مقالات

حروب الجيل الرابع

حروب الجيل الرابع
بقلم : الدكتور جابر غنيمي
المساعد الأول لوكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد
مدرس جامعي
تُعرّف الحرب لغة كما ورد في معجم المعاني الجامع أنّها قتال بين فئتين، وجمعها حُروب وعكسها سِلْم، وإذا قيل استعرت الحَرْب؛ أي أنّها أصبحت شديدة وقوية، أمّا إذا قيل وضعت الحرب أوزارها، فهذا يعني أنّ القتال انتهى، ومصطلح الحَرْبُ بينهم سجال يعني أنّ الحرب انتهت دون فوز أو هزيمة أي من الأطراف المتحاربة للطرف الآخر، ودارُ الحَرْبِ هي بِلاد الأعداء، ورجل الحَرْبْ هو صاحب الخبرة في إدارة وتسيير المعارك الحربيّة.
وفي القانون الدولي العام فإن التعريف التقليدي للحرب هو أنّها عبارة عن نزاع مسلّح بين فريقين من دولتين مختلفتين؛ إذ تُدافع فيها الدول المتحاربة عن مصالحها وأهدافها وحقوقها، ولا تكون الحرب إلّا بين الدول، أمّا النّزاع الذي يقع ين جماعتين من نفس الدولة، أو النزاع الذي يقوم به مجموعة من الأشخاص ضد دولة أجنية ما، أو ثورة مجموعة من الأشخاص ضد حكومة الدولة التي يقيمون فيها، فلا يعد حرباً ولا علاقة للقانون الدولي به وإنما يخضع للقانون الجنائي، أما التعريف الحديث للحرب فقد تم توسيعه ليشتمل على أي نزاع مسلح ولو تم تتوافر فيه عناصر التعريف التقليدي من امتلاك الجماعة المسلحة لصفة الدولة، وإن كان النزاع قائم من قِبَل دولة لحسابها الخاص وليس لغرض جماعي، كما أصبحت النزاعات الأهلية التي تحدث في نفس الدولة تندرج تحت مسمى الحرب.
والحرب اليوم هي وضع نتيجة حاسمة للخلافات الدولية المرتبطة بالكيانات الاقتصادية والاجتماعية للدول المشاركة في الحرب؛ وذلك عن طريق الإجبار والقتال بعد أن يتعثّر حل الخلاف بالطرق السلمية؛ الأمر الذي يدعو كل دولة مشاركة في النزاع لأن تعطي لنفسها الحق في أن تكون الحكم الأول وصاحبة السلطة العليا في أي نزاع بهدف الدفاع عن مصالحها القومية وأهدافها، إذن فإنّ كلمة حرب تشير بمعناها اللغوي إلى القتال، وليس شرطاً أن تكون عادلة وإنما قد تكون لوقوع العدوان من طرف على طرف آخر؛ وهي عبارة عن صراع بين طرفين يسعى كلٌّ منهما للتغلب على الطرف الآخر وتدمير قوته وكيانه.
وتتنامى الحروب وتتطور في فنونها وأدواتها وطرق إدارتها عبر التاريخ من جيل إلى جيل شأنها شأن أي تطور طبيعي يطرأ على مناحي الحياة المختلفة فهي قدر محتوم على البشرية منذ قديم الأزل صورها مختلفة فتكون حيناً واقعاً مفروضاً للدفاع عن الأرض والعرض وتكون في حين آخر لتحقيق مطلب وحق أستعصي نيله بالطرق السلمية وتشتعل في صورة صراع بين طائفتين أو فئتين أو دولتين لتحقيق مكاسب معينة سواء إقتصادية أو سياسية أو أيدلوجية أو لتحقيق أغراضٍ توسعية يرى كل طرف أنها بمثابة حاجة ملحة لتأكيد وضع معين ، لكنها تبقى في النهاية تصرف غير عقلاني لا ينجو أحد من عواقبه لقسوتها وفظاظتها تصنف الحروب بأنها آخر وسيلة من وسائل فض المنازعات بين الدول , وقرارها يكون عادة بيد القادة السياسيين الذين لا يقدرون أبداً خطورتها ونتائجها ومع ذلك قلما يذكر التاريخ دورهم في أحداثها ، تتضمن أعمالها صراعاً مريراً يشمل إستخداماً مكثفاً لكافة مقومات الدولة  والقوات المسلحة بما يحقق الهدف الذي قامت من أجله , ومع تنتهي بتفاوض سلمي فيه الكثير من التنازلات التي قد تكون مهينة ومذلة دون النظر لعديد التضحيات وحجمها.
على الرغم مما قدمه الفكر الانساني من أفكار متقدمة لاقامة أنظمة غايتها سعادة الإنسان والمحافظة على كرامته ووطنه ونبذ الحروب وما قد يؤدي إليها من سلوك سياسي ومشاحنات ومنازعات لتحقيق أكبر مستوى من الأمن والآمان تحت قيم ومعايير اخلاقية تضمن للإنسان حقوقه إلا أن القصور البشري في فهم تلك المعايير هو ما يدفع بالحلول العنيفة لتسود وتصبح بذلك دول العالم ميادين للقتال والحروب فما أن تنطفىء نار حرب حتى تشتعل أخرى تدمر البشر والحجر وفوق كل ذلك فإن الحرب تفرض نفسها كواقع إجتماعي يستمد طبائعه من أخلاق الشعوب ذاتها بحيث تؤثر على بنية وسلوك أفراد المجتمع فما تتركه من حقد وخوف يجعلها تستمر في الخفاء حيناً من الزمن يترصد فيه كل طرف بآخر حتى تحين له فرصة الإنتقام ولا يمكن أن يلغي ذلك مبادرات التصالح السياسية , وهكذا حتى أن التاريخ يذكر حروباً قامت وأستمرت ردحاً من الزمان في صراع محتدم ولم تنتهي رسمياً إلا بإعتذار الدول لبعضها وهناك أخرى لا تزال جدوتها مشتعلة رغم أن المصالح تتغير مع الزمن .
خلال المراحل التاريخية التي مرت بها الشعوب في صراعاتها تطورت أجيال الحروب المتعاقبة لتلبي الإحتياجات المتزايدة لإدارة تلك الصراعات في شتى أنحاء العالم وبذلك إنتقلت أجيال الحروب عبر السنين من مرحلة إلى أخرى في تطور طبيعي حمل أفكاراً ورؤى أدت إلى تحديث كل منظومة الحرب من تدريب الأفراد إلى نوعية السلاح المستخدم إلى النظريات والخطط العسكرية المتبعة فيها ومن هذا المنطلق صنف خبراء الفكر العسكري الحروب تصنيفاً دقيقاً حسب الفترات التي دارت فيها وكذلك بحسب المعدات التي إستخدمت فيها , فكانت حروب الجيل الأول وهكذا تباعاً وأختص كل جيل من الحروب بنوع معين من التكتيكات والعمليات ونوعية الأسلحة والمعدات المستخدمة فيها.
