الاستقـــــــــــــــــــلال بين الحقيقــــــة والخــــــــــــيال
روى لي ذات مرة صديق وزميل لي سابقا قصة طريفة منذ حوالي 40 عاما، أتذكرها كل ما رأيت القوم يخوضون في التاريخ الوطني، الكل يغني حسب موال ليلاه. قال صاحبي في سنة 1955/1956 أراد جار لنا الذهاب الى سوق مارث الذي يبعد عنا حوالي 30 كلم.. وهو السوق الأسبوعي الجامع أين يتزود قاصده من البضائع بكافة أصنافها، وكذلك الأخبار المحلية والوطنية في غياب وسائل الاتصال آنذاك… وبما أن التّسوّق عند أهل القرى غير ميسر لعدة عوامل ليكون كل أسبوع.. فانه يكون عادة مرة في الشهر أو الشهرين أو كلما دعت الحاجة. فتراهم يغتنمون فرصة تسوّق احدهم حتى يوصوه لما يحتاجون.. ومن بين ما أوصى به القومُ الجارَ: “شُوف لينا فمّاش خبر..يا لِندَرَى استقلينا وإلا مازلنا”…(استقصي لنا الأخبار هل تحصلت بلادنا على استقلالها أم لا تزال).
ركب الجار راحلته وقصد السوق، فلبى كل حاجاته وطلبات أهله وعشيرته، إلا سؤالهم عن الاستقلال، فقد غفل عنه الرجل رغم مكوثه في السوق كامل اليوم. عند رجوعه مع الغروب، اجتمع أهل القرية من حوله: البعض جاء لتسلم حاجته والبعض ليستمع أخبار السوق وأحوال الناس.. فهذا يسأل عن ثمن الغنم والأخر عن الدواب وغيره عن ثمن “القمح والشعير”… وكذلك أخبار الغيث النافع…الخ
وأخيرا قالوا له وهل استخبرت لنا عن الاستقلال؟ فقال لهم:” الكِذِبْ عَلَى رّبِّي حَرّام.. بَاش نَشَدتْ.. رَانِي مَا نَشَدتَشْ (لم أسأل صراحة).. لَكِن رَاني شُفتْ عَمَّار بِن سَالم يَقْرَا فِي الجَريدَة.. وخَليفَة خَوه يَضحَك… تَقرِيب اسْتَــقَــلّينَا يَا جَمَاعَة”.
والحديث قياس.. بعد 64 سنة من الاستقلال وتونسة المؤسسات نجد أنفسنا في مرحلة “عمار بن سالم وخليفة خوه” .. أو كذلك بعقلية مثل آخر: وهو مناضل من أنصار صالح بن يوسف والأمانة العامة، غادر البلاد منذ سنة 1955 فتوقف عنده التاريخ عند ذاك التاريخ وعاش رافضا لحكم بورقيبة والدولة الوطنية بايجابياتها وسلبياتها وبقي المسكين يصدر البيانات من منفاه في جنيف باسم الحكومة المؤقتة حتى سنة 2000.. ولم يرجع من منفاه إلا في تابوت سنة أواخر سنة 2010.. فنحن بقينا في غياب الوضوح بين العقلية العدمية من ناحية والمبالغة وعبادة الأشخاص من ناحية أخرى. فهذا ينفي الاستقلال وهذا يقره وأخر يشكك في وجوده أصلا..والكل يروي حسب زاويته الخاصة ومصلحته الخاصة وخلفيته الخاصة في النفي أو في الإقرار.. والغريب في الأمر أن اغلب المناكفات في هذا الموضوع تأتي من جيل تعلم في مدارس الدولة الوطنية، ولم يعش أو يعايش تلك المرحلة القاتمة من تاريخ تونسنا العزيزة ( فترة الحرب الأهلية بين أنصار الحبيب بورقيبة وأنصار صالح بن يوسف).. نعم ستبقى السيادة الوطنية منقوصة طالما هناك من مازال تستهويه ثقافة دولة الاستعمار البغيض وليس ما تقدمت به تلك الدول في كافة أصناف العلوم.. سوف يبقى الاستقلال منقوصا طالما لم يٓبْنِ التونسيون اقتصادا قويا يُمتّن السيادة ويقطع مع مُخلّفات الاستعمار.. سيبقى الاستقلال منقوصا طالما نرى نهب ثروة البلاد من أبنائها عبر التهرب الجبـــــائي والتّحيّـــل الاقتصادي وعقلية الغنيمة و”رزق البايليك”.. سيبقى الاستقلال منقوصا طالما الفساد ينخر ويعشش في مؤسسات الدولة، سيبقى الاستقلال منقوصا طالما لا يزال السارق يتمتع بفرحتيــــــن: فرحة السرقة وفرحة الإفلات من العقـــــــاب… سيبقى الوطن في خطر دائم طالما هناك نخب تسفه بعضها البعض وتتوجس من بعضها البعض وتشيطن بعضها البعض..سيبقى الوطن في خطر طالما أرضه مستباحة للاستخبارات الأجنبية والإرهاب الداخلي والخارجي.. سيبقى الوطن في خطر وسيادته منتهكة من قبل السفارات الأجنبية التي لم تعد تلتزم حدودها وفق الأعراف الدبلوماسيّة. ستبقى بلادنا في فوضى طالما لم تَسُد ثقافة المواطنة واحترام مؤسسات الدولة والقانون والعدالة بين المواطنين والقطع مع الحيف بين جهات الوطن. هكذا نرى تونس وهكذا نتصورها وهكذا نحبها أن تكون وهكذا يكون استقلالها تاما وسيادتها كاملة وخيراتها لأبنائها… دون هذا.. ربما يأتي يوم لا قدر الله، نخسر فيه الأرض والعـــرض.. فالأمر جِدُّ حرج.. الخطر يترصدنا من كل جانب.. فهناك تشابه لمجريات التاريخ بين الواقع الحالي وفترة ما قبل الاستعمار في نهاية القرن التاسع عشر(1861/1881).. نسأل الله السلامة والحفظ للوطن وأهله ولكل من أحبه بإخلاص.
محمد العماري.