سقوط العقاب بمرور الزمن
سقوط العقاب بمرور الزمن
بقلم: الدكتور جابر غنيمي
المساعد الأول لوكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد
مدرس جامعي
إن المبدأ الأساسي في سقوط العقوبة هو إنقضاؤها بموجب تنفيذها فهي شرعت وسلطت لتنفذ على المحكوم عليه لتحقق مرادها في صدّ الفعل الإجرامي و تحقيق الردع بشقيه العام و الخاص.
و طالما كان لكل مبدأ إستثناء فإن سقوط العقاب لا يشذ عن هذه القاعدة و بالتالي فإن العقوبة قد تنقضي بغير تنفيذها وينقضي الالتزام المحمول على كاهل النيابة العمومية بتنفيذه بما أنّها الهيكل الساهر على تنفيذ العقوبات الجزائية.
ويقتضي سقوط العقاب بعدم تنفيذه صدور حكم بات ذلك أنّه لا يمكن الحديث عن سقوط العقاب والحال أنّ الدعوى العمومية لم تنقضي بعد، فالعقوبة القابلة للسقوط بعدم تنفيذها هي تلك العقوبة التي صدر في شأنها حكم بات اتصل به القضاء.
و يعتبر مرور الزمن من الأسباب الموضوعية لسقوط العقاب إذ انه لا يتعلق بشخص المحكوم عليه أو المتضرر أو طالب التتبع بل هي إنعكاس التوجهات السياسة الجنائية الحديثة للدولة و التي ترمي من خلالها إلى نزع العقاب و ذلك في إطار سعيها للمحافظة على إستقرار الوضعيات القانونية.
و لقد نظم المشرع التونسي مبدا تقادم العقوبة صلب الفصلين 349 و 350 من م.إ.ج
و لدراسته يتوجب الوقوف في مرحلة أولى على نطاقه (المبحث الأول) ثم في مرحلة ثانية على آجاله (المبحث الثاني).
المبحث الأول : نطاق تقادم العقوبة
انّ دراسة سقوط العقاب بمرور الزمن يقتضي تحديد العقوبات التي تقبل السقوط بمرور الزمن (الفقرة الأولى) والعقوبات التي لا تسقط بمرور الزمــن (الفقرة الثانية)
الفقرة الأولى: االعقوبات الخاضعة للتقادم:
لقد إقتضت أحكام الفصل 349 من م.إ.جأنه :” تسقط العقوبات المحكوم بها في الجنايات… و تسقط العقوبات المحكوم بها في الجنح …اما العقوبات المحكوم بها في المخالفات فتسقط…” و يستفاد من مقتضيات النص المذكور ان سقوط العقوبة بمرور الزمن يتسلط على العقوبات الجزائيّة سواء كانت من صنف العقوبات الأصليّة (أ) أو من صنف العقوبات التكميليــة (ب).
العقوبات الأصلية:
بالرّجوع إلى سلم العقوبات الأصليّة الواردة بالفصل 5 من م.جيتبين أن العقوبات القابلة للسقوط بمرور الزمن هي أساسا عقوبة القتل والسجن بقية العمر أو لمدّة معيّنة والخطية.
و القتل هو من العقوبات الأصلية الواردة بالفصل 5 م.ج والقتل أو الاعدام هو إزهاق روح الجاني الذي حكم القضاء بقتله حكما قابل التنفيذ. فهو من صنف العقوبات البدنية التي ترمي إلى استئصال الجاني من الجماعة بصورة نهائية بما أنّه يسلب المحكوم عليه حقه في الحياة و يكون تنفيذ هذه العقوبة بالشنق حسب أحكام الفصل 7 م.ج ويعتمد طريقة الرمي بالرصاص عند تنفيذها في الجرائم العسكريةو لهذه العقوبة خصوصية على مستوى التنفيذ إذ انه لا يمكن تنفيذها إلا بعد عرض الأمر على رئيس الجمهورية و إمتناعه عن منح العفو للمحكوم عليه.
وعدم تنفيذ هذا العقاب المحكوم به سواء كان ذلك لفرار المحكوم عليه أو بسبب تقاعس السلطات المختصّة بتنفيذه فإنه تطبيقا لمقتضيات الفصل 349 م.ا.ج فإنه ينقضي حق الدولة في تنفيذ العقوبة لأنّ الحق الذي تملكه الدولة في تسليط هذا العقاب ليس حقا مطلقا في الزمان بل هو محدّد بآجال تؤدّى إلى سقوطه إذا لم يقع مباشرة أعمال التنفيذ خلالها وهو ما حدى بعديد التشاريع المقارنة إلى تخصيص آجال أطول لتقادم العقاب بالنسبة للجرائم التي تقتضي عقوبة الاعدام تصل إلى حدّ الثلاثين سنة كاملة.
اما عقوبة السجن بقية العمر وعقوبة السجن لمدة معينة فهي من العقوبات سالبة للحرية.
وتتمثل العقوبة السالبة للحرية في سجن المحكوم عليه وذلك بوضعه في مؤسسة عقابية ومنعه من الخروج منها وممارسة حياته العادية والعقوبات السالبة للحرية هي من أهم العقوبات في جميع الأنظمة الجزائية وهي منذ سنة 1983 أصبحت تتجسد في المنظومة العقابية التونسية فقط بعقوبة السجن سواء لبقية العمر أو لمدة محددة وذلك بعد إلغاء عقوبة الأشغال الشاقة.
وبما أنّ العقاب بالسّجن يقتضي تنفيذا ماديّا على شخص المحكوم عليه وذلك عن طريق وضعه بأحد السجون حسب منطوق الفصل 13 م ج الذي وقع تنقيحه بمقتضى القانون عـدد 89 لسنة 1999 المؤرّخ في 2 أوت 1999، فإنّ هذا العقاب قابل بطبيعته للسقوط حين لا تأتي في الآجال التي حدّدها القانون.
لقد أورد الفصل 5 من المجلة الجزائية عقوبة أصلية مالية هي الخطية المالية ولئن لم يعرفها المشرع إلا انه يمكن تعريفها بالتزام المحكوم عليه بان يدفع إلى خزانة الدولة المبلغ المقدر في الحكم.
و الخطية الجزائيّة هي من العقوبات القابلة للتنفيذ ماديا على الذمّة الماليّة للمحكوم عليه وبالتالي فإنّ طبيعة هذه العقوبة يجعلها قابلة للسقوط بمرور الزّمن، بمعنى أنّ عدم قيام الدولة بتنفيذها في المدّة المعيّنة بالقانون، يسقط حقّها في المطالبة بها بعد فوات الآجال، فتتقادم الخطية الجزائية حسب الآجال المنصوص عليها قانونا مثلها مثل بقية العقوبات السابق بسطها.
