فكرًا، ومن الفنّ طريقًا إلى النضج، ومن حضورها مدرسة في الذوق والكرامة والاحترام.
منها نتعلّم أن الفنّ الحقيقي لا يُغري، بل يُنير وأن الجمال الذي يبقى هو ذاك الذي يترك أثره في الوعي قبل العين.
في قصرٍ يطلّ على النيل، وجدتُ أن القاهرة لا تزال تكتب نفسها بأغنية. كل جدار في المكان يحمل صدى زمنٍ لم يمت، وكل تفصيل يذكّر بأن الهوية الثقافية لا تُصان بالخطب، بل بالفنّ، وبالإيمان العميق بأن الجمال هو شكل من أشكال المقاومة ضد النسيان.
وهكذا تمضي يومياتي من القاهرة، حيث أنتمي بالذاكرة، وأنتعش بالفنّ، وأتعلّم من هذه المدينة أن الثقافة ليست حدثًا نحتفي به، بل نبضٌ نعيشه كل يوم. هنا، أكتب لأتذكّر… وأتذكّر لأبقى.










