
في وقت يتضاعف فيه الحديث عن العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، تعيش مئات العائلات في الأرياف التونسية واقعًا مختلفًا تمامًا: عطش يومي، وغياب حلّ جذري، وتهميش مستمر لا يليق بدولة ينصّ دستورها على الحق في الماء باعتباره حقًا أساسيًا.
في ولاية تلو أخرى، تتكرر القصة نفسها: جمعيات مائية تُدار خارج أطر الحوكمة، شبكات مهترئة، انقطاعات طويلة ومتكررة، وفواتير ترتفع دون أن يقابلها تحسن في الخدمات.
والأخطر أن هذه الهياكل، التي كان من المفترض أن تُحقق المساواة في النفاذ إلى الماء، تحولت في بعض الجهات إلى مراكز نفوذ محلية لا تخضع لرقابة فعلية ولا تحترم قواعد الشفافية.
جمعيات مائية خارج الرقابة… والمواطن يدفع الثمن
أُنشئت الجمعيات المائية في الأصل لتأمين حلول مستدامة ومشاركة فعلية للمواطنين في إدارة الموارد المائية.
لكن الواقع يكشف عن اختلالات خطيرة:
-
ضعف التسيير الإداري والمالي
-
غياب الرقابة المنتظمة من وزارة الفلاحة
-
عدم تحديث الشبكات منذ عقود
-
سوء التوزيع وتفضيل مناطق على أخرى
-
غياب الشفافية في الانتدابات والصفقات
وفي ظل هذا الفراغ الرقابي، يجد المواطن نفسه مجبرًا على شراء الماء في صهاريج بأسعار مرتفعة، في حين لا تبعد عنه الشبكة العمومية سوى بضعة كيلومترات.
وزارة الفلاحة… حضور غائب ورقابة شكلية
رغم الصعوبات المزمنة، لم ترتق تدخلات الدولة إلى مستوى الأزمة.
فالدعم الفني للجمعيات يكاد يكون منعدمًا، والإصلاحات الهيكلية مؤجلة، والتمويلات لا تصل إلا في حالات استثنائية.
إن غياب المتابعة الصارمة خلق بيئة تسمح بارتكاب تجاوزات، وتغذي فقدان الثقة بين المواطنين والقائمين على إدارة الموارد المائية.
إصلاح منظومة المياه الريفية… ضرورة وطنية ملحّة
لم يعد الأمر يحتمل المعالجة الترقيعية. تونس اليوم بحاجة إلى إصلاح شامل يضمن الحق في الماء لكل مواطن دون استثناء، عبر:
1. ضمّ الجمعيات المائية تدريجيًا إلى “الصوناد”
بما يضمن مهنية التسيير، الصيانة الدورية، وحسن توزيع الموارد.
2. فرض حوكمة ورقابة صارمة
د audits مالية سنوية – شفافية في الانتدابات – نشر التقارير للعموم.
3. تعصير الشبكات في المناطق الريفية
اعتماد تقنيات حديثة للحد من الضياع، مع ربط كامل القرى بالشبكة العمومية.
4. إنشاء وحدة وطنية مختصة بالعدالة المائية
تتولى مراقبة توزيع الماء في الريف، وتلقي شكاوى المواطنين، والتدخل عند الضرورة.
العدالة المائية… المعركة التي يجب أن تبدأ
إن مشهد العطش في الأرياف لا يليق بتونس.
ولا يمكن لمبدأ “المساواة بين المواطنين” أن يبقى مجرد نصّ دستوري، في حين يمشي أطفال في قرى بأكملها كيلومترات لجلب الماء.
السؤال اليوم لم يعد:
هل هناك أزمة؟
بل أصبح:
هل تتحرك الدولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟
هل سنشهد إرادة سياسية تُنصف الريف وتضع حدًا لسنوات طويلة من التهميش؟
وهل يكون 2026 عامًا للعدالة المائية الحقيقية… لا مجرد الوعود؟