هذه الإستمرارية في الحروب جعلت الخبراء العسكريون يعملون على تطوير آلياتها حتى تتوافق مع الزمان والمكان والتطور التقني والفني الذي بات يفرض نفسه على نوعية الحروب وبالتالي قسمت الحروب ومعداتها إلى أجيال متعاقبة يتوقف فهمها على طبيعة العمليات العسكرية التي تجرى فيها وطبيعة الأرض وأيضاً طبيعة الخصم.
وهنا يجدر القول بأن أجيال الحروب غير محددة بزمن وعدد سنين بل هي رهن لطبيعة الحرب ذاتها وتطورها الذي عادة ما يصاحب التطور الفكري والتقني للأمم والشعوب وبذلك قسمت الحروب إلى أجيال محددة كان آخرها الجيل الرابع
الجيل الأول من الحروب:
 هناك جدل حول بدايات الجيل الأول من الحروب، فهناك من يرى أنه بدأ مع بداية صراعات البشر، واستمر لأكثر من ثلاثة آلاف سنة، حيث كانت الحروب قائمة على حشد الجنود والقوات في مواجهة بعضهم بعضاً في الإمبراطوريات والدول القديمة، وهناك من يرى أن الجيل الأول من الحروب بمعناه الاصطلاحي ظهر عقب معاهدة وستفاليا عام 1648، التي أنهت نحو ثلاثين عاماً من الحروب في القارة الأوروبية، وأنتجت الدولة القومية بمفهومها الحديث المتعارف عليه حالياً في العلوم السياسية، وارتبط بظهور هذه الدولة مفهوم السيادة الوطنية، الذي أفرز بدروه مرحلة الجيوش بشكلها الحديث للدفاع عن حدود السيادة الوطنية ومقومات الدولة بمفهومها المتعارف عليه حتى الوقت الراهن، كما كانت الحاجة إلى الجيوش المنظمة مرتبطة أيضاً بوجود الدولة من زاوية الاتفاقات الدفاعية ومعاهدات التعاون العسكرية وغير ذلك من الإجراءات العسكرية التنظيمية التي تتطلبها العلاقات الدولية التي نشأت عقب معاهدة وستفاليا، التي بلورت أول شكل تنظيمي واضح المعالم للنظام الدولي في أوروبا. وعلى المستوى العملياتي انتقلت الحروب في الجيل الأول من الأدوات التقليدية نسبياً إلى أدوات قتال أكثر تقدماً وقتذاك، كما عرفت الجيوش التنظيمات حيث انتقلت الحروب من دائرة صراع بين قبائل ومناطق سيادة ومدن إلى صراعات بين دول ذات سيادة. وقد تجلى هذا الجيل من الحروب بشكل واضح وبلغ ذروته خلال الحروب النابليونية من حيث الاعتماد على العنصر البشري. ونستطيع القول إن الجيل الأول من الحروب عقب معاهدة وستفاليا تحديداً قد أسهم في غرس ثقافة عسكرية نظامية لا تزال هي قوام الجيوش حتى الآن، بغض النظر عن الأجيال التي توالت من هذه الحروب، حيث بقيت هذه الثقافة هي عماد الجيوش الحديثة، ولكن المفارقة أن الثقافة النظامية تحولت في حروب الجيل الرابع إلى نقطة ضعف استراتيجية خطيرة في الجيوش الحديثة، حيث بات يتعين على هذه الجيوش التي لا تتحرك سوى من خلال أنساق خططية معينة خوض حروب عصابات مع عصابات وتنظيمات عشوائية لا رابط بين عناصرها،ما حدّ كثيراً من فاعلية الجيوش النظامية في الحروب اللامتماثلة وفي مواجهة التهديدات غير التقليدية، الأمر الذي دفع المخططين العسكريين منذ حربي العراق وأفغانستان إلى تدريب القوات على خوض حروب المدن ومواجهة التمرد وحروب العصابات واللجوء إلى التشكيلات الصغيرة وتفكيك بنية التنظيم العسكرية المحكم لمواجهة هذا الخطر الجديد.
 الجيل الثاني من الحروب:
 انتقلت في هذا الجيل الحروب إلى مرحلة اكثر تقدماً على مستوى التخطيط العملياتي والأدوات الحربية، والتحركات القتالية، وبدأ التطور في العتاد يتمثل في المدافع البدائية التي يتم فيها قتل جيش العدو وتدميره عن بعد،وقبل حدوث أي اشتباكات مباشرة بين جنود الجيشين. وظهرت إرهاصات هذا الجيل خلال الحرب العالمية الأولى، برغم استمرارية الاعتماد على التشكيلات المنضبطة والعنصر البشري، وهذه كانت من أهم سمات الجيل الأول من الحروب. واعتمد هذا الجيل من الحروب بسرعة شديدة من جانب القوى الكبرى القائمة وقتذاك، حيث برز دور القوة المدفعية النيرانية كعامل حسم في الحروب، ولكن هذا الجيل ما لبث أن تراجع بسرعة في الحرب العالمية الأولى ولم يستمر طويلاً. ويعد هذا الجيل أقل أجيال الحروب بقاء، حيث تتفق معظم الأدبيات على أنه لم يدم طويلاً وظهر مع بدايات القرن التاسع عشر وانتهى خلال سنوات الحرب العالمية الأولى، وهناك أدبيات غربية تشير إلى أن حروب الجيل الثاني صممت من جانب الجيش الفرنسي في أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها، وقامت فكرتها على المثل الفرنسي “المدفعية تنتصر، المشاة تتقدم”،  وهو تكتيك قائم أساساً على قوة النيران/ الاستنزاف، وقد حافظت حروب الجيل الثاني على ثقافة الجيل الأول من حيث الثقافة النظامية للجيوش، كما حافظت على صناعة القرار الميداني العسكري بشكل هرمي مركزي وطبقاً لأوامر ودقيقة ومفصلة، وقد قدِّر للفرنسيين فضل تعليم الجيش الأمريكي ومشاة البحرية فنون الحرب من الجيل الثاني خلال الحرب العالمية الأولى، ومازالت تمارسه اليوم، مع استثناءات وفقاً للمهارات الفردية للقادة.
 الجيل الثالث من الحروب:
 شهدت الحرب العالمية الأولى بداية التطور نحو حروب الجيل الثالث، حيث أصبح فيها الاعتماد على التكنولوجيا والطائرات والدبابات والتجسس والمناورة العالية والسرعة الفائقة والهجوم من الخلف بدلاً من المواجهة المباشرة،والاستفادة من المعلومات التي توفرها الأقمار الاصطناعية، واعتمد هذا الجيل تغييراً واضحاً في التخطيط العملياتي، حيث عرفت الجيوش تغييرات في تكتيكات القتال والتحركات الخططية، واعتمدت على نقل المعارك إلى أرض العدو عبر التسلل والاختراق في العمق، والدفاع عبر الهجوم والدفاع في العمق مثل تلك التكتيكات التي استخدمتها القوات الألمانية في الحرب العالمية الأولى ضد فرنسا وبريطانيا، من أجل مواجهة الاعتماد على الخنادق وغير ذلك، والفكرة الأساسية هي الاعتماد على السرعة والمبادأة وامتلاك زمام المبادرة عملياتياً. كما تعد الحرب العالمية الثانية نموذجاً لحروب الجيل الثالث، حيث الاعتماد الواضح على شن الحروب الخاطفة وعمليات التسلل خلف خطوط العدو وغير ذلك من تكتيكات قتالية ميزت هذا الجيل. ولا تزال الكثير من تكتيكات الجيل الثالث للحروب ركيزة أساسية في أداء جيوش القوة العظمى الوحيدة في العالم الآن، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، وبطبيعة الحال بقية جيوش العالم في الدول المتقدمة والنامية على حد سواء. 
واستغرق هذا الجيل من الحروب على وجه التقريب نحو سبعة عقود تقريباً، أي منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى ظهور الجيل الرابع خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين. وقد عرف الجيل الثالث من الحروب باسم حروب المناورات، وتم تطويره من قبل الجيش الألماني في الحرب العالمية الأولى كما ذكرنا، وبحلول عام 1918، كانت الحرب الخاطفة كاملة من الناحية المفاهيمية، وغرس هذا الجيل من الحروب مفاهيم جديدة مثل الانضباط الذاتي بدلاً من الانضباط المفروض، وهذا الأمر مستوحى من الجيش الألماني تحديداً، واستهداف العدو بتكتيكات أكثر ذكاء مثل الاستدراج والأفخاخ والعوامل النفسية وغير ذلك، وقد وضعت الأسس الفكرية العامة لتكتيكات الحرب الخاطفة في بريطانيا خلال العشرينيات من القرن الماضي بواسطة الكاتبين العسكريين المشهورين: (ليدل هارت)، والجنرال (فولر)، وكان يُطلق على هذه الحرب في ذلك الحين: (السيل المتدفق)، وسماها الألمان عام 1929م الحرب الصاعقة (بليتز كريج)، وقد طبّقت أساليب الحرب الخاطفة من قِبل الألمان في الحرب العالمية الثانية على يد الجنرال الألماني (جودريان) الذي يُطلق عليه (أبو المدرعات) والجنرال (رومل) في أثناء معارك (1941 -1943م)، في الصحراء الليبية والمصرية، وقد استوحى العدو الإسرائيلي فيما بعد هذه الأساليب واعتبرها عنصراً رئيساً في نظريته القتالية القائمة على الضربة الإجهاضية المضادة المباغتة، ونقل الحرب بسرعة إلى أرض الخصم، ويعتمد نجاح الحرب الخاطفة على عنصر المفاجأة، وبطء حركة ورد فعل الخصم، وعدم إدراكه أو استيعابه لأساليب حرب الحركة، وضعف سيطرته الجوية. ويعرف الجيل الثالث من الحروب أيضاً بمصطلح “الحرب الباردة” وهي حرب غير معلنة، بين طرفي الصراع تقوم على استخدام جزئي متقطع للقوة العسكرية والاعتماد الأكبر على القوة الناعمة مستخدمة في ذلك أسلحة الإعلام وأعمال أجهزة الاستخبارات لخلق نوع من الأزمات والتوتر السياسي لدى العدو ويدفع هذا النوع من الحروب طرفي الصراع إلى التسابق في مجال تطوير السلاح والتقدم الصناعي والتطور التكنولوجي،ويستمر هذا النوع من الحروب لمدد طويلة نسبياً بالقياس إلى النوع الأول المعروف بالحرب التقليدية. وأشهر الحروب من هذا النوع هي الحرب الباردة بين ما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، والتي بدأت في حقبة الأربعينيات من القرن العشرين وانتهت مع سقوط الاتحاد السوفيتي في نهاية القرن العشرين.
حروب الجيل الرابع:
 ظلت الحروب تدار بتكتيكات متعارف عليها خلال عقود القرن العشرين، إلى أن حدثت عدة حوادث تنبه لها “أندرو مارك” في مقالة شهيرة في عام 1975 حول أسباب انتصار الدول الضعيفة على الدول القوية. وكان يتحدث بشكل مباشر عن سبب هزيمة الولايات المتحدة في حربها في فيتنام، وضرب أمثلة متعددة من تاريخ صراعات كبرى تنتهي بانتصار الأضعف مادياً وتسليحياً. وترك سؤالاً للاستراتيجيين وهو كيف تنجح الولايات المتحدة في علاج هذه المعضلة؛ لأنها دائماً ما ستكون الأقوى عسكرياً واقتصادياً وقد تنتهي بها الأمور إلى الهزيمة؟ هناك عوامل متعددة ذكرها “أندرو مارك” وكانت الأساس لما اصطلح على تسميته “الحروب غير النمطية”، التي لا يكون الحسم فيها لمن يملك قوة نيرانية أكبر. وإنما يكون الحسم فيها لمن هو على استعداد لمزيد من المعاناة أو تحمل تكاليف أعلى، وعادة ما يكون الأضعف أكثر استعداداً لتحمل الخسائر في الأرواح من الأقوى الذي عادة ما يكون أكثر انفتاحاً وديمقراطية بما يجعل خسائره البشرية والمادية أداة ضغط عليه في الداخل. كما أن الأضعف عادة ما تكون له ارتباطات قوية بجهات أجنبية تكون صاحبة مصلحة في استمرار الصراع، كما أن العقيدة القتالية في كثير من المعارك تكون محدداً مهماً لثبات الأضعف، كيف تتصرف القوى الكبرى والحال كذلك؟ كيف تردع قوة أضعف منها لا تخشى الهزيمة ولديها ميول انتحارية؟
