منوعات

تدمير السردية الوطنية بالتضليل الفلسفي… قراءة في دور «القوات اللبنانية» المُقوِّض للدولة

حسين مرتضى 

*مقدمة: الخطاب السياسي اللبناني ـ عندما يتحوّل النقد إلى هدم ممنهج… في خضمّ الانهيار الشامل الذي يضرب لبنان، لم يعد الصراع السياسي مجرّد تنافس على السلطة، بل تحوّل إلى حرب سرديات هدفها إعادة رسم خريطة الوعي الوطني.

يُعدّ حزب “القوات اللبنانية” من أبرز اللاعبين في هذه الحرب، حيث يتبنّى خطاباً يُغلّفه بالمفاهيم الفلسفية الليبرالية والتاريخية، لكن جوهره يُخفي استراتيجية تهدف إلى تفكيك المكوّنات الوطنية التي لا تتفق مع رؤيته الأحادية.

إنّ ما يُقدَّم على أنه “طريق الخلاص” هو في الحقيقة مشروع لتأزيم الانقسام الطائفي والسياسي باسم الدولة، وهي مفارقة تستحق التحليل.

*أولاً: تفريغ الفلسفة من معناها: استخدام أدوات الفكر لشرعنة الانقساميُركّز الخطاب القواتي، كما يظهر في كتيّبات جهازه السياسي، على استحضار مفاهيم عميقة مثل “جدلية هيغل” و”نظرية التحدي والاستجابة” لتوينبي.

هذا المظهر الأكاديمي ليس سوى ستار لتبرير أجندة سياسية ضيّقة ومستقطبة. الأدلجة المُزيّفة: لا يُستخدَم الفكر الفلسفي للتحليل الموضوعي أو لبناء إطار وطني جامع، بل لإعادة إنتاج ثنائية “الخير والشر” بشكل فجّ.

القوات تُصوِّر نفسها باعتبارها “الخير” الذي يُمثّل الدولة الليبرالية، وتُصوِّر خصومها، وتحديداً المقاومة، باعتبارهم “الشرّ” الذي يجب اقتلاعه لتقوم الدولة..التسطيح المُتعمَّد: يتمّ اختزال تاريخ لبنان المعقّد في معادلة واحدة: “نزع السلاح هو مفتاح النهضة”.

هذا الاختزال يتجاهل سنوات من الاحتلال والعدوان الإسرائيلي، ويتجاهل الدور الأمني الرادع الذي لعبه هذا السلاح تاريخياً. إنه خطاب يُركّز على النتيجة (وجود السلاح) ويتغاضى عن الأسباب (التهديدات الخارجية وغياب الضمانات الأمنية)، ما يجعله خطاباً تحريضياً بامتياز.

بناء الجدار الأيديولوجي: الخطاب لا يدعو إلى الحوار بل إلى الاستسلام الأيديولوجي للرؤية القواتية.

إنه يحوّل مسألة الدفاع الوطني من نقاش استراتيجي إلى معركة وجودية تخدم مصالح طرف واحد، ما يساهم مباشرة في تقويض أيّ فرصة للتوافق الوطني.*ثانياً: الانتقاء التاريخي والتضليل: صناعة “بطل” القوات على أنقاض الذاكرة الوطنية…تعتمد القوات اللبنانية استراتيجية قراءة انتقائية مُشوِّهة للتاريخ، هدفها الأساسي تنصيب الحزب بصفة “بطل الدولة” وتحميل الآخرين كامل المسؤولية عن الانهيار.

التهرّب من المسؤولية البنيوية: يُحمّل خطاب القوات المقاومة مسؤولية الأزمات الاقتصادية والسياسية بشكل حصري تقريباً، مع إغفال تامّ لدور الطبقة السياسية الحاكمة ـ التي كانت القوات جزءاً أصيلاً منها ـ في الفساد المالي، وانهيار المنظومة المصرفية، واستنزاف موارد الدولة. هذا التحوير في المسؤوليات هو قمّة التضليل السياسي، إذ يتمّ التغطية على فشل إداري ومالي منهجي بـ”شماعة” السلاح.تمجيد الذات بانتقاء المراحل: يستحضر الخطاب فترات انتصارات جزئية (مثل خروج الجيش السوري عام 2005) ليُقدّمها كدليل على “انتصار الدولة على السلاح”، بينما يتجاهل عن عمد المراحل التي مثّل فيها سلاح المقاومة عامل قوة ردع أساسياً في مواجهة العدو الإسرائيلي، وخصوصاً بعد الانسحابات الأحادية من الجنوب اللبناني.شيطنة الخصم: بدلاً من النقد السياسي المشروع، يميل خطاب القوات إلى تجريد الخصم من شرعيته الوطنية ووصفه بأنه “خارج عن الدولة” بصورة مطلقة.

هذه اللغة الشيطانية تُعيق أيّ عملية سياسية بناءة وتُؤجج نيران الكراهية الطائفية، ما يُعد تقويضاً مباشراً للسلم الأهلي.*ثالثاً: نسف عقد التوازن اللبناني باسم “التحدي والاستجابة”…إنّ استيراد نظرية توينبي “التحدي والاستجابة” لتطبيقها على لبنان هو خطأ منهجي مقصود لغايات هدمية.تجاهل طبيعة لبنان التشاركية: لبنان بُني على مفهوم التوازن والميثاقية والتوافق بين مكوّناته.

إنّ الدعوة إلى “تحدٍّ” وجودي جديد ضدّ مكوّن لبناني أساسي وله وزنه الشعبي تحت مسمّى “قيام الدولة” هو في حقيقة الأمر دعوة لنسف عقد الشراكة الوطني الذي حفظ لبنان بعد الحرب الأهلية.إثارة الفتنة بعباءة الدولة: إنّ التركيز على إقصاء طرف بالقوة بدل العمل على دمجه وإيجاد حلول وطنية شاملة، يعني أنّ القوات تُفضّل تفعيل الأزمة على حلّها.

هذا التوظيف الانتقائي للنظريات الفلسفية يحوّل الفكر من أداة للفهم إلى أداة للتعبئة الطائفية والتحريض.

*خاتمة: استراتيجية الانقسام الدائمتُظهر دراسة خطاب “القوات اللبنانية” أنه ليس مجرّد حزب معارض، بل هو قوة تدير استراتيجية الانقسام الدائم في المشهد اللبناني.

فباستخدام الفلسفة كقناع والتضليل كأداة، تسعى القوات إلى تحقيق هدفين خطيرين:الإعفاء من المساءلة: تحويل الأنظار عن الفساد والانهيار البنيوي إلى معركة أيديولوجية حول السلاح.شرعنة الصراع الداخلي: استخدام شعار “الدولة” لتبرير الاستقطاب والتحريض المذهبي ضدّ مكوّنات وطنية أخرى.

إنّ الدور السلبي لحزب “القوات” يكمن في استنزاف الطاقة الوطنية في صراعات نظرية وتضليلية بدل توجيهها نحو الإصلاح الحقيقي وبناء التوافق.

إنّ قوة لبنان الحقيقية تكمن في قدرته على إدارة التنوع، لا في هيمنة طرف على آخر. والوعي النقدي وحده هو ما يمكنه تفكيك هذه السرديات المسمومة

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى