النظام العسكري في بلدانا: حل أم مشكل؟
قد تضل الثورة طريقها أو تعجز عن تحقيق أهدافها أو تخفق في مواكبة أمال والتوقعات الشعبية المنبثقة عنها، فتعاني الديمقراطية من بعض الفوضى وتتعرض للعرقلة والجمود والتأخير السياسي. فهل يكون من الأفضل لنا أن نترك قيادة عسكرية مستقرة تتولى زمام الأمور؟ هذا السؤال كثيرا يردده بعض النخب لا ندري إن كانت بقصد أو بغير قصد، بوعي أو بغير وعي! فقد يكون هذا التفكير لدى بعض النخب نابعا عن خيبة أمل في الموجود ويأس من النخب المتحزبة التي أنهكها العجز وقطع أوصالها التكالب على السلطة. فيكون بذلك أصحاب هذا الرأي كالتي نقضت غزلها بعد قوة أنكاثا.
فكل مصائب العالم الثالث عامة والعرب خاصة متأتية من الاعتقاد بأن الإصلاح يكون من القمة في اتجاه القاعدة، وأن القائد الأوحد يمكن له أن يبني مجتمعا متحضرا.. فلا ريب في هذا الصدد أن كل الكوارث التي أورثتنا التخلف عن ركب الأمم المتقدمة، وما تعانيه شعوبنا من تصحر ومهانة اليوم، كان مرده عقلية حكم ” الفارس المغوار” و”بيان رقم1″ الذي يأتي مبشرا بطلوع فجر جديد، و”عهد جديد” أو “تصحيح المسار” مبشرا أيضا بالقضاء على الفساد والاستعمار وأعوانه وعلى التخلف ومخلفاته والالتحاق بركب الأمم المتقدمة، واعدا بالحرية والديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات… الخ من الشعارات البراقة التي يتخذها مبررا لتغيير رموز النظام الحاكم، وليس لتغيّر طبيعة نظام الحكم. فتنساق الشعوب المكبوتة في تأييد منقطع النظير للحاكم الجديد/ القديم، دون أن يكون لها أدنى الضمانات منه لتحقيق شعاراته وقدرته على إصلاح ما عجز عنه سلفه. بعد أيام قليلة تصاب تلك الشعوب بالإحباط والخيبة ما إن يستقر الأمر للمجلس العسكري حتى يعلن حالة الطوارئ المستمرة ويتحول إلى ملك عضوض في غياب مؤسسات شرعية للدولة. فيكمم الأفواه بإسم مصلحة الوطن، وعوض أن يحارب الفساد يتحول هو نفسه إلى فساد ومفسدا.. وبدل القضاء على مخلفات الاستعمار ينقلب إلى عميل له.. فهذا هو وضعنا ومن شابهنا من دول العالم المتخلف منذ أكثر من نصف قرن ولا يزال للأسف الشديد. فهؤلاء “الفرسان”: لا أرضا قطعوا ولا ظهرا ابقوا..
وعليه، فالمشكلة الحقيقيّة في بلداننا لا تكمن فيمن يحكم وإنما كيف يحكم. فأوضاع أوطاننا البائسة هي نتيجة حتمية لتلك السياسات وذاك التفكير.. والخروج منها لا يكون إلا ببناء مؤسسات مدنية صلبة تقتنع الشعوب بنجاعتها وضرورة الدفاع عنها قبل القادة.. وهذا في رأيي يستدعي وقتا طويلا ونحن ألان مازلنا في بداية الطريق إذ أن المرحلة الانتقالية هي من أصعب المراحل.. فقد نخطأ ونكون واهمين إذا تصورنا أن هذه المرحلة ستتغير فيها الأوضاع بمجرد وضع الأسس للدولة الحديثة أو أن يقودها فرد “شجاع” ( أو مجموعة) مهما كانت نزاهته ووطنيته وعزيمته وانضباطه .. ونخطأ كذلك إلى حد الوهم أيضا عندما نظن أنّ ما أفسده الفاسدون والمفسدون عبر عشرات السنين يمكن إصلاحه في سنوات معدودة.. فمقاومة قوى الردة والفساد المعششين في أركان الدولة والمجتمع، يستدعي حربا طويلة الأمد كحرب الاستنزاف، خاصة في ظل نخب مشتتة استولت عليها النرجسية وحب الذات، مازالت للأسف تعيش على أطلال الحرب الباردة منتصف القرن الماضي، وصراعاتها الوهمية ونقاشاتها البيزنطية داخل أروقة الجامعات..فضلوا وأضلوا.
لم تتقدم الأمم المتقدمة من قبلنا إلا نتيجة نضالات لسنين عديدة وجهد جهيد في تربية مجتمعاتهم وبناء مؤسسات ثابتة. فعملوا منذ البداية على تأمين الكلمة والروح .. لأنهم تعلموا من تجاربهم السابقة بان الفرد المسلوب الحرية والإرادة، لا يمكنه أن يُنتِج أو يُفكر أو يتطوّر.. قال عنترة يوما لأبيه عندما قاله” كُرّ يا عنترة”.. حينما أغار بعض العرب على عبس وأستاقوا إبلهم. فرد عنترة المزهود فيه من أبيه والمعتبر من العبيد لأنه لا يُشبههم في لون البشرة: العبدُ لا يحسن الكَرّ إنّما يحسنُ الحِلاب والصّر، فقال له أبوه: كُرّ وأنت حُر. فكرّ عنترة على العدو وقاتل القوم قتالاً شديداً حتى هزمهم واسترد منهم الإبل قبيلته.
ربما هناك من يستدلّ بمثل بالجنرال ديغول ذلك الفارس الذي أنقذ فرنسا مرتين وأرسى دعائم الجمهورية الفرنسية الخامسة.. هذا من حيث التاريخ صحيح ولكن ديغول جاء إلى الحكم سنة 1958 بلباس مدني وعقلية مدنية قلبا وقالبا وبدعوة من مؤسسة البرلمان وليس من قيادة الأركان، عقب بيان رقم واحد.. ثم لم يكن حضوره الحتمي في تلك الفترة من تاريخ فرنسا لمحاربة الفساد وإعادة بناء مؤسسات الدولة فحسب بقدر ما جاء لتطويرها وإصلاح العجز السياسي الذي كانت تتخبط فيه الجمهورية الرابعة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وما سببه هذا الارتباك السياسي من هزائم وضربات موجعة للدولة الفرنسية إبان حرب الهند الصينية ( ديان بيان فو) أو حرب الجزائر.. ورغم انه وقع الاستنجاد به للإنقاذ، فقد استقبله الشعب الفرنسي وخاصة النخب، بحذر شديد لخلفيته العسكرية مما دفعه إلى طمأنتهم بقولته الشهيرة لهم بكل وضوح في أول ندوة صحيفة له في 19 ماي 1958:
«Pourquoi voulez-vous qu’à 67 ans, je commence une carrière de dictateur?»
ورغم زعامته وبصماته في إصلاح المؤسسات الفرنسيّة، فانه تعرض للتآمر وصل حد محاولة الاغتيال، وتظاهر الشعب الفرنسي ضده بعد عشر سنين وطالبوه بالتنحي سنة 1968 فانسحب من الحياة السياسية سنة 1969 نزولا لرغبتهم رغم أنه أول رئيس منتخب انتخابا مباشرا.
فالنظام المدني مهما كانت مساويه، فإنه يبقى النظام الأقل سوء من أي نظام عسكري مهما كانت رمزية حاكمه. وإذا هناك شيء يفتخر به التونسيون عن غيرهم من الشعوب العربية قبل الثورة وبعدها، هو جيشهم الوطني الذي كان ولا يزال إسما على مسمّى بأتم معنى الكلمة: الجيش المحافظ على العقيدة العسكريّة والعقليّة التمدنيّة بمفهومها الحضاري وهو الاستثناء في الوطن العربي..
محمد العماري ـ باريس