ما الفائدة إن كان السلاح الذي تملكه هو قنبلة ذرية وأسرتك مخطوفة في كهف في جبل؟ وكانت الإجابة هي أن نجعل العدو يقتل نفسه بنفسه. لماذا أقتله، وهو يمكن أن ينتحر؟ لماذا أوحده ضدي، وانقسامه في مصلحتي؟ لماذا أطلق عليه الرصاص والقنابل، في حين أنني لو استثمرت واحداً بالمائة من التكلفة على الإعلام الخبيث والشائعات المضرة لتمزقه كل ممزق؟ ومن هنا انطلقت الفكرة وبدأت وانتشرت. بشكل عام ترتبط حروب الجيل الرابع تاريخياً من حيث البداية بالعقدين الأخيرين من القرن العشرين، ولكن جذورها تعود إلى فترة الحرب الباردة، حيث استخدمت القوتان العظمتان في ذلك الوقت (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي السابق) الكثير من تكتيكات الجيل الرابع خلال فترة الحرب الباردة، سواء لإحكام القبضة على الدول والمناطق الجغرافية التي تمتلك هذه القوة العظمى أو تلك نفوذاً بها، أول مواجهة نفوذ القوة المنافسة. وهذه التكتيكات هي في أغلبها ترتبط بحروب الدعاية والحروب السرية عبر أفراد وجماعات مدربة لإحداث القلاقل والاضطرابات، والقيام بالعمليات الإرهابية والتفجيرات، ودعم أنشطة التسلل والغزو الثقافي ونشر الشائعات وغير ذلك من أنشطة تعبوية قائمة على تدمير الروح المعنوية والتأثير نفسياً في العدو. ثم تطورت هذه الممارسات وأصبحت تشكل نظريات لجيل جديد من الحروب التي تدور بين دول وبعضها بعضاً، أو دول وجماعات والعكس، وتعتمد على كسر إرادة الطرف الآخر وتحطيم معنوياته وإفشال مؤسسات الدول وإحداث قدر هائل من الفوضى والارتباك والذعر الداخلي بحيث يسمح ذلك بتدخلات خارجية لتحقيق مخططات معينة وتنفيذها، أو استمرار هذه الفوضى الداخلية لشغل الدول عن الخارج ودفعها إلى الانكفاء على الذات والانشغال داخلياً بما يخدم أهداف قوى إقليمية أو دولية، ويستند الجيل الرابع من الحروب إلى تشتيت الانتباه والاتصالات التي تعمل على إزالة جبهة القتال تماماً، والاكتفاء بالهجوم الثقافي اعتماداً على مقاتلين جدد على هذه الجبهة المستحدثة عبر وسائل الإعلام مع شن أعمال عنف مبرمجة بدقة لشل الإرادة والإرباك ثم انهيار العدو السياسي، بدلاً من السعي إلى عمليات قتالية حاسمة، وقد تناول البروفيسور الأمريكي ماكس مانوارينج، الباحث في الاستراتيجيات العسكرية والذي سبق وعمل في المخابرات العسكرية الأمريكية حروب الجيل الرابع عام 1989، وبحسب مانوارينج فإن زمن الحروب التقليدية التي تعتمد على الجيوش انتهى، والآن هو زمن الجيل الرابع من الحروب الذي يهدف إلى إرباك الدول من الداخل وإحداث اضطرابات متواصلة بها لدرجة تدفعها دفعاً إلى مرحلة الدولة الفاشلة التي يسهل السيطرة عليها من أي جهة داخلية تخدم مصالح الجهة المحركة خارجياً وتحقق أهدافها، وهو الاحتمال الأقرب للتصور والقابل للتنفيذ، أو تتم السيطرة عبر الأطراف الخارجية بشكل مباشر، وهو الاحتمال الأضعف في ظل بيئة النظام العالمي السائدة حالياً. وأحد أهداف حروب الجيل الرابع في السنوات الأخيرة يتمثل في نزع الشرعية عن أنظمة الحكم من خلال تحريك جماعات وتنظيمات داخلية مدربة ضد النظام، انطلاقاً من أن حدوث مواجهات بين قوات النظام ومؤسساته الأمنية وعناصر هذه الجماعات واستدراج هذه العناصر لارتكاب خروقات أمنية وتجاوزات تتنافى مع المواثيق والأعراف الدولية الخاصة بالحريات العامة وحقوق الإنسان وغير ذلك، وتوثيق ذلك كله، ونشره على نطاق واسع من خلال وسائل إعلام متعاونة لهذا الغرض، ثم تلي ذلك مرحلة الضغوط الدولية عبر الدول الكبرى والمؤسسات الدولية ومنظمات المجتمع المدني للضغط على الأنظمة والحكومات باستخدام المواد المنشورة التي وظفت لتهييج الرأي العام إقليمياً ودولياً، والعمل بكل الطرق من أجل ذلك ولو من خلال قلب الحقائق وتزييف الحقائق وفبركة الصور باستخدام تقنيات حديثة، وتوظيف الانتشار الهائل لوسائل التواصل الاجتماعي في تناقل هذه الصور والأفلام المصورة من أجل جلب نوع من التحقير والإدانة الشعبية الدولية لأي نظام تمهيداً لإضعاف موقفه وإخضاعه سياسياً لأهداف خارجية يتم تنفيذها بأيد داخلية، أو إسقاطه نهائياً وتغيير أنظمة الحكم من دون تدخل عسكري وتصوير الأمر برمته باعتباره حراكاً داخلياً في الدول لا علاقة للقوى الكبرى به، أو استنزاف دول ما من خلال إجبارها على توجيه مواردها كافة لمواجهة الاضطرابات الداخلية المفتعلة والانشغال بذلك عن التنمية والاستجابة لمتطلبات التفاعل الدولي. وهناك العديد من الأمثلة المتنوعة على حروب الجيل الرابع مثل الحرب ضد الإرهاب والصراعات داخل الدول الفاشلة والحروب الأهلية، والنزاعات العرقية وتعاني منها غالباً المناطق والدول التي لا تزال تعاني الفشل في الاستجابة للتحديات الداخلية التي تواجهها، والأنظمة الفاسدة التي تجمدت وتوقفت عن اللحاق بركب التنمية والتطور بشكل يسمح بنفاذ التدخلات الخارجية إليها. وتمتلك حروب الجيل الرابع العديد من القواسم المشتركة مع ما سبقها من أجيال باعتبار أن المسألة في مجملها تنطوي على تطور تاريخي وتداخل لا يمكن الفكاك منه، فهي تنطوي أيضاً على أنماط قائمة على التمرد وحروب العصابات والحروب المحدودة. بل شهدت حروب الجيل الرابع أنماطاً جديدة من القتال، حيث بات من الوارد ظهور تنظيمات قتالية تخوض حروباً كاملة ضد دول خارجية، مثلما حدث بين حزب الله وإسرائيل، وهي حروب تمتلك سمات مميزة مثل امتلاك هذه التنظيمات خصائص مثل غياب الهيراركية العسكرية والافتقار إلى هيكل رسمي بما يوفر قدراً هائلاً من المرونة العملياتية والمناورة القتالية لهذه التنظيمات في مواجهة جيوش قائمة على التنظيم وهرمية اتخاذ القرار؛ كما تمتلك هذه التنظيمات تشكيلات قتالية صغيرة ومدربة قادرة على إنهاك العدو والمناورة والاختباء وتحجيم خسائرها واستنزاف العدو مادياً ومعنوياً، فضلاً عن سرعة التحرك والمراوغة وإمكانية استهداف عمق العدو بضرب البنى التحتية من خلال عناصر نشطة متحركة أو خلايا نائمة موالية أو غير ذلك، بحيث يمكن لهذه التنظيمات البسيطة خوض حروب شرسة على المستويات الإعلامية والعسكرية والاقتصادية والشعبية ضد دول، وربما كسبها ولو إعلامياً في ضوء تباين معايير وقواعد الربح والخسارة واختلاف هذه القواعد بين طرفي الصراع. 
