تاريخ الثورات في تونس: من العد إلى الغد

بقلم الصحفي فاروق خلفاوي
يسرني أن أضع أمام جمهور القراء نص مداخلتي التي قدمتها في إطار ندوة مشروع رؤية تونس 2040 بمناسبة التفكير في واقع الثورة التونسية ومستقبلها بين الموجود والمنشود بعد عشر سنوات من اندلاعها.
“السادة والسيدات الحضور إنّ تونس معروفة منذ القديم بأنّها قاصمة لظهور الجبّارين، لهذا قال أحد شعراء العصر الوسيط بإفريقية: “فــــكلّ جبار إذا ما طغى وكان في طغيانه يُـسرف أرسله الله إلى تونــــس فكل جبّار بها يُقصــف” فتونس بلد الثورات… وقد أخبرنا ابن عذاري المراكشي في كتابه “البيان المُغرب في أخبار الأندلس والمغرب” أنّ عدد الثورات بها في فترة ما بعد الفتح الإسلامي بلغ 375 ثورة وقد كان الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز سياسيا حكيما عندما فهم نفسية وشخصية الشعب التونسي الذي لا يفلح معه المشروع العسكري ولا الخطط السياسية لإخضاعه أو لإصلاحه وإنما ينفع معه فقط الحوار لذلك راهن على إصلاح تونس بواسطة مشروع علمي تعليمي، تمثّل فيما يُعرف ببعثة الفقهاء العشرة، الذين سيُراهنون على تكوين أجيال جديدة من السكان المحليين يتولون بدورهم تغيير مجتمعهم من الداخل، وهذا الأمر وهذه التربية تطلب الصبر والزمن الطويل… ي
عني العقود أي عشرات السنوات لبلوغ النتائج… ومن يُريد أن يتعرّف على تاريخ الثورات في تونس… فستطول مطالعاته… لأنّ تونس معروفة منذ القديم بكثرة ثوراتها…
وبشكل سريع سأحدثكم عن ثورات تونس التي يجهلها الكثير منّا للأسف: ثورات فترة ما قبل ميلاد المسيح: منذ تاريخ ما قبل ميلاد المسيح وتونس تعيش الثورات المتلاحقة، بين 240ـ237 ق.م فيما يعرف بثورة المرتزقة واللّوبيين على قرطاج والتي انتهت بانتصار عبد ملقرط البرقي ونجاحه في قمعها لماذا هذه الثورات؟ لأنّ القرطاجيين عاملوا السكّان الأفارقة بقسوة بعد انتهاء حربهم مع روما حول “صقلّية” بإمضاء معاهدة سلم سنة 241 ق.م حيث ضاعفوا مقادير الإتاوات وافتكّوا محاصيل الزراعة فثار في وجههم السكّان وكادوا يقتلعون وجودهم من أصله على أرض تونس. ثورات ما بعد المسيح بتونس: للأسف نحن لا نعرف من أشهر الثائرين على روما إلا سبارتكيس الذي جسدته السينما الغربية في أفلام ومسلسلات…
لكننا نجهل بطلا تونسيا عظيما ثار على روما هو تاكفريناس الذي ثار على الإمبراطورية الرومانية في تونس (من 17 إلى 24 م)، وهو بطل نوميدي عمل بالجيش الروماني ثم انشقّ عنه جامعا حوله الصعاليك الذين درّبهم ونظّمهم بشكل عسكري وقادهم للثورة على الرومان مستعينا في ذلك بقبائل “الموزولاميين” الرّحل من مناطق الكاف وحيدرة وتبسّة وانضمّ إليه قائد أخر هو “مازييان” الذي قاد “الماويين” الذين اختصوا في النهب والحرق وترويع الجيش الروماني والتحق بهما “القينيتون” (القاطنون بأرياف خليج قابس) وقبائل “القرامنتاس”. وانتهت هذه الثورة المجيدة بانتهاء قائدها “تاكفاريناس” الذي ظفر به أعداؤه الرومان واغتالوه عام 24م. ومنذ عام 533م تلاحقت ثورات البربر الذين تعاظم نفوذهم خلال الحكم البيزنطي بعد أن حاول “أكتافيوس” الملقّب بـ”أغسطوس” إضعافهم من خلال إقصائهم عن أراضيهم الخصبة منذ عام 29 ق م.
