الإستشفاء الوجوبي للمصابين بفيروس كورونا
إعداد: جابر غنيمي
المساعد الأول لوكيل الجمهورية بالمحكمة الإبتدائية بالمهدية
دكتور في القانون
مدرس جامعي
المقدمة:
دفع تفشي فيروس ” كورونا “كوفيد-19” بطريقة مفزعة و فتاكة دول العالم إلى إتخاذ عدة إجراءات و تدابير تهدف إلى الحد منه، فوقع غلق الحدود البرية و البحرية و الجوية و الفضاءات و المساحات التجارية و المطاعم و المقاهي و الملاهي و المناطق الصناعية، و تعليق الأنشطة الرياضية و الدينية و الثقافية و التعليمية، و فرض الحجر الصحي و منع التجول، و خلق عدة آليات قانونية لمجابهته… و كغيرها من الدول عملت تونس على مجابهة هذا الوباء، و ذلك بإتخاذ عدة تدابير وقائية، و كذلك بإيجاد تدابير قانونية للتعامل مع المصابين بفيروس كورونا، فصدر الأمر الحكومي عدد 152 لسنة 2020 المؤرخ في 13 مارس 2020، و الذي إعتبر في فصله الأول مرض فيروس كورونا الجديد (كوفيد 19) من صنف الأمراض السارية المنصوص عليها بالمرفق الملحق بالقانون عدد 71 لسنة 1992 المؤرخ في 27 جويلية 1992، و أخضع المصابين به للأحكام المتعلّقة بوجوبية الفحص والعلاج والاستشفاء الوجوبي بغرض العزل الإتقائي بنفس الشروط الواردة بالأحكام التشريعيّة والترتيبيّة الجاري بها العمل المتعلقة بالأمراض السّارية. و لقد نص الأمر الحكومي عدد 152 المؤرخ في 13 مارس 2020 على إجراء للتعامل مع المصابين بفيروس كورونا و هو الإستشفاء الوجوبي الذي يشبه نوعا ما تدبير الإيواء الوجوبي الذي تضمنه القانون عدد 3 لسنة 1992 المؤرخ في 3 أوت 1992 المتعلق بالصحة العقلية و بشروط الإيواء في المستشفى بسبب إضطرابات عقلية و المنقح بمقتضى القانون عدد 40 لسنة 2004 المؤرخ في 3 ماي 2004 ، و الذي يتعلق بالأشخاص الذين تشكل إضطراباتهم العقلية خطرا على سلامتهم أو على سلامة غيرهم.
إن مجابهة وباء الكورونا يقتضي تفعيل تدبير الإستشفاء الوجوبي من طرف القضاء الذي يبقى دوره متميزا و محوريا في هذا المجال، فالمحكمة تتدخل في إتخاذ القرار و النيابة العمومية تتدخل عند مخالفة القرار. إن فهم الإستشفاء الوجوبي يقتضي تحليل شروطه و نهايته ( الجزء الأول) و جزاء مخالفته ( الجزء الثاني).
الجزء الأول: شروط و نهاية الإستشفاء الوجوبي
تتخذ المحكمة قرار الإستشفاء الوجوبي في حالات معينة ( الفقرة الأولى) و يمكن أن يقع وضع حد له ( الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: حالات الإستشفاء الوجوبي
لقد نص الفصل 12 من قانون الأمراض السارية المؤرخ في 3 أوت 1992 المنقح بمقتضى القانون عدد 7 لسنة 2007 مؤرخ في 12 فيفري 2007 على أن قرار الإستشفاء الوجوبي يصدر عن المحكمة الابتدائية بتركيبتها الثلاثية المختصة ترابيا، والمنتصبة للقضاء إستعجاليا بناء على طلب من وزير الصحة العمومية أو من يمثله، وذلك بعد سماع المريض، وعند الاقتضاء من يمثله. وينفذ قرار الإستشفاء الوجوبي على المسودة. و لقد حدد الفصل 11 من قانون الأمراض السارية لعام 1992 حالات إصدار قرار الاستشفاء الوجوبي، فيمكن إصداره من طرف المحكمة لغرض العزل الإتقائي ضد الأشخاص المصابين بفيروس كورونا وذلك في الحالات التالية: – إذا رفضوا مباشرة أو متابعة العلاج المحدد لهم رغم إلزامهم بذلك مع إثباته، فلقد فرض الفصل 9 من قانون الأمراض السارية على كل شخص يعلم أنه مصاب بفيروس الكورونا أن يعرض نفسه على طبيب للفحص والمعالجة. و في حالة رفضه العرض تلقائيا يمكن للسلطة الصحية أن تلزمه بأن يعالج نفسه بصفة منتظمة مع إثبات ذلك بتقديم شهائد طبية في الآجال التي تحددها له السلطة الصحية نفسها، و يتم متابعة العلاج إما لدى طبيب من ذوي الممارسة الحرة حسب اختيار المريض أو بأحد الهياكل الصحية العمومية المعنية من قبل السلطة الصحية. و عند رفض المعالجة يقع استصدار قرار في الإستشفاء الوجوبي. – إذا سعوا عمدا من خلال سلوكهم إلى إنتقال المرض المصابين به إلى أشخاص آخرين.