تقوم هذه الحرب على الدعاية والدعاية المضادة، وتتبنى استراتيجية التأثير لتغيير السلوك ونمط التفكير دون أن تعلن عن نفسها ودون أن يكون لها عنوان واضح مرئي أو تأثير مكشوف جلي، غايتها إجهاد العدو وتفكيك عناصر وحدته بتغييرات نفسية يمكن أن تمتد على مدى متوسط أو مدى بعيد، قد يكون أسابيع وشهورا أو سنوات، تقوم أدواتها على عناصر جديدة غير القوة العسكرية لكي تجنبه أهوال التدخل المباشر والروح العدائية التي تقابل بها قواته الغازية.
وأبرز أسلوب معتمد في حروب الجيل الرابع، هو استخدام نظرية الكاوس الفوضوية في الفيزياء الحديثة، قوامها تكسير النظام بالفوضى وخلق نظام جديد يخرج من رحم تلك الفوضى.
مؤدى هذه العملية تأمين انسياق الجماهير وتبعيتها المطلقة بدعاية الاستقطاب أحيانا ودعاية التدمير أحيانا أخرى، بحيث تصنف الجماهير كمجرد أرقام. يقوم تصنيفها بحسب العاطفة والجذب باللعب على الغرائز والعاطفة والإثارة، فمنها من يجذبه الخوف، ومنها من تجذبه صورة الشجاعة، ومنها من تستفزه صور الحرمان، ومنها من تجذبه مظاهر الثراء والقوة، ومن ثم تنهال المعلومات والأخبار والصور والوشايات التي تخاطب عاطفته ومشاعره بفعل تلك الهندسة الغرائزية لكي يقع في حضنها أسيرا لا يمكن أن يفك طلاسمها أو يسبح في بحر أمواجها.
الرابط هنا بين حروب الجيل الرابع وفكرة العولمة ومرحلة الأحادية القطبية وما تكشف خلالها من جدل حول صراع الحضارات ونهاية التاريخ وما إلى ذلك من جدليات بحثية، يرتبط في جوهره بأحد جوانب النقاشات الجوهرية التي لم تحسم بعد، وهي علاقة النظام العالمي الجديد الذي برز بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم بمفهوم سيادة الدولة القومية، والذي كانت أحد تجلياته ومعالمه حصرية شن الحروب والصراعات بيد الجيوش والدول فقط. ومع تزايد الحديث عن انحسار سيادة الدولة في المجال الاقتصادي بفعل العولمة التجارية والاقتصادية وممارسات التبادل التجاري في مرحلة ما بعد منظمة التجارة العالمية، ظهر الحديث عن انحسار موازٍ لدور الدولة والجيوش في الحروب وظهرت مفاهيم مثل الحرب اللامتماثلة، وحروب الجيل الرابع، وتوج ذلك كله بصعود الإرهاب العالمي في الحادي عشر من سبتمبر 2001 كتحدٍ خطيرٍ ناجم عن “تنظيم” هاجَم القوة العظمى الوحيدة في العالم في عقر دارها.
الفكرة في حروب الجيل الرابع إذاً تتمثل في أن الفاعل الرئيسي في هذه الحروب ليس الدولة، بل التنظيمات والجماعات والأفراد، وهو ما يمثل الوجه العسكري للنظام العالمي الجديد في مظهره السياسي القائم على الفرد وما يعرف بالفرد المعولم بدلاً من الدولة القومية، وهي فكرة فلسفية كان من الصعب فهمها من قبل كثيرين في بدايات ظهورها، ولكنها وجدت طريقها إلى ميادين الحياة الواقعية، وبات العنصر الفردي يحرك الكثير من الأحداث فعلياً في مناطق شتى من العالم عبر توظيف منظمات المجتمع المدني والضغوط الدولية والجمعيات الأهلية ومؤسسات النظام العالمي الجديد، التي ربطت نفسها بقوة بمجالات إنسانية مثل حقوق الإنسان والحريات العامة وغير ذلك من مفاهيم وفرت بدورها مساحات شاسعة للأفراد كي يمثلوا عنصراً فاعلاً جديداً في حياة الدول وتحديد مصير العالم خلال القرن الحادي والعشرين. ولاشك أن حروب المعلومات هي أحد أبرز أنماط حروب الجيل الرابع بما تمثله من خطر داهم على اقتصادات الدول والبنى التحتية والأمن القومي بمفهومها الشامل، بل إن حروب الجيل الرابع هي أحد التجليات أو النتائج المترتبة على ثورة المعلومات، حيث تزامن ظهورها مع تحول جذري عالمي من المجتمع الصناعي إلى المجتمع القائم على المعلومات. ولاشك في أن تحولات مجتمعية بهذا الحجم لم تكن لتمر دون إحداث تغيير جوهري في استراتيجيات الحروب، ومن ثم كان بديهياً أن يظهر جيل جديد من الحروب.
ان حرب الجيل الرابع هي حرب أمريكية الأصل، طورها الخبراء العسكريون بعد أحداث 11 سبتمبر، بعد أن وجدوا أنفسهم في مواجهة تنظيم إرهابي دولي ليس له جيش واضح أو موقع معين لأستهدافه، بل مكون من عناصر محترفة وله خلايا بمختلف الدول وله إمكانيات كبيرة بأستهداف الدول التي تشكل أهداف له، لذالك سميت الحرب الغير متماثلة .
هناك تعريفات أُخرى للجيل الرابع من الحروب، فقد قال البروفيسور ماكس مانوارينج – Max G. Manwaring الأستاذ الباحث في الاستراتيجية العسكرية الأمريكية في ندوة ألقاها بمعهد دراسات الأمن القومي الاسرائيلي سنة 2012 بأنَّ (الحرب هي الإكراه، سواء غير قاتلة أو قاتلة كما اعتدنا في الماضي) وهذا هو الجيل الجديد في الحرب، فيستخدم كل الوسائل المتاحة لخلق دولة ضعيفة منهكة تستجيب للنفوذ الخارجي وكما أعقب كلامه ”فأذا فعلت هذا بطريقة جيدة وببطئ كافي“ بأستخدام مواطني الدولة العدو ”فسيستيقظ عدوك ميتا“…
أما المحلل الأمريكى وليام ليند – William S. Lind وصف الحروب التى تعتمد على مبدأ اللامركزية بحروب الجيل الرابع …
في حين اعتبر اللواء الركن المتقاعد ماجد القيسي حروب الجيل الرابع بأنَّها: ”ذلك الجيل المتعلق أصلا بالأسلحة وليس بمبدأ اللامركزية التي وصفها وليام ليند الحروب الحالية بالجيل الرابع، وهنا أُشير أنَّ هناك جيوش نظامية تعتمد مبدأ اللامركزية في حروبها كالجيش الصهيوني الذي يعتمد اللامركزية واستخدمها في حرب أوكتوبر و تحديداً من قبل شارون – Ariel Sharon في ثغرة الدفسوار واللامركزية ليس كمبدأ حرب، وإنما كأسلوب سيطرة.“ 
و حرب الجيل الرابع تطرح بدايات و سمات حرب الجيل الرابع )المبحث الأول( و تكتيكات و عناصر قوة حرب الجيل الرابع )المبحث الثاني(

المبحث الأول: بدايات و سمات الجيل الرابع من الحروب:
حرب الجبل الرابع لها بدايات )الفقرة الأولى( و سمات )الفقرة الثانية(
الفقرة الأولى: بدايات الجيل الرابع من الحروب:
تعود فكرة حروب الجيل الرابع الى نهايات القرن الماضي تم تأسيس حركة “أوتبور” الصربية لتكون طرفاً في الصراع في يوغسلافيا السابقة، واستخدمت هذه المجموعة العنف كأسلوب ومنهج حرب، وتبين في عام 2000 من خلال تحقيق صحفي نشرته مجلة نيويورك تايمز أن هذه الحركة قد تم تمويلها بما يتجاوز خمسة ملايين دولار من خلال ثلاث مؤسسات أميركية مانحة، وهي المعهد الوطني الديمقراطي، والمعهد الجمهوري الدولي، والوكالة الأميركية للتنمية الدولية(USAID).