العقوبات التكميلية:
تختلف العقوبات التكميلية على العقوبة التبعية ذلك أن العقوبة التبعية تلحق المحكوم عليه بقوة القانون بمجرد الحكم عليه بالعقوبة الأصلية ودون الحاجة للتنصيص عليها في منطوق الحكم ومن أمثلة ذلك ما جاء بالفصل 30 من المجلة الجزائية أن من حكم عليه من اجل جناية لمدة تتجاوز عشرة أعوام يكون حتما قيد الحجر وبالتالي فان وضع المحكوم عليه من اجل جناية لمدة تتجاوز العشرة سنوات قيد الحجر عقوبة تبعية تطبق على المحكوم عليه دون حاجة للنطق بها من القاضي أو ادراجها ضمن منطوق الحكم أما العقوبة التكميلية فهي عقوبة جزائية يحكم بها القاضي بالإضافة للعقوبة الأصلية الأساسية وتدرج في منطوق الحكم وقد تكون وجوبية إذا نص القانون على وجوبها مثل ما جاء بالفصول 232 و233 و234 من المجلة الجزائية والقانون عدد 26 لسنة 2015 المؤرخ في 07 أوت 2015 المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسيل الأموال أو قد تكون اختيارية حسب السلطة التقديرية للقاضي مثل ما جاء بالفصل 189 من المجلة الجزائية.
ولقد جاء بالفصل 5 من المجلة الجزائية أن العقوبات التكميلية تتمثل في: منع الإقامة، المراقبة الإدارية، مصادرة المكاسب، الحجز الخاص، الإقصاء، الحرمان من مباشرة الحقوق والامتيازات ونشر مضامين بعض الأحكام.
ولقد إختلف الفقهاء حول مسألة تقادم العقوبات التكميلية فذهب شق اول إلى اقرار خضوع العقوبات التكميليّة لسقوط بمرور الزمن اِعتبارا أنّ المشرّع استعمل عبارة “عقوبات” صلب الفصل 349 م.إ.ج و نظرا لورودها مطلقة فيستدل منها أنه لم يستثن العقوبات التكميليّة
وهو ما ذهب إليه فقه القضاء الفرنسي نحو اِخضاع العقوبة التكميليّة للتقادم وذلك بالنّسبة للإقصاءومنع الإقامة.
أمّا الحل الثاني فيذهب إلى عدم اِخضاع العقوبات التكميليّة للاِنقضاء بمرور الزمن وذلك بناء على أنّ علّة الأخذ بمؤسسة التقادم مرتبط وثيق الارتباط بأغراض العقوبة في مفهومها التقليدي وهو تحقيق العدالة إرضاءا لمشاعر الجماعة وتحقيق الرّدع بنوعيه العام والخاص فلا يمكن أن تتنزّل العقوبة التكميلية في مجالها كما أنّ التدابير التي شرعت لتأهيل المجرمين لا يمكن أن تخضع للتقادم، إذ يجب أن تنتج أثارها كلّما كان الأمر ضروريّا أي طالما لم تنقضي الحالة الخطرة.
وفي هذا الاتّجاه ذهبت محكمة التعقيب وذلك ضمن قرارها الصادر في 4/05/1934 حيث ورد به : “العقوبات التكميلية لا تسقط بمضي المدّة وكذلك مخالفتها لأنّها جنح مستمرّة ويبتدئ جريان المدّة المسقط لحق المطالبة بها عند القبض على المتّهم”.
بصفة عامة يمكن القول بأن طبيعة العقوبة هي التي تقرّر مدى قابليتها للسقوط وبالتالي، فإنّ العقوبات التكميليّة التي تقتضي تنفيذا ماديّا على شخص المحكوم عليه أو على ذمته الماليّة تكون قابلة للسقوط بمضي المدّة.
الفقرة الثانية: الإستثناءات الواردة على تقادم العقوبة:
لقد إعتبر توجه فقهي انّ مبدأ سقوط الدعوى العموميّة والعقوبة ولئن كان تقنية قانونيّة تهدف إلى استقرار المراكز القانونيّة اِلا أنّ هذه المؤسّسة لا تمثل احدى ركائز حقوق الانسان أو الحريّات الأساسيّة وليست بحقّ طبيعي، فالتقادم هو أساسا مخالف لمبدأ العدالة، ويجب أن يظلّ استنثاءلا ينطبق الاّ بنصّ صريحو على الرغم من أن المشرع التونسي لا يأخذ بهذا التوجه إلا أنه على غرار باقي التشاريع المقارنة أقصى بعض العقوبات من نطاق التقادم سواء لخطورة بعض الجرائم (أ) أو لتعلقها بمنظومة العدالة الإنتقالية (ب)
الإستثناءات المتعلقة بخطورة الجريمة:
لابد من الإشارة في هذا الإطار أن إقصاء المشرع بعض العقوبات من ميدان التقادم لا يتعلق أساس بالعقوبة في حد ذاتها أو بطبيعتها بمعنى أنّها عقوبات يمكن أن تنفّذ على المحكوم عليه في شخصه أو في ذمّته المالية و هي من حيث طبيعتها قابلة للتقادم إلا أنه نظرا لإرتباطها بجرائم خطيرة فلقد تم إخراجها من نطاق التقادم على غرار عقوبات جرائم الحرب والجرائم ضدّ الاِنسانيّة وعقوبات بعض الجرائم العسكريّة و التي لاتقبل السقوط بمرور الزمن.
لقد أقرّت اتفاقيّة 26 نوفمبر1968 بمبدأ عدم جواز تقادم عقوبات جرائم الحرب والجرائم ضدّ الانسانيّة ، وقد عرفت هذه الاتّفاقيّة بفصلها الأوّل جرائم الحرب بكونها “الجرائم التي تنطوي على مخالفة القوانين وعادات الحروب مثل قتل المحاربين، وسوء معاملة المدنيين في الأقاليم المحتلة، وتلك الواقعة على أسرى الحرب، والأشخاص المتواجدين في البحر، إضافة إلى قتل الرهائن، ونهب الأموال العامّة والخاصّة، والتخريب التعسّفي للقرى والمدن، والتدمير الذي لا تبرّره الضروريّات العسكريّة”.