و يتم الإستشفاء الوجوبي بأحد الهياكل الصحية العمومية، و يقرر لمدة أقصاها ثلاثة أشهر قابلة للتجديد عند اللزوم من طرف المحكمة الابتدائية المختصة. أما الإيواء الوجوبي الذي نص عليه القانون عدد 3 لسنة 1992 المؤرخ في 3 أوت 1992 المتعلق بالصحة العقلية و بشروط الإيواء في المستشفى بسبب إضطرابات عقلية و المنقح بمقتضى القانون عدد 40 لسنة 2004 المؤرخ في 3 ماي 2004 فيتعلق بالأشخاص الذين تشكل إضطراباتهم العقلية خطرا على سلامتهم أو على سلامة غيرهم ، ويتم بقرار من رئيس المحكمة الابتدائية التي يوجد بدائرتها محل إقامة الشخص الذي سيقع إيواؤه. ويرفع الأمر لرئيس المحكمة بطلب كتابي صادر عن أي سلطة صحية عمومية أو من وكيل الجمهورية. ويكون المطلب مشفوعا برأي كتابي. و يأذن رئيس المحكمة الابتدائية بإيواء الأشخاص الذين تشكل إضطراباتهم العقلية خطرا على سلامتهم أو على سلامة غيرهم بأقرب مؤسسة إستشفائية عمومية من مقر إقامة الشخص الذي سيخضع للإيواء يتوفر بها قسم مختص في الأمراض العقلية. ويتم ذلك بعد سماع المريض بالجلسة من قبل رئيس المحكمة الابتدائية أو من ينوبه، وإن تعذّر ذلك فيتم سماعه بمقر إقامته (الفصل 24 من القانون عدد 3 لسنة 12)، وذلك لمدة أقصاها ثلاثة أشهركما هو الشأن بالإستشفاء الوجوبي، ويمكن تجديدها لنفس تلك المدة كلما دعت الضرورة لذلك، بعد أخذ رأي معلل من الطبيب النفساني للمؤسسة ( الفصل 26 من القانون عدد 3 لسنة 1992).