وكانت هذه الحركة هي النموذج الذي استخدم في بعض الدول العربية وتم استنساخه بشكل دقيق مع إضافة التكنولوجيا الحديثة مثل وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية وغير ذلك لإيجاد مجموعات شبابية واسعة تتواصل عبر الإنترنت وقادرة على الحشد والتجمهر بعيداً عن رقابة السلطات الرسمية.
الفقرة الثانية: سمات حروب الجيل الرابع:
تتسم حروب الجيل الرابع بسمات عدة منها:
ـ محورية الأفكار والأيديولوجيات: حيث تمثل الأفكار محوراً مهماً في شن حروب الجيل الرابع وتحديد معايير الهزيمة والنصر فيها. فالثقافة هي الهدف وهي محور التخطيط لهذه الحروب، التي تتمركز تخطيطياً حول الهجوم على ثقافة العدو، وتدميرها أو إعادة تشكيلها وصياغتها أو توجيهها وتدمير منظومة القيم الثقافية والروحية لدى العدو بحيث تنهار الروح المعنوية والقيم النفسية الداعمة للمجتمع، وبالتالي يسهل اختراقه أو دفعه إلى الانهيار المادي أو المعنوي، واقعياً أو افتراضياً.
ـ الطبيعة المعقدة للحرب: ليس من السهل إدراك طبيعة حروب الجيل الرابع، فعلى سبيل المثال هي حروب غير تقليدية؛ أي ليس لها بدايات واضحة وتوقيتات زمنية محددة، وبالتالي تتداخل فيها المراحل، ويصعب فيها بناء جدر وقائية أو اتخاذ مواقف دفاعية حصينة على المستوى الأيديولوجي والفكري الذي هو ساحة رئيسية لهذه الحروب. وبحكم هذا التعقيد فإن هذه النوعية من الحروب ذات طبيعة زمنية ممتدة، ويصعب تحديد أجندة زمنية لشنها وإنهائها حيث تتوقف حسابات النصر والهزيمة فيها على بيئة الصراع ومقدرة العنصر البشري على حسم حرب الأفكار لمصلحته.
ـ الاعتماد الكبير على المؤثرات النفسية والمعنوية والإعلامية: تلعب هذه المؤثرات الدور الأهم في مسارات الصراع في حروب الجيل الرابع، فبحكم اعتماد هذه الحروب على الأفكار فإن البوابة التلقائية والساحة العملية للمناورات والاشتباكات والتفاعلات تتمركز حول المؤثرات النفسية والمعنوية والإعلامية.
ـ محورية العوامل الاقتصادية والسياسية والأمنية والعسكرية: على الرغم من أن الثقافة هي جوهر الصراع في حروب الجيل الرابع، فإن نجاح هذه الحروب يتطلب بشكل مواز توافر قدر فاعل من التحركات والضغوط والمؤثرات على الصعد الاقتصادية والسياسية والأمنية والعسكرية كي تساعد في تفعيل خطط التدمير الثقافية التي تستهدف قيم المجتمعات والدول والشعوب.
ـ بروز أنماط متطورة من التفاعلات: برغم أن هناك العديد من الخطط والأنماط التي شهدها العــالم منذ عقود مضت للإضراب أو الاعتصام أو العصيان أو غير ذلك من مظاهر التحرك الداخلي ضد الدول، فإن مثل هذه الأنماط لم تعمل وفق حراك عشوائي قائم على الاجتهادات الفردية، بل باتت تدرس ويتم التدريب عليها في منظمات دولية ودول كبرى ترعى أفراداً وجماعات محلية منتشرة في دول شتى من العالم لاستخدام هؤلاء الأفراد والجماعات وتوظيف قدراتهم ونشاطهم في إحداث التغيير الداخلي في أي دولة مستهدفة. وهذا المجال تحديد يجسد فكرة التخطيط البعيد الأمد في مثل هذه الحروب، حيث تظهر خطورة بعض الممارسات الفردية بعد سنوات عدة عندما تلتئم وتصطف ضمن منظومات عمل جماعية محكمة تشكل بؤرة انطلاق لاستهداف استقرار الدول والمجتمعات وإشعال الفتن والمؤامرات.