أمّا الجرائم ضدّ الانسانيّة فهي تلك التي لا ترتكب زمن الحرب، وتتمثّل في أعمال القتل والاسترقاق والابادة، وكلّ فعل آخر غير اِنساني ضدّ المدنيين وكذلك أعمال الاضطهاد المبنيّة على أسباب طائفيّة أو عنصريّة أو دينيّة. وحثّت هذه الاتّفاقيّة الدول الأطراف المصادقة عليها أن تنصّ في تشريعاتها على عدم تقادم الدعوى العموميّة والعقاب بالنّسبة لهذا الصنف من الجرائمولقد صادقت البلاد التونسيّة على هذه الاتّفاقيّة بموجب القانون عـدد 11 لسنة 1972 المؤرّخ في 10 مارس 1972.
اما بالنسبة للعقوبات العسكرية فقد نص الفصل 72 من مجلّة المرافعات والعقوبات العسكريّة علىأنه “… لا تسقط العقوبة ولا دعوى الحقّ العام في الأحوال الأولى المشار إليها بالفصل 71 م.م.ع.ع “.
و العقوبات المشار إليها هي المتعلقة بالجرائم المنصوص عليها صلب الفصل 71 م مم ع و المتمثلة أساسا في جريمة الفرار إلى العدو وجريمة التفصي زمن الحرب من الواجبات العسكريّة.
إستثناء مبدأ التقادم في منظومة العدالة الإنتقالية:
جاء بالفقرة التاسعة من الفصل 148 من دستور جانفي 2014 أنه :” تلتزم الدولة بتطبيق منظومة العدالة الإنتقالية في جميع مجالاتها والمدة الزمنية والمحددة بالتشريع المتعلق بها و لا يقبل في هذا السياق الدفع بعدم رجعية القوانين او بوجود عفو سابق أو بحجية إتصال القضاء أو بسقوط الجريمة أو العقاب بمرور الزمن.”
وفي هذا الإطار نص الفصل الثامن من قانون العدالة الإنتقالية على انه :”…تتعهد الدوائر المذكورة بالنظر في القضايا المتعلقة بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان على معنى الاتفاقيات الدولية المصادق عليها وعلى معنى أحكام هذا القانون، ومن هذه الانتهاكات خاصة:
ـ القتل العمد،
ـ الاغتصاب وأي شكل من أشكال العنف الجنسي،
ـ التعذيب،
ـ الاختفاء القسري،
ـ الإعدام دون توفر ضمانات المحاكمة العادلة.
كما تتعهد هذه الدوائر بالنظر في الانتهاكات المتعلقة بتزوير الانتخابات وبالفساد المالي والاعتداء على المال العام والدفع إلى الهجرة الاضطرارية لأسباب سياسية المحالة عليها من الهيئة…”
وعملا بما سبقه بسطه فإن الجرائم المذكورة و التي إعتمدها المشرع بصفة محددة صلب منظومة العدالة الإنتقالية فإن الأحكام الصادرة في شانها لا تخضع للتقادم و بالتالي فهي غير قابلة للسقوط بمرور الزمن و لئن لم يحدد المشرع صلب قانون العدالة الإنتقالية العقوبات المعنية بعدم التقادم سواء تلك الصادرة قبل منظومة العدالة الإنتقالية أو تلك الصادرة عن الدوائر المتخصصة المشار إليها بالفصل 8 المذكور إلا أنه و بمراجعة الفصل المذكور يبدو ان المشرع قد أقصى صلب الفصل 148 من الدستور كذلك الدفع بإتصال القضاء من منظومة العدالة الإنتقالية بما ينتج معه إعادة عرض الجرائم المذكورة صلب الفصل 8 و التي سبق البت فيها من القضاء قبل 17 ديسمبر 2011 على أنظار دوائر العدالة الإنتقالية و بالتالي فإنه من البديهي أن يكون العقاب المقصى من التقادم بمرور الزمن هو ذلك الصادر عن الدوائر المتخصصة للعدالة الإنتقالية.
المبحث الثاني: آجال تقادم العقوبة
ان تقادم العقوبة يقتضي مرور مدّة زمنية معيّنة ليُنتفع بهذه الآثار و لقد أورد المشرع التونسي صلب الفصلين 349 و 350 من م.إ.ج نظام سقوط العقوبة بمرور الزمن محددا الآجال المعتبرة لتقادم العقوبة (الفقرة الأولى) و كيفية إحتسابها (الفقرة الثانية)
الفقرة الأولى: تحديد آجال سقوط العقوبة:
إقتضى الفصل 349 منم.إ.ج أنه :”تسقط العقوبات المحكوم بها في الجنايات بمضي عشرين سنة كاملة … وتسقط العقوبات المحكوم بها في الجنح بمضي خمس سنوات أما العقوبات المحكوم بها في المخالفات فهي تسقط بعد مضي عامين كاملين”.
إن قراءة الفصل المذكور تحيل على ملاحظتين أساسيتين أولهما انه و على عكس الفصل 5 من نفس المجلة المتعلق بسقوط الدعوى العمومية بمرور الزمن فإن المشرع لم ينص على إمكانية وجود نصوص خاصة توجب آجالا مختلفة للسقوط غير الآجال الواردة بالفصل 349 من م.إ.ج اما الثانية فتتعلق بتمسك المشرع بالتقسيم الثلاثي للجرائم في تحديد آجال التقادم سواء كان في سقوط الدعوى او العقاب و قد جعل المشرع إختلافا بين الجنايات و الجنح و المخالفات فتسقط العقوبات المحكوم بها في الأولى بمضي عشرين سنة كاملة و في الثانية بمضي خمسة أعوام كاملة و في الثالثة بمضي عامين كاملين و بالتالي فإن أساس الإختلاف هو نوع الجريمة و خطورتها.
و كما سبقت الإشارة فإن هذه الآجال هي آجال عامة وعليه فإن العقوبات جميعا سواء صدرت بمقتضى القانون الجنائي العام أو القوانين الاستثنائية وسواء صدرت عن محاكم الحق العام أو المحاكم العسكرية تسقط بنفس تلك الآجال.
الفقرة الثانية: إحتساب آجال التقادم
لابد في هذا الإطار من الملاحظة أنّ المشرع التونسي قد تبنى التقويم الميلادي وذلك بالفصل 403 م.إ.عو الذي ينص على أنّ آجال التقادم بالنسبة للسنة الواحدة هو 365 يوما، وكذلك فعل فقه القضاء التونسي حيث استقرّت محكمة التعقيب في العديد من قراراتها على اعتبار التاريخ المعمول به هو التاريخ الميلادي.
و تستوجب دراسة إحتساب آجال التقادم التطرق إلى بداية سريان مدة التقادم (أ) و ما قد يطرأ عليها من تعليق و إنقطاع (ب)
أ- بداية سريان مدة التقادم:
إقتضى الفصل 349 من م.إ.ج أنه :”… و يجري اجل السقوط من تاريخ صيرورة العقاب المحكوم به باتا و يجري من يوم الإعلام بالحكم الغيابي إذا لم يقع ذلك الإعلام للمحكوم عليه نفسه ما لم يتبين من أعمال تنفيذ الحكم أن المحكوم عليه حصل له العلم به.”
ان سريان أجل سقوط العقاب في القانون التونسي يبتدئ من يوم صدور الحكم البات إلا أنالمشرّع التونسي لم يعرف الحكم البات رغم أهميته القانونية و يبدو أنه قد وقع في خلط بين الحكم الجزائي النهائي والحكم الجزائي البات وقد استعمل هذا المصطلح الأخير للدلالة على الحكم النهائي وذلك بالفصل 338 م.إ.ج. الذي ورد به أن الحكم ينفّذ إذا أصبح باتّا والحال أن الأحكام الجزائية تنفذ حتى وإن لم تكن باتة خاصة وأن الطعن بالتعقيب لا يوقف تنفيذها من حيث المبدأ.
هذا الخلط التشريعي صاحبه خلط على مستوى فقه القضاء لتأخذ محكمة التعقيب في عدة قرارات نفس توجه المشرع في عدم التمييز بين الأحكام النهائية و الأحكام الباتة إذ اعتبرت أنّ الحكم النهائي أو البات هو الحكم الذي لم يبق مجال للطعن فيه بطريق الاعتراض أو الاستئناف.
وبالرجوع إلى أحكام الفصل 349 م.إ.ج فقرة ثانية يتّضح أن أجل سقوط العقاب يجري من يوم الإعلام بالحكم الغيابي إذا لم يقع ذلك الإعلام للمحكوم عليه نفسه فإنه ما لم يتبين من أعمال تنفيذ الحكم ان المحكوم عليه حصل له العلم به.
ب – تعليق و إنقطاع مدة التقادم:
جاء بالفصل 350 من م.إ.ج أنه :” مدة السقوط يعلقها كل مانــع قانونــي أو مادي يحول دون تنفيذ العقاب ما عدا الموانع المترتبة عن إرادة المحكوم عليه. وتقطع مدة السقوط بإلقاء القبض على المحكوم عليه في صورة الحكم بعقاب سالب للحرية أو بقيام السلطة المختصة بعمل من أعمال التنفيذ في صورة الحكم بالخطية.
ولا يسوغ في أي حال من الأحوال التمديد في أجل السقوط إلى ما يزيد على ضعفه.”
يستنتج من أحكام الفصل المذكور أن مدة تقادم العقوبة قابلة للتعليق و الإنقطاع فإذا حدثت صور التعليق فلا تحسب المدة الواقعة خلالها و إذا إنقطعت المدة بشكل من الأشكال المنصوص عليها يعاد حساب المدة من جديد و تطرح المدة القديمة
و على غرار تعليق تقادم الدعوى العمومية فإن مدة سقوط العقاب يعلقها كل مانع مادي او قانوني ما عدى تلك المترتبة عن إرادة المحكوم عليه و تقطع مدة السقوط بإلقاء القبض على المحكوم عليه في صورة الحكم بعقاب سالب للحرية و بقيام السلط المختصة باعمال التنفيذ بالنسبة لصور الحكم بالخطية.
و تثور عدة إشكاليات بخصوص سقوط العقوبة بمرور الزمن و من أهمها:
1- إشكالية تجنيح الجرائم وتأثيرها على آجال سقوط الدعوى العمومية:
التجنيح آلية يتم تقوم بواسطتها النيابة العمومية او حاكم التحقيق أو دائرة الاتهام بقلب وصف جريمة هي في الأصل جناية إلى جنحة وبالتالي اخضاعها للقواعد القانونية المتعلقة بالجنح و مثال ذلك أن يتولى الجاني سرقة الضحية بواسطة الإعتداء عليه بالعنف الشديد و هي طبق أحكام القانون جناية بإعتبارها سرقة موصوفة و بإعمال آلية التجنيح فيمكن إحالة الجاني على الدوائر القضائية لمحاكمته من أجل السرقة المجردة و الإعتداء بالعنف الشديد المجرد و كلتا الجريمتين من صنف الجنح.
وليس للتجنيح في القانون التونسي أساس تشريعي حيث أنّه ليس هناك سوى منشور من وزارة العدل بتاريخ 1 جويلية 1960 يشجّع على ممارسة التجنيح لتخفيف العبء على دائرة الاتهام من كثرة القضايا، ولكن نص المشرّع صراحة على اعتماد هذه الطريقة وذلك بمجلة حماية الطفلصلب الفصل 14 من هذه المجلة الذي ينص “تهدف هذه المجلة إلى تكريس اجراءات الوساطة والتجنيح وعدم التجريم وتشريك المصالح والمؤسسات المهتمة بالطفولة في اتّخاذ القرارات واختيار التدابير التي تتماشى ومصلحة الطفل الفضلى”.
بما أنّ التجنيح يغير وصف الجريمة فينزل بها من جناية إلى جنحة فإنّ آجال سقوط الدعوى ستتأثر حتما بهذا الوصف الجديد وتتغير خاصة وأن المحكمة المتعهدة و في إطار مراقبتها لآجال سقوط الدعوى العمومية فإنها ستتولى تطبيق الآجال الخاصة بالجنح و هي بطبيعة الحال أقصر.
2- في طور التنفيذ:
وردت أحكام الفصل 349 من م.إ.ج عامة و شاملة إذ نص الفصل المذكور على إمكانية سقوط جميع العقوبات المحكوم بها في الجنايات و الجنح والمخالفات دون أن يستثني أي صنف من العقوبات و هو ما يستدعي البحث في تأثير التقادم على العقوبات البديلة و كذلك على الجبر بالسجن
- العقوبات البديلة :
نصّ المشرّع التونسي على عقوبة العمل لفائدة المصلحة العامّة و عقوبة التعويض الجزائي كعقوبات بديلة للعقوبة السجنيّة وذلك بالفصل 5 من المجلة الجزائيّة.
وعقوبة العمل لفائدة المصلحة العامة و التعويض الجزائي هي عقوبات اختياريّة تخضع للسلطة التقديرية للقاضي، ذلك أنّ المشرّع استعمل عبارة “للمحكمة” وقد نصّ الفصل 15 مكرر من المجلة الجزائية “للمحكمة” إذا قضت بالسجن النافذ لمدّة أقصاها عام واحد أن تستبدل بنفس الحكم تلك العقوبة بعقوبة العمل لفائدة المصلحة العامّة وذلك دون أجر لمدّة لا تتجاوز ستمائة ساعة بحساب ساعتين عن كلّ يوم سجن.
ويحكم بهذه العقوبة في جميع المخالفات وفي الجنح التي يقضى فيها بعقوبة سجن لا تتجاوز المدّة المذكورة أعلاه”.
انّ عقوبة العمل لفائدة المصلحة العامّة لا يمكن الحكم بها غيابيا بما أنّه يشترط أن يكون المتّهم حاضرا بالجلسة ويعبر عن رفضه أو قبوله لهذه العقوبة. كما حدّد المشرّع صراحة المدّة التي يجب أن تنفّذ فيها، فقد ورد بالفصل 336 مجلّة الاجراءات الجزائيّة (جديد) “اذا امتنع المحكوم عليه من تنفيذ عقوبة العمل لفائدة المصلحة العامّة أو انقطع عنها للمرّة الثالثة بدون عذر شرعيّ فإنّه يقضي عقوبة السّجن المحكوم بها كاملة دون خصم، ولا يمكن أن تتجاوز مدّة الغياب يوما واحد في المرّة الأولى ويومين في المرّة الثانية، ويعوّض يوم الغياب بضعفه”.
فطبيعة هذه العقوبات تجعلها لا تسقط بمرور الزّمن نظرا لكون عدم تنفيذها يؤدّي إلى تطبيق العقوبة الأصليّة ألا وهي عقوبة السّجن. فالدّور التأهيلي لهذه العقوبات وطبيعتها المتمثّلة في كونها عقوبة بديلة لعقوبة السّجن يمنعها من السّقوط بمرور الزّمن. - الجبر بالسجن:
ويتعيّن في هذا الإطار التعرّض إلى مسألة الجبر بالسّجن، ذلك أنّ هذا الإجراء ولئن كان مبدئيا وسيلة تنفيذ، إلاّ أنّه عمليّا له بعض خصائص العقاب القاضي بالسّجن.
وقد تعرّض المشرّع إلى مؤسسة الجبر بالسّجن وذلك بالكتاب الخامس من مجلّة الاجراءات الجزائيّة وبالتحديد في الباب الثاني، حيث نصّ بالفصل 343 م.إ.ج “تستخلص الخطية والمصاريف لصندوق الدولة من مكاسب المحكوم عليه وعند الاقتضاء عن طريق الجبر بالسجن أوالعمل لفائدة المصلحة العامّة بطلب من المعني بالأمر يقدم للنيابة العموميّة””.
فالجبر بالسّجن هي طريقة منحت للدولة في صور وشروط حدّدها القانون يحرم بمقتضاها المدين من حريته الشخصية، بهدف دفعه للوفاء بما هو متخلّد بذمته تجاه صندوق الدولة، فيقع توجيه مضمون الحكم من طرف النيابة العموميّة عندما يصبح قابلا للتنفيذ إلى قابض المالية الذي يقوم باِستخلاصها طبق إجراءات تتمثل في ضرورة إنذار المحكوم عليه بالدفع، وفي صورة اِمتناعه لأيّ سبب من الأسباب يقع اللّجوء إلى التنفيذ الجبري عن طريق ضرب عقلة توقيفية أو تحفظيّة أو تنفيذيّة، فإذا تعذّر التنفيذ على مكاسب المحكوم عليه يقع التنفيذ على المحكوم عليه عن طريق الجبر بالسّجن.
مبدئيّا لا وجود لقواعد خاصّة تنظم مسألة تقادم الجبر بالسّجن، ولعلّ ذلك يرجع بالأساس إلى أنّ الجبر بالسّجن لا يعتبر عقوبة بقدر ما هو وسيلة تنفيذية تهدف إلى إجبار المدين على خلاص ديونه لصندوق الدولة ، فهو ينطوي تحت إطار طرق التنفيذ لا في إطار العقوباتبالرّغم أن اعتماده عمليا يبرز بعض خصائص العقوبة من خلال الاِيقاف والسّجن. وممّا يؤكّد الصبغة التنفيذيّة لمؤسسة الجبر بالسّجن موقعها ضمن فصول مجلّة الاجراءات الجزائيّة، ذلك أنّها وردت في الكتاب الخامس وتحت عنوان في “إجراءات التنفيذ”.
وبالتالي فإن انقضاء هذه الوسيلة التنفيذيّة بمرور الزمن هو بالأساس سقوط للعقاب القاض بالخطية بمرور الزمن، ثمّ أنّ الجبر بالسجن هو من أعمال التنفيذ، فلا يعقل أن يقع التنفيذ ثمّ يعارض بإنقضاء الجبر بالسّجن لبلوغه مدّة التقادم والجبر بالسّجن لا يمكن أن يتجاوز في كلّ الحالات أجل العامين حسب أحكام الفصل 344 م.إ.ج
3- معضلة الأحكام الموصوفة غيابية:
نصّ المشرّع التونسي بالفصل 175 م.إ.ج. في الفقرة الثالثة على أنّه إذا استدعى المتهم بصفة قانونية ولم يحضر يحكم عليه غيابيا رغم عدم بلوغ الاستدعاء إليه شخصيا، فالحكم بالتالي يعد غيابيا متى صدر في غياب المظنون فيه بعد أن يكون قد وقع استدعائه بصورة قانونية لكن دون أن يكون قد بلغه الاستدعاء شخصيا.
و الحكم الغيابي يفترض قانونا أن المحكوم عليه لا يعلم بما صدر ضدّه من عقوبة لذلك نصّ المشرّع على ضرورة الاعلام به.
يعتبر تطبيق مبدأ التقادم بخصوص الأحكام الموصوفة غيابية من أبرز المسائل الخلافية إذ أن خصوصية هذا النوع من الحكام الجزائية و غياب الرؤية التشريعية الواضحة كانت سببا في تعدد التوجهات الفقهية و القضائية و من ذلك أن أحكام الفصل 349 من م.إ.ج نصت على أن أجل سقوط العقاب في الحكم الغيابي يكون من تاريخ الإعلام بالحكم الغيابي إذا لم يقع الإعلام للمحكوم عليه بنفسه ما لم يتبين من أعمال تنفيذ الحكم أن المحكوم عليه حصل له العمل به.
ويبدو ان المشرع و على الرغم من عباراته المبهمة قد تطرق لصورة واحدة تتعلق بالحكم الغيابي و هي صورة عدم حصول الإعلام للمحكوم عليه نفسه و لم يحصل له العلم من خلال اعمال التنفيذ و هو ما يطرح التساؤل حول تاريخ بداية سريان اجل تقادم العقوبة في حالة ما إذا بلغ الإعلام بالحكم الغيابي للمحكوم عليه نفسه و في حالة حصول العلم بالحكم الغيابي للمحكوم عليه من خلال أعمال التنفيذ.
الحالة الأولى:اذا كانت عملية الاعلام إلى شخص المحكوم عليه فان أجل سقوط العقاب يبتدأ في السريان من تاريخ انقضاء أجل الاعتراض وأجل الاستئناف أي بعد انقضاء العشرة أيّام الأولى الخاصة بالاعتراض والعشرة أيّام الخاصّة بالاستئناف أي بعد أجل عشرين يوما.
أما إذا صدر الحكم الغيابي ضد شخص قاطن خارج تراب الجمهورية فهو لا يصبح قابلا للتنفيذ الا بعد انقضاء أجل أربعين يوما وهي آجال الاعتراض المحددة بثلاثين يوما وآجال الاستئناف المحدّدة بعشرة أيّام بعد انقضاء أجل الاعتراض.
أمّا الحكم الغيابي النهائي الدرجة فهو يصبح قابلا للتنفيذ بعد العشرة أيّام الموالية للاِعلام المبلغ للمحكوم عليه المقيم بتونس وبعد انقضاء ثلاثين يوما من تاريخ الاعلام المبلغ للمحكوم عليه شخصيا إذا كان يقطن خارج البلاد التونسية.
ونستنتج أن أجل سقوط العقاب يبتدئ بالنسبة للحكم الغيابي المعلم به شخصيا من تاريخ صيرورة الحكم باتا.
الحالة الثانية:تتمثل في علم المحكوم عليه بالحكم الغيابي من خلال أعمال التنفيذ فتجري في هذه الحالة آجال سقوط العقاب من تاريخ علم المحكوم عليه بالحكم الغيابي عن طريق أعمال تنفيذ الحكم.
وتجدر الملاحظة في هذا الصدد أن المشرع لم يحدد المقصود بأعمال التنفيذ إلا أن توجها فقهيا إعتبرها هي تلك الصادرة عن النيابة العمومية باعتبارها المالكة الوحيدة لهذا الحق وبالتالي فلا يعتبر من قبيل أعمال التنفيذ الاعلام بالحكم الجزائي الغيابي الذي يتولاه المتضرّر بواسطة عدل تنفيذ لانه لا يعد اعلاما قانونيا فحين رأى توجه آخر بأن الأعمال التي يتولاها المتضرر في إطار تنفيذه للدعوى المدنية المرتبطة بالدعوى العمومية هي من قبيل أعمال التنفيذ المشار إليها في الفصل 349 المذكور و التي يحصل بها العلم للمحكوم عليه لا فقط بالدعوى العمومية بل كذلك بالدعوى المدنية نظرا لترابطهما و وحدتهما إذ أنه من المعلوم أن القضاء لصالح الدعوى المدنية المرتبطة بالدعوى العمومية يعني ضرورة حكما بالإدانة بخصوص الدعوى العامة. - حلول قضائية متنوعة:
إن النقائص التشريعية المتعددة و الصعوبات التطبيقية المتنوعة كانت كفيلة لخلق وضع من الضرورة أدت إلى ظهور جملة من الإجتهادات القضائية وذلك حتى تصح مقولة :” إن نقص القانون عن كان ، يكمله عدل القاضي”.
وفي هذا الإطار عرف فقه القضاء الوطني حلولا قضائية متنوعة لجملة المسائل التي عرضت عليه في خصوص مبدأ التقادم في المادة الجزائية سواء تعلق الأمر بالمسائل المشتركة لسقوط الدعوى العمومية و سقوط العقاب او في ما يتعلق بجدلية مبدأ التقادم و الأحكام الغيابية.
1- قطع و تعليق آجال التقادم:
لقد كرس المشرع التونسي إمكانية تعليق مدة التقادم سواء تعلق الأمر بآجال سقوط الدعوى العمومية أو بآجال سقوط العقوبة و ذلك بتوفر الموانع القانونية والمادية إلا أنه لم يحدد هذه الموانع و لا المعيار المعتمد في ضبطها إلا أن محكمة التعقيب عرفت و بإطناب صلب قرارها عدد 82293 و 82432 و 84843 و 85398 (إتهام) المؤرخ في 02/07/2019 الموانع المادية بإعتبارها :”…وحيث تُعرف الموانع المادية المعلقة لسريان التقادم بكونها الصعوبات الناتجة عن عارض يمنع – في قضية ما – من إثارة أو ممارسة الدعوى العمومية…وحيث يتعلق الأمر إذن بكل الوقائع والأفعال والأوضاع والمؤثرات التي تحول دون إثارة الدعوى العمومية وممارستها تتبعا لمرتكبي الجريمة…بما يعني أن المقصود بالموانع المادية هي تلك الموانع الواقعية…المستخرجة من الواقع المتعدد والمتحرك والمتغير والمتطور والتي لا تقبل الحصر ولا العد ولا الجمود بطبيعتها والتي تتسع لكل الوقائع والأسباب التي يمكن أن تجعل إثارة الدعوى العمومية في زمن ما غير ممكنة وإلا لقام المشرع نفسه بحصرها وتعدادها لتغدو هي بذاتها قانونية، أو على الأقل لذكر تصنيفها أو مجالها تقييدا وحصرا …” و لقد ساد إختلاف وتضارب كبير في القرارات حول مدى إمكانية إعتبار النظام الإستبدادي من الموانع المادية في ممارسة الدعوى العمومية و كذلك حتى تنفيذ العقوبة خاصة تلك المتعلقة برجالات النظام السابق ولقد إعتبر القرار المذكور النظام الإستبدادي من الموانع المادية المعلقة لآجال تقادم الدعوى العمومية إذ نص على أنه:”…وحيث تأسيسا على كل ذلك واستنادا إلى أحكام الفصل 5 م إ ج وإلى جملة الأسس والمبادئ القانونية المشار إليها، فإنه يمكن التسليم بأن النظام الاستبدادي يمكنه مبدئيا ونظريا أن يكون مانعا ماديا معلقا لسقوط الدعوى العمومية بمرور الزمن…”و لقد جاء هذا القرار في تناغم مع القرار التعقيبي عدد 3358/2013 المؤرخ في 24/10/2014 و الذي جاء في حيثياته :”…إن حالة الظلم و القهر التي كانت سائدة آنذاك و سيطرة نظام الحكم و هيمنته على كافة المؤسسات و السلطات تجعل كل شخص متضرر من تصرفاته وبخاصة بالنسبة للخصوم السياسيين لا يستطيع رفع أي دعوى ضد تلك المؤسسات من أجل الجرائم التي إرتكبتها و بالتالي فإن الدعوى لم تسقط بمرور الزمن و كانت الحالة المشار إليها أعلاه مانعا ماديا قاطعا لمدة السقوط …” و هو ما إنتهجه فقه القضاء الفرنسي حين إعتبرت محكمة التعقيب الفرنسية أن أجل سقوط الدعوى العمومية يعلق في حق رئيس الجمهورية خلال مدة ولايته طالما أنه لا يمكن توجيه التهمة عليه أو إحالته على محاكم الحق العام الجزائية خلال تلك المدة.
إلا ان محكمة التعقيب إعتبرت بموجب قرارها عدد 62433 و المؤرخ في 05/01/2018 أن المانع المادي الذي يحول دون القيام أمام القضاء هو الذي يؤدي إلى تعطيل مؤسسات الدولة كالكوارث الطبيعية و الحروب و الاحتلال معتبرة أن توسع دائرة الإتهام في مفهوم الموانع المادية لتشمل النظام الإستبدادي هو من قبيل مخالفة مبدأ التأويل الضيق في المادة الجزائية.
أما بخصوص مسألة قطع سريان اجل تقادم العقوبة فلقد ميزت محكمة التعقيب بين الإجراء القاطع لسريان اجل تقادم العقوبة السالبة للحرية و بين سريان أجل تقادم العقوبة المالية إذ تطرق القرار التعقيبي عدد 11941 بتاريخ 15/03/2005 إلى التمييز بين القواطع في صورة العقاب السالب للحرية و العقاب بالخطية و الذي تضمنت وقائعه أن النيابة العمومية تولت إحالة المتهم على انظار الدائرة الجناحية بالكاف لمقاضاته من أجل جنح الإعتداء بالعنف الشديد و الإعتداء علنا على الأخلاق الحميدة و قضي بإدانته غيابيا إبتدائيا ثم إستئنافيا بتاريخ 01/12/1998 بسجنه مدة شهرين إثنين فإعترض على ذلك الحكم بتاريخ 08/09/2004 فصدر بتاريخ 05/10/2004 الحكم الإستئنافي و القاضي برفض الإعتراض شكلا لتسلطه على حكم سقط العقاب في شانه بمرور الزمن فتولت النيابة العمومية الطعن في الحكم المذكور بمقولة أنه بتاريخ 02/07/2001 تم إصدار منشور تفتيش في حق المتهم و هو من أعمال التنفيذ القاطعة لأجل التقادم و إعتبرت محكمة التعقيب في هذا الإطار أنه إذا كان العقاب المحكوم به سالبا للحرية فإن مدة سقوطه تقطع بإلقاء القبض على المحكوم عليه و أن الحكم بالخطية فقط هو الذي تقطع مدة سقوطه بعمل من أعمال التنفيذ طبق أحكام الفصل 350 من م.إ.ج
2- مسألة النظام العام:
لقد إعتبرت محكمة التعقيب مبدأ التقادم من النظام العام و شددت على ضرورة التطرق و إبراز مواطن القطع و التعليق في صورة تواجدهما مؤكدة على أنه من الدفوع التي يمكن إثارتها لأول مرة أمام محكمة التعقيب كما أن للمحكمة التمسك به من تلقاء نفسها و في هذا الإطار جاء القرار التعقيبي عدد 14343 المؤرخ في 01/11/2001 و الذي نص صراحة على انه :” …وحيث تبين من مراجعة الملف بأن الدعوى العمومية سقطت بالتقادم القانوني … وحيث أن الدعوى العمومية في مادة الجنح تسقط بمضي ثلاثة أعوام حسب صريح الفصل 5 من م.إ.ج في حين مضى عليها في قضية الحال ما يقارب الخمسة أعوام بذلك فلم يبق مجال لتتبع مقترفها من اجلها…” و الجدير بالذكر أن القرار التعقيبي المذكور قد تعهدت به محكمة التعقيب بموجب عريضة الطعن فقط دون مستندات الطاعن ومع ذلك فلقد جاء بحيثيات المحكمة انه :” وحيث أن سقوط الدعوى العمومية بمرور الزمن يهم النظام العام و تتمسك به هذه المحكمة من تلقاء نفسها …”
كما جاء بالقرار التعقيبي عدد 3224 المؤرخ في 13 أكتوبر 2005 أن سقوط العقاب يهم النظام العام و مصلحة المتهم الشرعية و لذلك فإنه على المحكمة كلما تم الدفع بسقوط العقاب البحث عن القواطع المتعلقة بالعقاب البدني أو بالخطية و إبداء الرأي في خصوص سقوط العقاب الذي يهم النظام العام و مصلحة المتهم الشرعية.
3- جدلية مبدأ التقادم و الأحكام الغيابية:
إن خصوصية الأحكام الغيابية و تحديد آثار الإعتراض عليها ومآل العقوبات المسلطة بموجب أحكام موصوفة غيابية كرس توجهين قضائيين مختلفين فلقد أخذ التوجه الأول بعدم قابيلة العقوبات المسلطة بموجب احكام غيابية للتقادم فحين أخذ التوجه الثاني بإمكانية سقوط العقوبات المسلطة بموجب أحكام غيابية بمرور الزمن
4- عدم قابلية العقوبات المسلطة بموجب احكام غيابية للتقادم:
لقد إعتبر مناصرو هذا التوجه أن الأحكام الغيابية هي احكام ظرفية و أن العقوبات المسلطة بموجبها هشة تندثر بموجب الإعتراض عليها طبقا لأحكام الفصل 182 من م.إ.ج و الذي نص على أنه :”إذا حضر المعترض و كان إعتراضه مقبولا شكلا ، فإنه يلغى بالنسبة لجميع الأوجه المعترض في شأنها سواء كانت صبغتها مدنية أو جزائية…”
و يرى توجه فقهي ان الإعتراض على الحكم الغيابي يعيد القضية إلى ما قبل الحكم الغيابي الذي يصبح في حكم المعدوم و يكون بذلك آخر عمل هو قرار الإحالة سواء من النيابة العمومية أو التحقيق او دائرة الإتهام و بالتالي فإنه لا يمكن القول بإمكانية سقوط العقاب بمرور الزمن بإعتبار أن الحكم المسلِط للعقاب قد إنحل وبالتالي فإن الحالة الوحيدة للتقادم التي يمكن أخذها بعين الإعتبار هي تلك المتعلقة بتقادم الدعوى العمومية.
و في هذا الإطار يعتبر مساندو هذا التوجه ان أعمال التتبع أو التحقيق و بصفتها من الأعمال القاطعة لآجال تقادم الدعوى العمومية فإنه يتم إعادة إحتساب آجال السقوط من تاريخ آخر عمل تتبع أو تحقيق.
و في هذا الإطار جاء القرار التعقيبي عدد 35522 المؤرخ في 20/05/2003 و الذي نص على أن قبول إعتراض المتهم شكلا يصبح معه الحكم المعترض عليه ملغى بحكم القانون و يبتدئ احتساب اجل سقوط الدعوى العمومية عندئذ من تاريخ آخر عمل تتبع عملا بأحكام الفصل 6 من م.إ.ج و هو في قضية الحال قرار إحالة النيابة العمومية.
وفي ذات الصدد إعتبرت محكمة التعقيب صلب قرارها عدد 67367 بتاريخ 04/04/1996 الاعتراض يلغي منطوق الحكم الغيابي وفق أحكام الفصل 182 من مجلة الاجراءات الجزائية وأن سقوط الدعوى بمرور الزمن يعفي محكمة الموضوع من إعادة النظر في الدعوى.
و لقد إعتبرت محكمة التعقيب صلب قرارها عدد 5536 مؤرخ فى 04/04/1981 أنه اذا تم الاعلام بالحكم الغيابي بعد ثلاثة أعوام وهى المدة التي تنقرض بها الدعوى العمومية بمرور الزمن في مادة الجنح فإن هذا الحكم يعتبر ملغى ولا تعويل عليه وفق مقتضيات الفصل 182 م ا ج.
و في مخالفة صريحة لأحكام الفصل 349 من م.إ.ج إعتبرت محكمة التعقيب صلب قرارها عدد 960 مؤرخ فى 16/03/1977 ان الحكم الغيابي الذي لم يقع الاعلام به لشخص المحكوم عليه لا يعتبر من الأحكام الباتة وتأسيسا على ذلك فلا يمكن ان يجري أجل سقوطه وانما الذى يجري هو سقوط حق القيام بالدعوى العمومية.
كما جاء بالقرار التعقيبي عدد 50512 مؤرخ فى 01/04/2004 أنه من واجب محكمة التعقيب اثارة الاخلالات المتصلة بالنظام العام اذ ثبت ان المحكمة لم تجب عما تمسك به لسان الدفاع من سقوط العقاب بمرور الزمن لأن الحكم الغيابي صدر بتاريخ 5/4/1996 و اعترض عليه بتاريخ 7/2/2002 رغم كونه دفع جوهري له تاثير على مجرى القضية.
5- قابلية العقوبات المسلطة بموجب أحكام غيابية للتقادم:
يقوم هذا التوجه على حصر تقادم الدعوى العمومية فيما قبل صدور حكم قضائي إذ يرى مساندو هذا التوجه أن فرضية سقوط الدعوى بمرور الزمن تنتهي بصدور الحكم و إن كان غيابيا إستنادا لإطلاقية عبارات الفصل 6 من م.إ.ج و الذي جاء به أنه :” إذا حصل في غضون آجال السقوط التي سبق تعدادها بالفصل المتقدم أعمال تحقيق أو تتبع و لم يصدر عقبها حكم …” و كذلك من خلال أحكام الفصل 349 من نفس المجلة و التي نصت صراحة على سقوط العقاب المسلط بموجب أحكام موصوفة غيابية و بالتالي فإنه و بصدور الحكم الغيابي فإن التقادم لا يتعلق إلا بالعقوبة حتى و إن تم الإعتراض على الحكم الغيابي فعلى المحكمة مراقبة مدى توفر شروط سقوط العقاب قبل البت في شكليات الإعتراض وهو ما أصطلح على تسميته بالأثر النسبي للمفعول الإلغائي للإعتراض إذ جاء بحيثيات القرار التعقيبي عدد 68562 المؤرخ في 08/04/2019 على أنه :” المفعول الإلغائي للإعتراض على الحكم الغيابي لا يمتد بصريح الفصل 182 من م.إ.ج إلى أعمال التنفيذ من ذلك أنه لا لزوم لإستدعاء الشهود الذين سبق سماعهم بالجلسات الصادر فيها الحكم الغيابي كما انه و تاكيدا لذلك المفعول النسبي لقبول الإعتراض شكلا يقوم مبدأ عدم جواز تعكير حالة المتهم بان لا يضار بطعنه و مرجع تطبيق ذلك المبدأ هو بالأساس الحكم الغيابي المدعى بزواله شكلا و أصلا فلا يمكن للمحكمة المتعهدة بالنظر في الإعتراض أن تسلط على المتهم عقابا أشد من ذلك الذي صدر به الحكم الغيابي يضاف إلى ذلك ان حصر الطاعن بالإعتراض طعنه في الجانب الجزائي من الحكم الغيابي المعترض عليه يعفيه من إستدعاء القائم بالحق الشخصي المحكوم له بالتعويض بموجب الحكم الغيابي تطبيقا لأحكام الفصل 175 من م.إ.ج ثم إن قبول الإعتراض نفسه يبقى جائزا إلى إنقضاء أجل سقوط العقاب طبق الفصل 176 من نفس المجلة و هو ما يؤكد نية المشرع في عدم تمتيع المتهم بأجلين مختلفين…”
و في هذا الإطار إعتبرت محكمة التعقيب صلب قرارها عدد 50787 المؤرخ في 08/04/2004 أن المحكمة المتعهدة بالإعتراض على حكم غيابي ملزمة بمعاينة آجال سقوط العقاب لترتيب الآثار القانونية كما إعتبرت صلب القرارالتعقيبي عدد 3911 المؤرخ في 31/10/2005 أن سريان أجل سقوط الدعوى العمومية يمتد من تاريخ إرتكاب الفعل المجرم إلى تاريخ الإحالة.
عموما فإنه من المنطقي واقعا و قانونا ان الإعتراض على الحكم الغيابي لا يعني إندثاره و إعتباره كأن لم يكن إعمالا لمبدأ نسبية الأثر الإلغائي للإعتراض مما ينتج عنه عدم جواز إمكانية التصريح بسقوط الدعوى بمرور الزمن بعد صدور حكم غيابي رغم الإعتراض عليه و إنما على المحكمة معاينة تقادم العقوبة من عدم ذلك و يكون ذلك قبل البت في شكليات الإعتراض بإعتبار أن التصريح بسقوط العقاب هو من صلاحيات الجهة المكلفة بالتنفيذ و هي النيابة العمومية و إنما تقضي المحكمة كلما تبين لها تحقق آجال سقوط العقاب برفض الإعتراض من الناحية الشكلية.