الفقرة الثانية: نهاية الإستشفاء الوجوبي:
يمكن وضع حد للاستشفاء الوجوبي إما: – بمقرر من السلطة الصحية ( و التي تتمثل وفق الفصل 5 من قانون الأمراض السارية في كل طبيب أو طبيب أسنان أو صيدلي أو إحيائي راجع بالنظر إلى وزارة الصحة العمومية ويعمل في نطاق اختصاصاته أو تحصل على تفويض خاص لممارسة الصلاحيات الخاصة المنصوص عليها بقانون الأمراض السارية). – أو بقرار من المحكمة الابتدائية التي أذنت به وذلك في صورة رفض السلطة الصحية. وتبت المحكمة في الطلب المذكور وفق إجراءات القضاء الإستعجالي. و يصدر القرار في الحالتين بناء على طلب من المريض أو من احد أصوله أو فروعه أو من قرينه. كما ينتهي الاستشفاء الوجوبي آليا إذا لم يقع تجديد مدة الإستشفاء التي تكون لمدة أقصاها ثلاثة أشهر. و يرفع قرار الإيواء الوجوبي كذلك عند عدم صدور قرار في التمديد. كما يمكن لرئيس المحكمة المختصة ترابيا في كل وقت أن يضع حدا للإيواء الوجوبي في المستشفى بعد أخذ رأي طبيب نفساني بمؤسسة الإيواء الذي يكون كتابيا ومعللا أو بناء على اقتراح من اللجنة الجهوية للصحة العقلية ( الفصل 26 من القانون عدد 3 لسنة 1992). و يتم خروج المرضى الذين تم إيواؤهم وجوبا في المستشفى عندما يصرّح الطبيب النفساني المباشر بمؤسسة الإيواء ضمن شهادة طبية بأنه يمكن الإذن بالخروج. وفي هذه الحالة يجب على مدير مؤسسة الإيواء تضمين ذلك التصريح بالدفتر الخاص لذلك وعرض الأمر في ظرف ثمان وأربعين ساعة على رئيس المحكمة المختصة ترابيا الذي يبتّ في شأنه دون تأخير وعليه إعلام إدارة المستشفى بقراره في ظرف ثمان وأربعين ساعة على أقصى تقدير وبانقضاء ذلك الأجل يتم وجوبا رفع الإيواء (الفصل 28 من القانون عدد 3 لسنة 1992 ).و يمكن للمحكمة أو السلط الصحية التي قررت وضع حد للإستشفاء الوجوبي أن تفرض على المريض بطلب من وزير الصحة العمومية أو من يمثله، المثول في مواعيد دورية محددة لدى المؤسسة التي وقع استشفاؤه بها ليخضع لفحوص المراقبة و العلاج التي تتطلبها حالته الصحية. و هو نفس الأمر بالنسبة للإيواء الوجوبي، فيمكن لرئيس المحكمة الابتدائية التي يوجد بدائرتها محل إقامة الشخص الذي تم إيواؤه، بناء على طلب من السلطة الصحية أن يأذن بعد رفع الإيواء، بمثول المريض لدى المؤسسة التي تم إيواؤه به ( الفصل 30 من القانون عدد 3 لسنة 1992).
الجزء الثاني: جزاء مخالفة قرار الإستشفاء الوجوبي
يجرم القانون مخالفة قرار الإستشفاء الوجوبي ( الفقرة الأولى) و يتم تنفيذ العقاب في فضاءات معينة ( الفرة الثانية)
الفقرة الأولى: العقوبات
يعاقب الفصل 19 من قانون الأمراض السارية كل شخص وقع استشفاؤه وجوبا و يغادر من تلقاء نفسه المؤسسة التي وقع قبوله لديها، بالسجن لمدة تتراوح بين شهر وستة أشهر. و نلاحظ أن النص لم ينص على عقوبات مالية. و كان من الأفضل إعتماد عقوبات مالية و عقوبات أخرى مثل الإقامة الجبرية أو المنع من السفر أو سحب رخصة السياقة و شهادة التسجيل بالنسبة للعربات أو حجز الوسيلة التي إستعملها المصاب بالكورونا في تنقلاته. و يطرح إشكال بخصوص يتمثل فيما تطبيق أحكام الفصل 53 م ا ج ؟ وجدير بالملاحظة أن مخالفة قرار الإيواء الوجوبي لا يترتب عنه أي جزاء.
الفقرة الثانية: تنفيذ العقوبة
الأصل أن تنفذ العقوبات السجنية بالسجن أو الإصلاحية إذا كان مرتكب الجريمة طفلا لكن الأمر يختلف بالنسبة للمصابين بالكورونا باعتبار أن تنفيذهم العقاب بالأماكن المذكورة يؤدي إلى تفشي المرض بتلك الأماكن و بالتالي انتقال العدوى إلى باقي السجناء و أعوان و إطارات المؤسسات السجنية، و لذلك فقد نص الفصل 20 من قانون الأمراض السارية على أن تنفذ تلك العقوبات في وسط إستشفائي معد لذلك. و لكن من الجدير القول إلى افتقاد تونس إلى حد الآن لأماكن إستشفائية معدة لتنفيذ العقوبات البدنية المحكوم بها ضد المصابين بفيروس كورونا الذين ارتكبوا جرائم مخالفة الإستشفاء الوجوبي أو قاموا بتعمد نقل العدوى إلى الغير. كما أن إعداد هذه الأماكن يقتضي تخصيص إعتمادات ضخمة ليس للدولة القدرة على توفيرها في هذه الظروف التي تعيشها البلاد.