المبحث الثاني: تكتيكات وعناصر قوة حروب الجيل الرابع:
لحروب الجيل الرابع )الفقرة الاولى( و عناصر قوة )الفقرة الثانية(
الفقرة الاولى: تكتيكات حروب الجيل الرابع:
هناك العديد من التكتيكات المستخدمة في حروب الجيل الرابع، ويتوقف ذلك على طبيعة الحرب، إرهاب أو معلومات أو دعائية أو ثقافية أو غير ذلك، والأهداف المتوخاة وطبيعة دفاعات الخصم الذاتية. وأحد أبرز هذه التكتيكات كشف عنه البروفيسور ماكس مانوارينج الأستاذ بمعهد الدراسات الاستراتيجية التابع لكلية الحرب بالجيش الأمريكي في ندوة بمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي حين قال إن الرئيس الفنزويلي هوجو شافيز كان أول من أمر ضباطه أن يتعلموا «الجيل الرابع من الحرب غير المتماثلة»، وأن يطوروا عقيدتهم العسكرية للتعامل معها بحيث لا يكون الدفاع أو الهجوم عبر قوات نظامية كما كان في الماضي، وأشار إلى أن الهدف من هذه الحرب لا يمكن في تحطيم مؤسسة عسكرية أو القضاء على قدرة أمة بشكل عاجل، وإنما الهدف هو الإنهاك والتآكل ببطء، ولكن بشكل مستمر ومتواصل يؤدى إلى إرغام العدو على تنفيذ إرادتك. إذاً الغاية من الحرب كما ذكرنا آنفاً هي التحكم في العدو، والقاسم المشترك في كل هذا هو زعزعة الاستقرار، أما القوات المشاركة في تنفيذ هذا المخطط فليس كل عناصرها من الرجال ولكن بينهم نساء وأطفال مثلما شاهد الجميع في العاصمة المصرية القاهرة في فترات سابقة حين تم استخدام أطفال الشوارع لاستهداف قوات الجيش والشرطة وإحراق البنى التحتية وإشاعة الفوضى والذعر في شوارع العاصمة. وزعزعة الاستقرار، قد تكون أيضاً عبر وسائل “حميدة” ـ استخدام وصف حميدة في هذا الإطار ينطوي على قدر من التمويه والدهاء ـ إلى حد ما مثل أن ينفذها مواطنون من الدولة العدو. باختصار إيجاد دولة فاشلة وأول ملامحها هو إيجاد أماكن داخل حدود العدو ليس له سيادة عليها عن طريق دعم مجموعات محاربة وعنيفة للسيطرة على هذه الأماكن، إذاً المعادلة لها هدفان هما الإكراه ثم الدولة الفاشلة. ويتم ذلك عبر عمليات تنفذ ببطء وبهدوء كافٍ. سيكون هناك جزء من البلد لا تديره الدولة، فيتآكل مفهوم السيادة. لكن لو لم تتحكم الدولة في كامل إقليمها فمن يتحكم فيه؟ ستتحكم في هذه المناطق مجموعات غير تابعة للدولة، عنيفة ومحاربة وشريرة وهذا ما يخلق الدولة الفاشلة، بعدها تستطيع أن تتدخل أنت وتتحكم في هذه الدولة وينهي ماكس محاضرته بقوله «وإذا فعلت هذا بطريقة جيدة ولمدة كافية وببطء مدروس، فسيستيقظ عدوك ميتاً ؟!». والفكرة في مجملها ليست جديدة، وقد تحدّث عنها قبل قرون المفكر الاستراتيجي الصيني سون وو، معتبراً أنه من غير المجدي الدخول في قتال ضد قوة عسكرية أقوى بالأسلحة المناظرة نفسها، وعليك أن تستخدم أسلوباً مختلفاً يستهدف وحدة المجتمع الذي أنتج القوة العسكرية. فبتحطيم التماسك الاجتماعي، سرعان ما تتفكك القوة العسكرية، فغاية الحرب غير المتناظرة تمزيق البنيات الاجتماعية وتدميرها ولكن الجديد عند المحاضر الأمريكي هو أن دولاً كبيرة تملك قوة عسكرية متفوقة ومع ذلك لا تلجأ إلى شن الحروب التقليدية وتفضل استخدام الحروب غير المتماثلة. فالسلاح الرئيسي في هذا الإطار ليس قوة النيران، وإنما القدرات العقلية؛ والقدرات الذكية، فحائط برلين لم تسقطه الدبابات والمدفعية والطيران ولكن المارك الألماني، حسب قول مانوارينج
و يمكن القول ان الوسائل المستخدمة في الجيل الرابع من الحروب:

  • الإرهاب والتطرف والمنظمات والجماعات والخلايا الإرهابية وتوجيها واستخدام تكتيكات حرب العصابات لتحقيق الأهداف المراد منها.
  • استخدام الحرب النفسية والذهنية المتطورة وأدواتها الإعلام والانترنت والتلاعب النفسي وتحريك الرأي العام.
  • استخدام الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية.
  • تطور تكنلوجيا المعلومات وتكنلوجيا الناتو والهندسة الجينية والحواسيب المتطورة والرادار التموجي وتشكيل الجيوش السبرانية لتشكل وسائل لهذه الحرب لم يكن من الممكن الحصول عليها سابقاً.
    كل هذه الوسائل تأتي في سبيل اخضاع الدولة المستهدفة عن طريق جعلها دولة فاشلة ومنهكة وضعيفة، تستجيب للضغوطات والتدخلات الخارجية وتكون أرض صالحة للنفوذ والسيطرة …
    الفقرة الثانية: عناصر قوة حروب الجيل الرابع:
    ـ بما أن الجهات الفاعلة في حروب الجيل الرابع ليست رسمية، فإن القيادة المركزية ليست هي المفتاح لنجاح هذه الحروب التي لا ترتبط بقيادات كاريزمية ولا تعتمد على هذه القيادات في استمرارية الحرب التي تتسم بطول الأمد، ويبرهن خبراء على ذلك بأن تنظيم القاعدة قد أصبح أكثر خطورة بعد مقتل أسامة بن لادن وأن حركة طالبان الأفغانية تعمل بقوة من دون قيادة واضحة من الملا عمر الذي يركز جهوده على الاختباء من الملاحقة الأمريكية والأفغانية له.
    ـ يرى خبراء أن أحد كوامن القوة في حروب الجيل الرابع أنها لا تتقيد بسيادة القانون، وتستخدمه عندما يكون في مصلحتها فقط؛ بمعنى توظيف القانون مثلاً للتشهير بالأعداء ولفت انتباه الرأي العام العالمي إلى خروقاتهم القانونية لرفع غطاء الشرعية المحلية والدولية عن الأنظمة الحاكمة. كما أن حروب الجيل الرابع تستخدم الأيديولوجيا عندما تكون في مصلحتها ولكنها تعتبر من لا يشاركونهم معتقداتهم أهدافاً مشروعة ضمن أعمال العنف التي تمارسها الحركات والتنظيمات المنخرطة في هذه الحروب. وهذه التنظيمات تخرق القوانين ولكن عندما يتم القبض عليهم يحاجّون بالمنظومة القانونية ذاتها التي يخرقونها ليل نهار.
    ـ ثمة ميزة نسبية لحروب الجيل الرابع أيضاً تكمن في استفادتها الهائلة من سرعة تنفيذ أي تكتيكات بشكل لا مركزي، وهذا واضح في الميليشيات المسلحة التي توفر فرصة وهامش مناورة كبيرة لعناصرها في تنفيذ الهجمات بحيث تكون هذه العناصر في أحيان كثيرة أكثر تفوقاً في مواجهة أي قوات رسمية تتقيد غالباً بالقانون وتخشى المساءلة والمحاسبة ولو بعد حين. 