أما عن أشهر ثورات العهد العربي الإسلامي بتونس: فهي سلسلة من الثورات في عهد الولات ثم خلال العهد الأغلبي الذي شهد ثورات غريبة من بينها: ثورة العبيد السودان… أي ثورة اجتماعية لطبقة الحرس الرئاسي بلغة اليوم، لأنهم محقورون. وثورة الدراهم… أي ثورة اقتصادية… قام بها التجّار ضد الإصلاحات المالية للأمير التي تضرّروا منها.
واندلعت في العهد الفاطمي: ثورة الخوارج بقيادة أبي يزيد صاحب الحمار (من 935م – 946م) … وهي ثورة اقتصادية ضد كثرة أنواع الجباية التي سلطها الفاطميون على سكانهم. وخلال مرحلة الحكم العثماني لتونس ظهرت في تونس عام 1591م ثورة “الدايات” (ضبّاط أتراك )على “البوكباشيين” وهم ضبّاط أتراك أعلى درجة من الدايات) بما أسّس لفترة الشورى العسكرية أي الحكم العسكري الجماعي على أسس النقاش والتفاهم والوفاق.
وتواصلت الثورات بين الأمراء والقادة وكان الشعب في هذه الحالات وقودها لعديد الاعتبارات التي يطول شرحها وليس المجال لطرحها ونذكر ثورة الأخوين محمد وعلي إبني مراد الثالث (1675 م ـ 1686م) وثورة علي باشا (1728 م ـ 1729م) التي تحوّلت لاحقا إلى حرب أهلية بين علي باشا بتونس العاصمة وحسين بن علي بالقيروان. وانطلقت عام 1759 م شرارة ثورة جبل “وسلات” بقيادة إسماعيل حفيد علي باشا وتواصلت إلى سنة 1762م. وعادت الثورات الشعبية سنة 1864 م مع ثورة علي بن غذاهم الذي قاد انتفاضة القبائل على الحـكم الجائر للبايات لاسيما بعد فرضهم لسياسة جبائيّة مجحفة لا تتماشى والوضع المزري للشعب.
وانطلقت عام 1881 م ثورة قبائل الجنوب والوسط بقيادة علي بن خليفة النفاتي، ضد الاستعمار الفرنسي إبان انتصاب الحماية في تونس. ولا ننسى الثورة الشعبية العارمة لسنة 1952، وهي الثورة التي هزّت عرشا الاستعمار الفرنسي في تونس، ومهدت لاستقلال تونس، وقد تمّ تأليف عشرات الكتب عنها، وكتبت عنها الصحافة العالمية وقتها، ووصلت أخبارها إلى مقرّ الأمم المتحدة بأمريكا، وأربكت الموقف الفرنسي وقادت إلى حصول تونس على استقلالها الذاتي. وانتهاء بثورة 17 ديسمبر 2010-14 جانفي 2020،…
= الخلاصة هذه الثورة الأخيرة التي نعيشها اليوم ولدت من رحم واحد لسلسة الثورات التونسية القديمة، فالذاكرة واحدة والتاريخ واحد، وحتى حماقة الحكّام واحدة وتكرار أخطائهم واحد…
لقد اختلفت وجهات نظر التونسيين إلى الثورة: بعضهم يراها مباركة وأخرجتنا من ظلمات الاستبداد والدكتاتورية إلى نور الحرية والديمقراطية وبعضهم يرى أنّ الثورة هي أنثى الثور، بمعنى حدث عقيم لا خير فيه ومن ناحيتي أرى أنّها مرحلة جديدة وواقع وطني يجب أن نعالجه بحكمة لنحقق النتائج الإيجابية المرجوة منه، ونتجنّب المساوئ والأخطاء السابقة