الخاتمة:
لئن يشكل الإستشفاء الوجوبي من التدابير التي يمكن للمحكمة إتخاذها في إطار مجابهة إنتشار وباء كورونا إلا أنه يبدو أن هذا الإجراء مقيد و قاصر لعدة أسباب:
- فلا يمكن استصدار قرار الإستشفاء الوجوبي ضد المشتبه بإصابتهم بفيروس كورونا، و لا يطبق على المصابين بالفيروس الذين يقبلون الفحص و العلاج، و إنما ينحصر مجال تطبيقه على الأشخاص المصابين بفيروس كورونا و الذين سواء رفضوا مباشرة أو متابعة العلاج المحدد لهم رغم إلزامهم بذلك مع إثباته،أو إذا سعوا عمدا من خلال سلوكهم إلى انتقال المرض المصابين به إلى أشخاص آخرين.
- لا يمكن إستصداره أو تجديده إلا من طرف المحكمة الابتدائية بتركيبتها الثلاثية، و كان من الأفضل منح الإختصاص لرئيس المحكمة كما هو الشأن للإيواء الوجوبي، و لما لا حاكم الناحية بإعتبار كثرة الحالات في كل المناطق، تبسيطا و تسهيلا للإجراءات و في إطار تقريب القضاء من المواطن.
- طلب الإستشفاء الوجوبي يكون بناء على طلب من وزير الصحة العمومية أو من يمثله، و لا يخول القانون لوكيل الجمهورية طلب ذلك كما هو الشأن بالإيواء الوجوبي، و هو أمر غريب بإعتبار أن النيابة العمومية تسهر على حماية المجتمع.
- إستصدار قرار الإستشفاء الوجوبي يكون بعد سماع المصاب بالفيروس أو من يمثله قانونا عند الإقتضاء، فكيف يقع سماع المصاب بالكورونا الذي قد يتسبب في نقل العدوى للمحكمة، و ماهو الحل في صورة عدم وجود ممثل قانوني، و ما الجدوى من سماع المصاب أو الممثل القانوني؟
- عدم وجود هياكل إستشفائية عمومية كافية قادرة على إستيعاب المصابين بفيروس كورونا الصادرة في شأنهم قرارات في الإستشفاء الوجوبي.
- عدم قدرة الدولة على التكفل بمجانية العلاج للمصابين بفيروس كورونا إذا كان عددهم كبير.
- عقوبة مخالفة قرار الاستشفاء الوجوبي هي عقوبة بدنية، و لم يقع التنصيص على عقوبة مالية.
- غياب وسط استشفائي معد و مجهز لإيواء المصابين بفيروس كورونا الذين صدرت عليهم أحكام بدنية بسبب مخالفتهم لقرار الإستشفاء الوجوبي.
لذا نحن نقترح: - التركيز على الجانب التوعوي و التحسيسي، و الإلتزام الذاتي بالحجر الصحي بالنسبة لجميع المواطنين، فليلتزم كل شخص بالحجر الصحي و الخضوع للإجراءات و التدابير التي وضعتها الدولة، و على المجتمع المدني معاضدة مجهود الدولة في ذلك.
- إعتماد عقوبات مالية بدل العقوبات البدنية، نظرا لحالة السجون الآن، و لسرعة انتشار فيروس كورونا بين السجناء إن تمت العدوى.
- التخفيف بعض الإجراءات غير الضرورية عند استصدار قرار الإستشفاء الوجوبي
- تهيئة فضاءات كافية و مهيئة لقبول المصابين بفيروس كورونا الصادرة في شأنهم قرارات بالإستشفاء الوجوبي.