    الخاتمة:
    عكفت إسرائيل مع الولايات المتحدة في رسم سيناريو الجيل الرابع من الحروب في الوطن العربي وكان يهدف هذا السيناريو إلى ما يلي :
  • تحقيق امن إسرائيل في ظل السعي الدائم العربي للتسلح
    • طمس القضية الفلسطينية نهائيا في ظل إشغال العرب بشئونهم الداخلية
    • إبعاد إسرائيل عن المواجهة مع إيران في سعيها للسيطرة الإقليمية وخلق مواجهة عبر حرب دينية سنية شيعية
    • طمس الهوية الإسلامية باختلاق عداء وفزاعة من الاسلام السياسي لدى عموم العرب
    فكان لا بد من إحداث سيناريو الفوضى الخلاقة في الدول العربية لذا قامت بدعم الثورات العربية والتضحية بالعملاء القدماء والدليل على ذلك دعم المعارضة السورية وقيادة التحالف الدولي في ليبيا وما حدث في العراق ثم دعم التيارات الإسلامية غير المؤهلة لقيادة الدول للوصول للحكم.
    و قد بدا الحديث الآن عن الجيل الخامس و السادس:
    حروب الجيل الخامس :
    يطلق عليها تسمية الحرب الهجينة وهي نوع متميز من القتال يعجز فيه الجيش النظامي على الإطاحة بخصمه المحنك الذي يخوض حرباً غير نظامية بأفكار مبتكرة تستخدم خليطاً من كل مفاهيم الحروب الساببقة “حرب شعبية وحرب الثورية وأسلوب حرب العصابات ووسائل الحرب الحديثة” وتتمتع الحرب الهجينة بتكنولوجيا فائقة لا تخضع لشكل معين وقواعد ثابتة بدءاً من القيادة وإنتهاءاً بالعمليات الجارية خلالها.
    يستخدم في حروب الجيل الخامس العنف المسلح عبر مجموعات عقائدية مسلحة وعصابات التهريب منظمة وتنظيمات صغيرة مدربة لها خصوصية منهجية دينياً وعقائدياً وسياسياً، لصناعة نزاعات داخلية سياسية واقتصادية واجتماعية داخل الدولة المستهدفة، لاستنزاف هذه الدولة وجعلها تعانى من صراعات داخلية تدعمها تهديدات خارجية عنيفة.
    وتتميز عمليات الجيل الخامس بأنها صراع مفتوح تنفذ عملياته دون قيود أخلاقية تستخدم فيه كافة وسائل القوة المتوفرة المسلحة وغير المسلحة لإجبار الخصوم للخضوع لإرادة من يشن الحرب حتى وإن تضمن ذلك سقوط الضحايا دون وجه حق مع ما يصاحب عمليات الحروب من تعدي وظلم وطغيان حيث لا سبيل لتحقيق الغايات إلا بالدمار والقتل.
    ومن مظاهر الجيل الخامس للحروب سعي الأفراد والمجموعات المقاتلة للوصول إلى المعرفة المتطورة والتكنولوجيا الحديثة واستخدامها كوسائل هجومية في معارك غير متماثلة لتحقيق المصالح الفردية والجماعية وذلك من خلال القدرة على تنفيذ الأعمال التخريبية من خلال الإنترنت والوسائط الإلكترونية المختلفة فيما بات يعرف بالحرب الرقمية التي ستكون عاملاً مهماً في سباق إدارة الأزمات وفن الحرب واستخدام تكتيكات جديدة في العمليات العسكرية والأمنية.
    حروب الجيل السادس :
    يمكن أن نطلق عليها تسمية الحرب عن بعد وهي حرب تعتمد التقنية عالية الدقة لإدارة وسائطها القتالية التي تدار عن بعد أسلحتها ومعداتها ذكية , وهذا التصنيف يعتبر الأحدث في أجيال الحروب أطلقته روسيا باعتبار أن هذا النوع من الحروب لا يعتمد على الاتصال بشكل مباشر بالخصم و بمعنى آخر أنها حرب تدار بشكل كامل عن بعد وتتسع دائرتها لتشمل كل ما هو معني بمفهوم الحرب سواء كانت أسلحة أو إمكانيات بدءا من الأسلحة النووية التكتيكية إلى إدارة الصراع الاقتصادي والمعلوماتي الى استهداف الأفراد أنفسهم عن بعد سواء كانوا فرادى أو مجموعات وقد صاغ مصطلح “الجيل السادس للحرب” لأول مرة الجنرال الروسي فلاديميرسليبتشينكو عند استخدام أنظمة تسليح عالية الدقة يمكنها أن تجعل من تسليح وتنظيم الجيوش التقليدية أمور  عفا عليها الزمن .
    وأخطر ما في حروب الجيل السادس هو استهدافها للإنسان وعقله وعواطفه واستغلال كل ما في الطبيعة من حوله كسلاح يدار ويسيطر عليه كمشاريع التحكم في الطبيعة “مشروع هارب” وأيضاً تصرفات الكائنات الحية وغيرها من المشاريع المتطورة التي تستهدف إلحاق أكبر ضرر بالجنس البشري واستغلال الحشرات والطيور والأسماك وغيرها من الكائنات كأدوات للتجسس والسيطرة .
    من سمات حروب الجيل السادس البراعة العالية في استخدام الوسائط القتالية والتفوق في تحقيق الأهداف والمصالح والسيطرة على الآخرين بأقصر الطرق واقل الخسائر وبذلك ستغدو معها كل تلك الترسانات من الأسلحة والمعدات وكأنها أسلحة شخصية لن تستطيع الجيوش إستخدامها مطلقاً .
    وبذلك أعتقد بأن أجيال الحروب ستستمر في التقدم بصورة مضطردة وستشمل في صورها الجديدة أنواع متعددة سابقة وحديثة متداخلة من فنون القتال وأنواعه وستستغل كل ما تصل إليه التقنية والتطور العلمي في مختلف المجالات ولذلك فحروب المستقبل ستكون غير محددة بنوع ونمط قتالي معين عرفه العالم من قبل , الغاية فيه تبرر الوسيلة وهدفها الاسمى هو سحق الخصم حتى قبل أن يستعد للحرب والسيطرة على العالم ومصادر الماء والطاقة فيه بالقوة العسكرية المطلقة.
    لم يتفق العالم وخبراء السياسة والعسكر على مقومات معينة تحدد أجيال الحروب وتركت لإجتهاد المحللين فهناك من لايزال يعتقد بأن الحروب و الأعمال العدائية والنزاعات المسلحة لا تزال ضمن الجيل الرابع وشخصياً أعتبر بأن الأمر قد تجاوز في تسارع كبير نحو الجيل السادس من الحروب التي بدأت وسائطه المعتمدة على التفوق التقني والذكاء الصناعي في الدخول للمناوبات القتالية والخدمة العملية في كثير من الجيوش وقد تداخلت فيها أجيال الحروب حتى أمتزج قديمها بجديدها في تطور فكري عسكري مستمر متناسق مع التطور العلمي الذي يسابق الزمن وظهرت نتائج ذلك في تدريب المقاتلين وحرفيتهم العالية والتطور النوعي في دقة الوسائط القتالية المستخدمة من الأسلحة الذكية والطائرات بدون طيار والمركبات المسيرة الغير مأهولة وأسلحة الفتك ذات الدقة العالية وتطور عمليات القيادة والسيطرة عبر الأقمار الصناعية.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى