مقالات قانونية

التشديد

بقلم: الدكتور جابر غنيمي

المساعد الأول لوكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد

إن الجريمة قديمة قدم الإنسان ذاته، وعليه فالعقوبة ارتبطت بالجرم الذي يقترفه الفاعل .
والجريمة ليست ظاهرة إنسانية عامة فحسب إنما هي ظاهرة طبيعية لأنها تتلازم مع الحياة
حيث وجدت ولأن الجريمة تمثل عدوان فان اهتمام المجتمعات بأمرها وبأمر مرتكبيها قديم
يرتد إلى التاريخ الذي وجدت فيه هذه المجتمعات.لذلك حاولت المجتمعات على مر العصور
التصدي للجريمة من خلال تسليط عقوبات رادعة و متناسبة مع كل مخالف تسول له نفسه
الخروج عن النظام الاجتماعي . ويعد القانون الجزائي القانون الكفيل بتوفير الحماية و الأمن
والاستقرار للمجموعة الاجتماعية وذلك لما ينطوي عليه من عقوبات رادعة وزجرية لكل
الأفعال الإجرامية .
والجريمة يمكن تعريفها بأنها تتمثل في سلوك إرادي يجريمه القانون ويقرر لفاعله عقوبة ،
كما عرفها بعض فقهاء علم الاجتماع هي كل سلوك جدير بالعقاب سوأ أعاقب الشارع
الوضعي عليه أم لم يعاقب ويعني ذلك أن الجدارة بالعقاب هي ضابط الجريمة .
لكن هناك رأي فقهي أخر جعل ضابط الجريمة الطبيعية أنها عدوان على الشعور الأخلاقي
متوسط يسود في كل العصور و البلاد ويعني ذلك أنها عدوان على قدر أدنى من القيم
الأخلاقية لا يتصور أن يتجرد منها مجتمع إنساني.
وقد عرف الدكتور محمود نجيب حسني الجريمة بكونها ” فعل غير مشروع صادر عن
إرادة جنائية يقرر له القانون عقوبة أو تدبير احترازي “

ومن خلال هذا التعريف للجريمة يمكن القول أن الجريمة تستوجب توفر ثلاثة أركان لقيامها
،وهي الركن الشرعي و الركن المادي و الركن المعنوي وهذه الأركان الثلاثة التي تستوجبها
قيام الجريمة كرستها جل التشاريع.
لكن هناك رأي فقهي أخر جعل ضابط الجريمة الطبيعية أنها عدوان على الشعور الأخلاقي
متوسط يسود في كل العصور و البلاد ويعني ذلك أنها عدوان على قدر أدنى من القيم
الأخلاقية لا يتصور أن يتجرد منها مجتمع إنساني.
وقد عرف الدكتور محمود نجيب حسني الجريمة بكونها ” فعل غير مشروع صادر عن
إرادة جنائية يقرر له القانون عقوبة أو تدبير احترازي “
ومن خلال هذا التعريف للجريمة يمكن القول أن الجريمة تستوجب توفر ثلاثة أركان لقيامها
،وهي الركن الشرعي و الركن المادي و الركن المعنوي وهذه الأركان الثلاثة التي تستوجبها
قيام الجريمة كرستها جل التشاريع.
والمقصود بالركن الشرعي للجريمة هو أن يكون هناك نص قانوني سابق الوضع ينص على
تجريم بعض الأفعال أي نص قانوني يأمر بعدم القيام بفعل معين أو يجرم عدم القيام به،
والركن الشرعي للجريمة هو امتداد لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات . وقد كرس المشرع
التونسي هذا المبدأ في الدستور بالفصل 13 الذي ينص ” العقوبة شخصية ولا تكون إلا
مقتضى نص قانوني سابق الوضع عدا حالة النص الأرفق
كما أن هذا المبدأ كرسه المشرع في الفصل الأول من المجلة الجزائية الذي نص “لا يعاقب
أحد إلا بمقتضى نص من القانون سابق الوضع لكن إذا وضع قانون بعد وقوع الفعل وقبل
الحكم البات وكان نصه أرفق بالمتهم فالحكم يقع بمقتضاه دون سواه “.
ومن ثمة فان مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات يقتضى أن لا جريمة بدون نص سابق الوضع
أي لا جريمة بدون نص قانوني نص عليها صراحة . فالقانون هو المصدر الوحيد لتحديد
الجرائم و بتالي فانه لا يمكن مؤاخذة شخص عن فعل ما أو عن الامتناع عن القيام بعمل لم

يجرمه القانون صراحة وذلك استنادا للقاعدة الأصولية القائلة أن الأصل في الأمور الإباحة
وأن المنع أو التجريم هو خلاف للأصل.
ومبدأ شرعية الجرائم والعقوبات كرسته كل التشاريع الجنائية على غرار التشريع الفرنسي
في الفصل 111-3 من المجلة الجنائية الجديدة .
أما الركن الثاني للجريمة فهو الركن المادي فلا يمكن الحديث عن جريمة في صورة لم
يرتكب فعل مادي ونعني بالفعل السلوك الإجرامي أيا كانت صورته سواء كان الفعل نشاط
ايجابي أو امتناع عن القيام بفعل وعليه فان قيام الجريمة يستوجب وجود نص قانوني سابق
الوضع يجرم فعل معين ، وارتكاب فعل مادي مجرم سواء كان قيام بفعل أو الامتناع عن
قيام بفعل حتى يتسنى الحديث عن جريمة .
أما الركن الثالث للجريمة فهو الركن المعنوي والركن المعنوي يفترض أن يكون مرتكب
الفعل الإجرامي مسؤول عن فعله أي أن تكون له إرادة حرة وواعية ، فان انتفى عنها ذلك
فلا تقوم المسؤولية الجنائية وعليه إذا توفرت في مرتكب الفعل الإجرامي موانع المسؤولية
فانه يكون غير مسؤول عن فعله الإجرامي وموانع المسؤولية الجنائية يمكن أن تكون
شخصية كصغر السن و الجنون والعته وقد تكون موضوعية كالإكراه وهو ما كرسه الفص
38 من المجلة الجنائية الذي نص ” لا يعاقب من لم يتجاوز سنه الثالثة عشر عاما كاملة عند
ارتكابه الجريمة أو كان فاقدا العقل “
وتبعا لذلك فان العقاب لا يسلط إلا على الشخص المسؤول عن تصرفاته وأفعاله بصورة
إرادية وواعية . ومن ثمة إذا تم تسليط عقاب على الأشخاص الغير مسؤولين جنائيا فانه
يتعارض مع فلسفة العقوبة كجزاء يناله الجاني المدرك و المستوعب لخطورة فعله الإجرامي
والعقوبة لغة هي الجزاء إذ ورد في لسان العرب لابن منظور ” اعتقب الرجل خيرا أو شرا
بما صنع كافأه به . والعقاب و المعاقبة أن نجزي الرجل بما فعل سوءا ” واسم العقوبة ”
وعقابه بذنبه معاقبته وعقابا أخذه به . وتعقب الرجل إذا أخذته بذنب كان منه “

أما العقوبة في المفهوم الاصطلاحي القانوني هي “ما يحكم به على كل من يخالف الإحكام
القانونية “وقد عرفها الدكتور محمود نجيب حسني ” بأنها إيلام مقصود يوقع من أجل
الجريمة و يتناسب معها “
و نستخلص من التعريفات السابقة للعقوبة على اختلافها أن العقوبة هي الألم و الأذى الذي
يقع إلحاقه بالمجرم جزاءا له عما أحدثه بفعله الإجرامي من خلل داخل النظام الاجتماعي.
فالعقوبة إذن هي تترجم حق المجموعة في التصدي للجاني وترميم الخلل الواقع من طرفه
وحمله على عدم الرجوع إلى عالم الإجرام مرة ثانية ، وحمل من تسو له نفسه على ارتكاب
فعل إجرامي عن العدول عنه وذلك حتى لا يناله الأذى و الألم المترتب عن العقوبة .
فالعقوبة إذن لها ثلاثة أهداف وهي الردع و الزجر و الإصلاح والمقصود بالإصلاح هي
إصلاح المخالف وجعله شخص سوي و إعادة إدماجه من جديد في المجتمع بعد قضاء فترة
العقوبة و ما قانون 2001 المتعلق بنظام السجون إلا دليل على الهدف الإصلاحي للعقوبة
وذلك ما نص عليه الفصل 37
وقد شهدت العقوبة على مر العصور تطورات هامة ففي العصور القديمة تنوعت أصناف
العقوبات في المجتمعات حسب طبيعة الجرائم و خطورتها ففي الجرائم البسيطة كان العقاب
يتمثل في السخرية والتهكم. أما إذا كانت الجريمة تكتسي صبغة خطيرة فالعقاب على ذلك
الفعل يكون قاسيا ذو صبغة انتقامية ذلك أن المذنب كان يكبل في حجلات من حديد و يكلف
بأعمال شاقة وحمل الأحجار و تكسير الصخور، كذلك طمس الأعين وقطع الأنف، كذلك
عقوبة تقطيع الأطراف الأربعة و حرق اللسان بحديد ساخن
وتترجم هذه القسوة في العقوبة في كونها وسيلة للانتقام من الجاني الذي اعتدى على غيره .
ثم مرت العقوبة من مرحلة الانتقام إلى مرحلة القصاص والقصاص هو أهم القيود التي
قررتها الدولة للحد من علوا فكرة الانتقام ويقضي قانون القصاص ” العين بالعين والسن
بالسن “ وتبعا لذلك فان القصاص يهدف إلى إقامة التوازن بين الفعل الصادر عن المجني
عليه من جهة و بين جسامة الاعتداء الواقع من جهة أخرى.

ثم مرت العقوبة من مرحلة الانتقام إلى مرحلة التعويض الاتفاقي أو القانوني وتمثل هذه
المرحلة فترة جديدة لتطور العقوبة بحيث لم تعد العقوبة تقوم على الانتقام من الجاني ، إنما
أضحت تقوم على التعويض وذلك من خلال دعوة السلطة الاجتماعية طرفي النزاع إلى
التفاهم فيما بينهم عوض الاقتتال ويتم ذلك بدفع مبلغ من المال يعتبر تعويضا عن الضرر
الذي يدفعه المعتدي إلى المجني عليه أو ذويه . والتعويض عن الضرر الحاصل للمجني عليه
كان اتفاقيا في البداية لأنه يخضع لإرادة الأطراف المتنازعة ثم أصبح قانونيا أي بتحديد من
الدولة نفسها.
وفي مرحلة لاحقة اتسمت العقوبة بصبغة دينية حيث لعبت الديانة المسحية دورا كبيرا في
التأثير على الفكر العقابي .ذلك أن الديانة المسحية غيرت من مضمون العقوبة حيث لم تعد
العقوبة كما هو سائد في العصور القديمة تمثل تكفير والتكفير هو التضحية بالجاني لإرضاء
الإلهة . إنما أصبحت العقوبة جزاءا عادلا يريد به الإله العادل محو الخطية و تطهير النفس
و تمهيد الطريق أمامه للتوبة ومن ثمة فان الطابع الديني للعقوبة أدي إلى التخفيف من قسوة
العقوبات السائدة وذلك بإلغاء بعض العقوبات المبالغ في شدتها و قسوتها على الجاني.
ولعب الدين الإسلامي الحنيف دورا كبيرا في بلورة مضمون العقوبة فالعقوبة في الإسلام
كما هي في الديانة المسحية تتجه إلى العدالة وحماية الفضيلة و الأخلاق . وتبعا لذلك فهو
يهدف إلي تحقيق العدالة من خلال أن تكون العقوبة متساوية مع الجريمة وآثارها كما أن
العقوبة في الإسلام أصبحت لها بعد منفعي مصلحي ذلك انه ما من حكم في الإسلام إلا كان
فيه مصلحة للمجتمع إذ قال لله تعالى ” قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور
وهدى ورحمة للمؤمنين “
كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم “لا ضرر وضرار “ وعليه فالعقوبة في الدين
الإسلامي أصبحت لها غايتان الأولى حماية الفضيلة وحماية المجتمع من انتشار الرذيلة فيه
أما الغاية الثانية فهي المنفعة العامة أو المصلحة.

وقد قسم الفقهاء الجرائم في الشريعة الإسلامية تقسيما ثلاثيا يقوم على جرائم الحدود وجرائم
القصاص و الدية وجرائم التعازير.
وجرائم الحدود وهي الأفعال المعاقب عليها بحدود و الحد هو العقوبة المقدرة حقا لله وتبعا
لذلك ليس لها حد ادني و حد أقصى وهى حق لله تعلى لا يجوز إسقاطها لا من أفراد المجني
عليهم ولا من الجماعة نفسها. وتبعا لذلك يمكن القول أن عقوبات جرائم الحدود مقدرة مسبقا
من الله تعالى ولا يمكن للقاضي الاجتهاد فيها .
أما جرائم القصاص و الدية يقصد بها الجرائم التي يعاقب عليها بقصاص أو الدية وتشترك
عقوبات القصاص والدية مع عقوبات الحدود بكونها محددة من الله تعالى وليس لها حد أدنى
و لا حد أقصى لكنها تختلف عن جرائم الحدود لكونها حق للإفراد و بتالي يجوز العفو عنها
من جانب المجني عليه أو وليه و بتالي إسقاط العقوبة المقررة علها . وعليه فان جرائم
القصاص و الدية هي جرائم محددة من الله تعالى لكن يجوز إسقاطها و العفو عنها من
المجني عليه أو وليه .
أما جرائم التعازير فتتمثل في جرائم غير منصوص على عقوبتها وليست محددة من الله
تعالى مثل جرائم الحدود والقصاص و الدية] . و من ثمة يمكن القول أنه في جرائم الحدود
والقصاص و الدية فان سلطة القاضي تكون مقيدة بينما يتمتع بسلطة تقديرية واسعة فيما
يتعلق بجرائم التعازير .
وقد تطورت العقوبة بموجب تطور القوانين خاصة في العصر الحديث ويمكن القول أن
التطور الحقيقي للقانون الجزائي كان إبان الثورة الفرنسية ذلك انه امتاز العهد السابق مباشرة
على الثورة بنشاط فكري تناول أهم النظم الجنائية وامتاز كذلك بروح انتقادية عابت
الأوضاع المستقرة في ذلك العهد . وشهدت العقوبة تطور مع ثلاث مدارس فقهية .
المدرسة الأولى هي المدرسة التقليدية نشأة هذه المدرسة في النصف الثاني من القرن الثامن
عشر من أبرز مؤسسيها Feuerbach . Bentham .Baccaria وعابت هذه المدرسة على

النظام الجنائي المستقر عيوبا تؤصل في أمرين وهما قسوة العقوبات و خضوعها للسلطة
التقديرية للقاضي واستبداده.
ونادت هذه المدرسة بأمرين أولهما التخفيف من قسوة العقوبات وإقرار مبدأ شرعية الجرائم
والعقوبات بما يستتبعه من قضاء على سلطة القاضي في التجريم و العقاب وحصرها في
تطبيق نصوص القانون وإقرار المساواة بين من يرتكبون ذات الجريمة. ومن ثمة فالمدرسة
التقليدية كرست مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات وجعل العقوبة متناسبة مع خطورة الجريمة
وما تلحقه من ضرر بالمجتمع. إلا أن المدرسة التقليدية وجهت لها عدة انتقادات من طرف
مؤسسي المدرسة التقليدية الحديثة ويعتبر Guizot .Rossi من أبرز مؤسسيها وهذه
المدرسة سعت إلي تعديل بعض الأفكار التي كرستها المدرسة التقليدية وجعل العقوبة
تتناسب مع مبدأ العدالة دون إهمال مصلحة المجتمع ، و من الأفكار الجديدة المتعلقة
بالعقوبة التي كرستها المدرسة التقليدية الحديثة هي ضرورة الأخذ بعين الاعتبار ظروف
المجرم وعدم المبالغة في الاعتماد علي فكرة النفعية الاجتماعية عند تحديد العقوبات . وقد
استطاعت هذه المدرسة أن تؤثر على المشرع الفرنسي بهذه الأفكار الجديدة حيث أنه منذ
سنة 1832 اصدر عدة قوانين أدت إلى إلغاء عقوبة الإعدام بالنسبة للجرائم السياسة والى
تخفيف ملحوظ للعقاب بالنسبة للعديد من جرائم الحق العام كما خفف المشرع الفرنسي من
قسوة العقوبات فألغيت بعض العقوبات القاسية كقطع يد قاتل والده قبل تنفيذ الإعدام فيه . إلا
أن المدرسة التقليدية و المدرسة التقليدية الحديثة تعرضتا لانتقاد لاذع من المدرسة الوضعية
هذه المدرسة التي نشأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر و يعتبر الفقيهين
Lambroso. Ferri من أبرز مؤسسيها ويرى أنصار هذه المدرسة أن المدرستين
التقليديتين اهتمتا بالجريمة أكثر من اهتمامها بالمجرم، لذلك لا بد من الاهتمام بالمجرم و
شخصيته و الظروف التي تدفعه إلى ارتكاب الجريمة لان المجرم عندما يرتكب الجريمة فهو
مدفوعا لارتكابها ولا يفعل ذلك بإرادته و اختياره. لذلك أسست المدرسة الوضعية رأيها على
فكرة الجبرية أي نفي الاختيار لدي الجاني والسبب في ذلك أن المذنب يكون مكرها على
الإجرام امتثالا لما تمليه عليه غرائزه و حالته النفسية و كل ما يحيط به من ظروف خارجية.

وتبعا لذلك قسمت هذه المدرسة المجرمين إلى خمسة أصناف وهم المجرم بطبيعته أي مجرم
بالفطرة الذي له مكونات عضوية ونفسية تدفعه حتما إلى الإجرام
و المجرم بالعاطفة وهو المصاب بضعف يفقده السيطرة على تصرفاته مما يجعله يقدم على
الجريمة دون تفكير .
والمجرم بالصدفة هو المجرم الذي تدفعه الظروف الخارجية للجريمة أي يكون غير معتاد أو
مصر على الإجرام .
و المجرم المعتاد وهو المجرم الذي ارتكب الجريمة للأول مرة ثم اعتاد على الإجرام بسبب
تأثير العوامل الاجتماعية المفسدة .
و المجرم المصاب بخلل في مداركه العقلية مما يجعله ناقص الإدراك والتميز فهو إذن مجرم
معتل العقل .
وبعد تحديد المدرسة الوضعية أصناف المجرمين قامت بتحدد الإجراءات الواجب اتخاذها
ضد كل صنف من أصناف المجرمين .
فالمجرم بالفطرة والمجرم المعتاد فلا أمل في إصلاحهما و الإجراء الذي يتخذ ضدهما هو
استئصالهما من المجتمع ، وذلك إما بعقوبة الإعدام أو النفي المؤبد أو عقوبة الإقصاء . أما
المجرم المختل عقليا يجب ادعاه في مستشفى الإمراض العقلية أو في مكان مخصص
للمجرمين مختلي العقول . أما المجرم بالعاطفة أو المجرم بالصدفة فإنهما قابلان للإصلاح
لذلك يجب أن يتمثل الإجراء المتخذ ضدهما في كل ما يكون مؤديا إلى إصلاحهما وتقويم
سلوكهما كذلك الشأن بالنسبة للأطفال الجانحين نظرا لكون صغر سنهم يجعلهم قابلين
للإصلاح . إذن يمكن القول أن المدرسة الوضعية ساهمت بأفكارها الجديدة و الرائدة في
نشأة علوم الإجرام و اعتماد فكرة التدابير الاحترازية كجزاء جزائي إلى جانب العقوبة
الأصلية . إلا أن هذه المدرسة على الرغم ما نادت به من أفكار عقابية جديدة فإنها لم تؤثر

في التشريع الجنائي المعاصر الذي بقي وفيا لأراء المدرسة التقليدية و المدرسة التقليدية
الحديثة في أغلب القوانين الجنائية بما في ذلك القانون الجزائي التونسي.
القانون الجزائي التونسي كغيره من التشاريع المقارنة مر بعدة مراحل تاريخية أهما تطبيق
التشريع الجنائي الإسلامي ابتداء من أواخر القرن السابع ميلادي إلى حد النصف الثاني من
القرن التاسع عشر حيث وقع تكرس القانون الوضعي مكان التشريع الإسلامي ويتجسم ذلك
في عهد الأمان الصادر سنة 1857 و الذي نص في فصله 27 على مبدأ شرعية الجرائم
والعقوبات الذي تم الأخذ به مع ظهور أول مجموعة للقوانين سنة 1861 . كما وقع تقنين
القانون الجزائي بموجب إصدار المجلة الجنائية سنة 1913 ودخلت حيز التنفيذ في غرة
جويلية 1914 . وقد أقرت المجلة الجنائية أسوة بالمجلة الجنائية الفرنسية لسنة 1810اهم
المبادئ التي دعت إليها المدارس الفقهية التي ظهرت في أروبا على غرار مبدأ شرعية
الجرائم والعقوبات و مبدأ المساواة في العقوبة ،وكذلك مبدأ شخصية العقوبة التي أقرها
الفصل 13 من الدستور .
وكل هذه المبادئ كرسها المشرع الجزائي للحد من السلطة التقديرية للقضاة عند توقيع
العقاب و استبدادهم من جهة وصيانة كرامة الجاني من جهة أخرى . كما كرس المشرع
التونسي مبدأ هام في القانون الجزائي وهو” مبدأ تفريد العقوبة” وهذا المبدأ يعني جعل
العقاب المقرر للجريمة يتلائم وشخصية الجاني وخطورة الجريمة و النتائج المترتبة عنها .
وتبعا لذلك فان المشرع أعطى للقاضي حرية في تكييف العقاب وبتالي تسليط العقاب على
كل واقعة على حدة وحسب شخصية كل متهم وظروف كل واقعة على المجتمع . وعليه
يمكن القول أن المشرع قطع مع نظام العقوبات الثابتة الذي لا يسمح للقاضي بمراعاة الفروق
الموجودة بين الجناة من خلال وجود ظروف تشديد وظروف تخفيف يجب على القاضي
التقيد بها عند إصدار الحكم بالعقاب .
وحتى تكون العقوبة متلائمة مع شخصية المجرم و ظروف الجريمة والنتائج المترتبة عنها ،
كرس المشرع التونسي في المجلة الجزائية وبعض القوانين الخاصة ظروف تخفيف للعقاب

المساعد الأول لوكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد

إن الجريمة قديمة قدم الإنسان ذاته، وعليه فالعقوبة ارتبطت بالجرم الذي يقترفه الفاعل .
والجريمة ليست ظاهرة إنسانية عامة فحسب إنما هي ظاهرة طبيعية لأنها تتلازم مع الحياة
حيث وجدت ولأن الجريمة تمثل عدوان فان اهتمام المجتمعات بأمرها وبأمر مرتكبيها قديم
يرتد إلى التاريخ الذي وجدت فيه هذه المجتمعات.لذلك حاولت المجتمعات على مر العصور
التصدي للجريمة من خلال تسليط عقوبات رادعة و متناسبة مع كل مخالف تسول له نفسه
الخروج عن النظام الاجتماعي . ويعد القانون الجزائي القانون الكفيل بتوفير الحماية و الأمن
والاستقرار للمجموعة الاجتماعية وذلك لما ينطوي عليه من عقوبات رادعة وزجرية لكل
الأفعال الإجرامية .
والجريمة يمكن تعريفها بأنها تتمثل في سلوك إرادي يجريمه القانون ويقرر لفاعله عقوبة ،
كما عرفها بعض فقهاء علم الاجتماع هي كل سلوك جدير بالعقاب سوأ أعاقب الشارع
الوضعي عليه أم لم يعاقب ويعني ذلك أن الجدارة بالعقاب هي ضابط الجريمة .
لكن هناك رأي فقهي أخر جعل ضابط الجريمة الطبيعية أنها عدوان على الشعور الأخلاقي
متوسط يسود في كل العصور و البلاد ويعني ذلك أنها عدوان على قدر أدنى من القيم
الأخلاقية لا يتصور أن يتجرد منها مجتمع إنساني.
وقد عرف الدكتور محمود نجيب حسني الجريمة بكونها ” فعل غير مشروع صادر عن
إرادة جنائية يقرر له القانون عقوبة أو تدبير احترازي “

ومن خلال هذا التعريف للجريمة يمكن القول أن الجريمة تستوجب توفر ثلاثة أركان لقيامها
،وهي الركن الشرعي و الركن المادي و الركن المعنوي وهذه الأركان الثلاثة التي تستوجبها
قيام الجريمة كرستها جل التشاريع.
لكن هناك رأي فقهي أخر جعل ضابط الجريمة الطبيعية أنها عدوان على الشعور الأخلاقي
متوسط يسود في كل العصور و البلاد ويعني ذلك أنها عدوان على قدر أدنى من القيم
الأخلاقية لا يتصور أن يتجرد منها مجتمع إنساني.
وقد عرف الدكتور محمود نجيب حسني الجريمة بكونها ” فعل غير مشروع صادر عن
إرادة جنائية يقرر له القانون عقوبة أو تدبير احترازي “
ومن خلال هذا التعريف للجريمة يمكن القول أن الجريمة تستوجب توفر ثلاثة أركان لقيامها
،وهي الركن الشرعي و الركن المادي و الركن المعنوي وهذه الأركان الثلاثة التي تستوجبها
قيام الجريمة كرستها جل التشاريع.
والمقصود بالركن الشرعي للجريمة هو أن يكون هناك نص قانوني سابق الوضع ينص على
تجريم بعض الأفعال أي نص قانوني يأمر بعدم القيام بفعل معين أو يجرم عدم القيام به،
والركن الشرعي للجريمة هو امتداد لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات . وقد كرس المشرع
التونسي هذا المبدأ في الدستور بالفصل 13 الذي ينص ” العقوبة شخصية ولا تكون إلا
مقتضى نص قانوني سابق الوضع عدا حالة النص الأرفق
كما أن هذا المبدأ كرسه المشرع في الفصل الأول من المجلة الجزائية الذي نص “لا يعاقب
أحد إلا بمقتضى نص من القانون سابق الوضع لكن إذا وضع قانون بعد وقوع الفعل وقبل
الحكم البات وكان نصه أرفق بالمتهم فالحكم يقع بمقتضاه دون سواه “.
ومن ثمة فان مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات يقتضى أن لا جريمة بدون نص سابق الوضع
أي لا جريمة بدون نص قانوني نص عليها صراحة . فالقانون هو المصدر الوحيد لتحديد
الجرائم و بتالي فانه لا يمكن مؤاخذة شخص عن فعل ما أو عن الامتناع عن القيام بعمل لم

يجرمه القانون صراحة وذلك استنادا للقاعدة الأصولية القائلة أن الأصل في الأمور الإباحة
وأن المنع أو التجريم هو خلاف للأصل.
ومبدأ شرعية الجرائم والعقوبات كرسته كل التشاريع الجنائية على غرار التشريع الفرنسي
في الفصل 111-3 من المجلة الجنائية الجديدة .
أما الركن الثاني للجريمة فهو الركن المادي فلا يمكن الحديث عن جريمة في صورة لم
يرتكب فعل مادي ونعني بالفعل السلوك الإجرامي أيا كانت صورته سواء كان الفعل نشاط
ايجابي أو امتناع عن القيام بفعل وعليه فان قيام الجريمة يستوجب وجود نص قانوني سابق
الوضع يجرم فعل معين ، وارتكاب فعل مادي مجرم سواء كان قيام بفعل أو الامتناع عن
قيام بفعل حتى يتسنى الحديث عن جريمة .
أما الركن الثالث للجريمة فهو الركن المعنوي والركن المعنوي يفترض أن يكون مرتكب
الفعل الإجرامي مسؤول عن فعله أي أن تكون له إرادة حرة وواعية ، فان انتفى عنها ذلك
فلا تقوم المسؤولية الجنائية وعليه إذا توفرت في مرتكب الفعل الإجرامي موانع المسؤولية
فانه يكون غير مسؤول عن فعله الإجرامي وموانع المسؤولية الجنائية يمكن أن تكون
شخصية كصغر السن و الجنون والعته وقد تكون موضوعية كالإكراه وهو ما كرسه الفص
38 من المجلة الجنائية الذي نص ” لا يعاقب من لم يتجاوز سنه الثالثة عشر عاما كاملة عند
ارتكابه الجريمة أو كان فاقدا العقل “
وتبعا لذلك فان العقاب لا يسلط إلا على الشخص المسؤول عن تصرفاته وأفعاله بصورة
إرادية وواعية . ومن ثمة إذا تم تسليط عقاب على الأشخاص الغير مسؤولين جنائيا فانه
يتعارض مع فلسفة العقوبة كجزاء يناله الجاني المدرك و المستوعب لخطورة فعله الإجرامي
والعقوبة لغة هي الجزاء إذ ورد في لسان العرب لابن منظور ” اعتقب الرجل خيرا أو شرا
بما صنع كافأه به . والعقاب و المعاقبة أن نجزي الرجل بما فعل سوءا ” واسم العقوبة ”
وعقابه بذنبه معاقبته وعقابا أخذه به . وتعقب الرجل إذا أخذته بذنب كان منه “

أما العقوبة في المفهوم الاصطلاحي القانوني هي “ما يحكم به على كل من يخالف الإحكام
القانونية “وقد عرفها الدكتور محمود نجيب حسني ” بأنها إيلام مقصود يوقع من أجل
الجريمة و يتناسب معها “
و نستخلص من التعريفات السابقة للعقوبة على اختلافها أن العقوبة هي الألم و الأذى الذي
يقع إلحاقه بالمجرم جزاءا له عما أحدثه بفعله الإجرامي من خلل داخل النظام الاجتماعي.
فالعقوبة إذن هي تترجم حق المجموعة في التصدي للجاني وترميم الخلل الواقع من طرفه
وحمله على عدم الرجوع إلى عالم الإجرام مرة ثانية ، وحمل من تسو له نفسه على ارتكاب
فعل إجرامي عن العدول عنه وذلك حتى لا يناله الأذى و الألم المترتب عن العقوبة .
فالعقوبة إذن لها ثلاثة أهداف وهي الردع و الزجر و الإصلاح والمقصود بالإصلاح هي
إصلاح المخالف وجعله شخص سوي و إعادة إدماجه من جديد في المجتمع بعد قضاء فترة
العقوبة و ما قانون 2001 المتعلق بنظام السجون إلا دليل على الهدف الإصلاحي للعقوبة
وذلك ما نص عليه الفصل 37
وقد شهدت العقوبة على مر العصور تطورات هامة ففي العصور القديمة تنوعت أصناف
العقوبات في المجتمعات حسب طبيعة الجرائم و خطورتها ففي الجرائم البسيطة كان العقاب
يتمثل في السخرية والتهكم. أما إذا كانت الجريمة تكتسي صبغة خطيرة فالعقاب على ذلك
الفعل يكون قاسيا ذو صبغة انتقامية ذلك أن المذنب كان يكبل في حجلات من حديد و يكلف
بأعمال شاقة وحمل الأحجار و تكسير الصخور، كذلك طمس الأعين وقطع الأنف، كذلك
عقوبة تقطيع الأطراف الأربعة و حرق اللسان بحديد ساخن
وتترجم هذه القسوة في العقوبة في كونها وسيلة للانتقام من الجاني الذي اعتدى على غيره .
ثم مرت العقوبة من مرحلة الانتقام إلى مرحلة القصاص والقصاص هو أهم القيود التي
قررتها الدولة للحد من علوا فكرة الانتقام ويقضي قانون القصاص ” العين بالعين والسن
بالسن “ وتبعا لذلك فان القصاص يهدف إلى إقامة التوازن بين الفعل الصادر عن المجني
عليه من جهة و بين جسامة الاعتداء الواقع من جهة أخرى.

ثم مرت العقوبة من مرحلة الانتقام إلى مرحلة التعويض الاتفاقي أو القانوني وتمثل هذه
المرحلة فترة جديدة لتطور العقوبة بحيث لم تعد العقوبة تقوم على الانتقام من الجاني ، إنما
أضحت تقوم على التعويض وذلك من خلال دعوة السلطة الاجتماعية طرفي النزاع إلى
التفاهم فيما بينهم عوض الاقتتال ويتم ذلك بدفع مبلغ من المال يعتبر تعويضا عن الضرر
الذي يدفعه المعتدي إلى المجني عليه أو ذويه . والتعويض عن الضرر الحاصل للمجني عليه
كان اتفاقيا في البداية لأنه يخضع لإرادة الأطراف المتنازعة ثم أصبح قانونيا أي بتحديد من
الدولة نفسها.
وفي مرحلة لاحقة اتسمت العقوبة بصبغة دينية حيث لعبت الديانة المسحية دورا كبيرا في
التأثير على الفكر العقابي .ذلك أن الديانة المسحية غيرت من مضمون العقوبة حيث لم تعد
العقوبة كما هو سائد في العصور القديمة تمثل تكفير والتكفير هو التضحية بالجاني لإرضاء
الإلهة . إنما أصبحت العقوبة جزاءا عادلا يريد به الإله العادل محو الخطية و تطهير النفس
و تمهيد الطريق أمامه للتوبة ومن ثمة فان الطابع الديني للعقوبة أدي إلى التخفيف من قسوة
العقوبات السائدة وذلك بإلغاء بعض العقوبات المبالغ في شدتها و قسوتها على الجاني.
ولعب الدين الإسلامي الحنيف دورا كبيرا في بلورة مضمون العقوبة فالعقوبة في الإسلام
كما هي في الديانة المسحية تتجه إلى العدالة وحماية الفضيلة و الأخلاق . وتبعا لذلك فهو
يهدف إلي تحقيق العدالة من خلال أن تكون العقوبة متساوية مع الجريمة وآثارها كما أن
العقوبة في الإسلام أصبحت لها بعد منفعي مصلحي ذلك انه ما من حكم في الإسلام إلا كان
فيه مصلحة للمجتمع إذ قال لله تعالى ” قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور
وهدى ورحمة للمؤمنين “
كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم “لا ضرر وضرار “ وعليه فالعقوبة في الدين
الإسلامي أصبحت لها غايتان الأولى حماية الفضيلة وحماية المجتمع من انتشار الرذيلة فيه
أما الغاية الثانية فهي المنفعة العامة أو المصلحة.

وقد قسم الفقهاء الجرائم في الشريعة الإسلامية تقسيما ثلاثيا يقوم على جرائم الحدود وجرائم
القصاص و الدية وجرائم التعازير.
وجرائم الحدود وهي الأفعال المعاقب عليها بحدود و الحد هو العقوبة المقدرة حقا لله وتبعا
لذلك ليس لها حد ادني و حد أقصى وهى حق لله تعلى لا يجوز إسقاطها لا من أفراد المجني
عليهم ولا من الجماعة نفسها. وتبعا لذلك يمكن القول أن عقوبات جرائم الحدود مقدرة مسبقا
من الله تعالى ولا يمكن للقاضي الاجتهاد فيها .
أما جرائم القصاص و الدية يقصد بها الجرائم التي يعاقب عليها بقصاص أو الدية وتشترك
عقوبات القصاص والدية مع عقوبات الحدود بكونها محددة من الله تعالى وليس لها حد أدنى
و لا حد أقصى لكنها تختلف عن جرائم الحدود لكونها حق للإفراد و بتالي يجوز العفو عنها
من جانب المجني عليه أو وليه و بتالي إسقاط العقوبة المقررة علها . وعليه فان جرائم
القصاص و الدية هي جرائم محددة من الله تعالى لكن يجوز إسقاطها و العفو عنها من
المجني عليه أو وليه .
أما جرائم التعازير فتتمثل في جرائم غير منصوص على عقوبتها وليست محددة من الله
تعالى مثل جرائم الحدود والقصاص و الدية] . و من ثمة يمكن القول أنه في جرائم الحدود
والقصاص و الدية فان سلطة القاضي تكون مقيدة بينما يتمتع بسلطة تقديرية واسعة فيما
يتعلق بجرائم التعازير .
وقد تطورت العقوبة بموجب تطور القوانين خاصة في العصر الحديث ويمكن القول أن
التطور الحقيقي للقانون الجزائي كان إبان الثورة الفرنسية ذلك انه امتاز العهد السابق مباشرة
على الثورة بنشاط فكري تناول أهم النظم الجنائية وامتاز كذلك بروح انتقادية عابت
الأوضاع المستقرة في ذلك العهد . وشهدت العقوبة تطور مع ثلاث مدارس فقهية .
المدرسة الأولى هي المدرسة التقليدية نشأة هذه المدرسة في النصف الثاني من القرن الثامن
عشر من أبرز مؤسسيها Feuerbach . Bentham .Baccaria وعابت هذه المدرسة على

النظام الجنائي المستقر عيوبا تؤصل في أمرين وهما قسوة العقوبات و خضوعها للسلطة
التقديرية للقاضي واستبداده.
ونادت هذه المدرسة بأمرين أولهما التخفيف من قسوة العقوبات وإقرار مبدأ شرعية الجرائم
والعقوبات بما يستتبعه من قضاء على سلطة القاضي في التجريم و العقاب وحصرها في
تطبيق نصوص القانون وإقرار المساواة بين من يرتكبون ذات الجريمة. ومن ثمة فالمدرسة
التقليدية كرست مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات وجعل العقوبة متناسبة مع خطورة الجريمة
وما تلحقه من ضرر بالمجتمع. إلا أن المدرسة التقليدية وجهت لها عدة انتقادات من طرف
مؤسسي المدرسة التقليدية الحديثة ويعتبر Guizot .Rossi من أبرز مؤسسيها وهذه
المدرسة سعت إلي تعديل بعض الأفكار التي كرستها المدرسة التقليدية وجعل العقوبة
تتناسب مع مبدأ العدالة دون إهمال مصلحة المجتمع ، و من الأفكار الجديدة المتعلقة
بالعقوبة التي كرستها المدرسة التقليدية الحديثة هي ضرورة الأخذ بعين الاعتبار ظروف
المجرم وعدم المبالغة في الاعتماد علي فكرة النفعية الاجتماعية عند تحديد العقوبات . وقد
استطاعت هذه المدرسة أن تؤثر على المشرع الفرنسي بهذه الأفكار الجديدة حيث أنه منذ
سنة 1832 اصدر عدة قوانين أدت إلى إلغاء عقوبة الإعدام بالنسبة للجرائم السياسة والى
تخفيف ملحوظ للعقاب بالنسبة للعديد من جرائم الحق العام كما خفف المشرع الفرنسي من
قسوة العقوبات فألغيت بعض العقوبات القاسية كقطع يد قاتل والده قبل تنفيذ الإعدام فيه . إلا
أن المدرسة التقليدية و المدرسة التقليدية الحديثة تعرضتا لانتقاد لاذع من المدرسة الوضعية
هذه المدرسة التي نشأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر و يعتبر الفقيهين
Lambroso. Ferri من أبرز مؤسسيها ويرى أنصار هذه المدرسة أن المدرستين
التقليديتين اهتمتا بالجريمة أكثر من اهتمامها بالمجرم، لذلك لا بد من الاهتمام بالمجرم و
شخصيته و الظروف التي تدفعه إلى ارتكاب الجريمة لان المجرم عندما يرتكب الجريمة فهو
مدفوعا لارتكابها ولا يفعل ذلك بإرادته و اختياره. لذلك أسست المدرسة الوضعية رأيها على
فكرة الجبرية أي نفي الاختيار لدي الجاني والسبب في ذلك أن المذنب يكون مكرها على
الإجرام امتثالا لما تمليه عليه غرائزه و حالته النفسية و كل ما يحيط به من ظروف خارجية.

وتبعا لذلك قسمت هذه المدرسة المجرمين إلى خمسة أصناف وهم المجرم بطبيعته أي مجرم
بالفطرة الذي له مكونات عضوية ونفسية تدفعه حتما إلى الإجرام
و المجرم بالعاطفة وهو المصاب بضعف يفقده السيطرة على تصرفاته مما يجعله يقدم على
الجريمة دون تفكير .
والمجرم بالصدفة هو المجرم الذي تدفعه الظروف الخارجية للجريمة أي يكون غير معتاد أو
مصر على الإجرام .
و المجرم المعتاد وهو المجرم الذي ارتكب الجريمة للأول مرة ثم اعتاد على الإجرام بسبب
تأثير العوامل الاجتماعية المفسدة .
و المجرم المصاب بخلل في مداركه العقلية مما يجعله ناقص الإدراك والتميز فهو إذن مجرم
معتل العقل .
وبعد تحديد المدرسة الوضعية أصناف المجرمين قامت بتحدد الإجراءات الواجب اتخاذها
ضد كل صنف من أصناف المجرمين .
فالمجرم بالفطرة والمجرم المعتاد فلا أمل في إصلاحهما و الإجراء الذي يتخذ ضدهما هو
استئصالهما من المجتمع ، وذلك إما بعقوبة الإعدام أو النفي المؤبد أو عقوبة الإقصاء . أما
المجرم المختل عقليا يجب ادعاه في مستشفى الإمراض العقلية أو في مكان مخصص
للمجرمين مختلي العقول . أما المجرم بالعاطفة أو المجرم بالصدفة فإنهما قابلان للإصلاح
لذلك يجب أن يتمثل الإجراء المتخذ ضدهما في كل ما يكون مؤديا إلى إصلاحهما وتقويم
سلوكهما كذلك الشأن بالنسبة للأطفال الجانحين نظرا لكون صغر سنهم يجعلهم قابلين
للإصلاح . إذن يمكن القول أن المدرسة الوضعية ساهمت بأفكارها الجديدة و الرائدة في
نشأة علوم الإجرام و اعتماد فكرة التدابير الاحترازية كجزاء جزائي إلى جانب العقوبة
الأصلية . إلا أن هذه المدرسة على الرغم ما نادت به من أفكار عقابية جديدة فإنها لم تؤثر

في التشريع الجنائي المعاصر الذي بقي وفيا لأراء المدرسة التقليدية و المدرسة التقليدية
الحديثة في أغلب القوانين الجنائية بما في ذلك القانون الجزائي التونسي.
القانون الجزائي التونسي كغيره من التشاريع المقارنة مر بعدة مراحل تاريخية أهما تطبيق
التشريع الجنائي الإسلامي ابتداء من أواخر القرن السابع ميلادي إلى حد النصف الثاني من
القرن التاسع عشر حيث وقع تكرس القانون الوضعي مكان التشريع الإسلامي ويتجسم ذلك
في عهد الأمان الصادر سنة 1857 و الذي نص في فصله 27 على مبدأ شرعية الجرائم
والعقوبات الذي تم الأخذ به مع ظهور أول مجموعة للقوانين سنة 1861 . كما وقع تقنين
القانون الجزائي بموجب إصدار المجلة الجنائية سنة 1913 ودخلت حيز التنفيذ في غرة
جويلية 1914 . وقد أقرت المجلة الجنائية أسوة بالمجلة الجنائية الفرنسية لسنة 1810اهم
المبادئ التي دعت إليها المدارس الفقهية التي ظهرت في أروبا على غرار مبدأ شرعية
الجرائم والعقوبات و مبدأ المساواة في العقوبة ،وكذلك مبدأ شخصية العقوبة التي أقرها
الفصل 13 من الدستور .
وكل هذه المبادئ كرسها المشرع الجزائي للحد من السلطة التقديرية للقضاة عند توقيع
العقاب و استبدادهم من جهة وصيانة كرامة الجاني من جهة أخرى . كما كرس المشرع
التونسي مبدأ هام في القانون الجزائي وهو” مبدأ تفريد العقوبة” وهذا المبدأ يعني جعل
العقاب المقرر للجريمة يتلائم وشخصية الجاني وخطورة الجريمة و النتائج المترتبة عنها .
وتبعا لذلك فان المشرع أعطى للقاضي حرية في تكييف العقاب وبتالي تسليط العقاب على
كل واقعة على حدة وحسب شخصية كل متهم وظروف كل واقعة على المجتمع . وعليه
يمكن القول أن المشرع قطع مع نظام العقوبات الثابتة الذي لا يسمح للقاضي بمراعاة الفروق
الموجودة بين الجناة من خلال وجود ظروف تشديد وظروف تخفيف يجب على القاضي
التقيد بها عند إصدار الحكم بالعقاب .
وحتى تكون العقوبة متلائمة مع شخصية المجرم و ظروف الجريمة والنتائج المترتبة عنها ،
كرس المشرع التونسي في المجلة الجزائية وبعض القوانين الخاصة ظروف تخفيف للعقاب

التشديد
بقلم: الدكتور جابر غنيمي

المساعد الأول لوكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد

إن الجريمة قديمة قدم الإنسان ذاته، وعليه فالعقوبة ارتبطت بالجرم الذي يقترفه الفاعل .
والجريمة ليست ظاهرة إنسانية عامة فحسب إنما هي ظاهرة طبيعية لأنها تتلازم مع الحياة
حيث وجدت ولأن الجريمة تمثل عدوان فان اهتمام المجتمعات بأمرها وبأمر مرتكبيها قديم
يرتد إلى التاريخ الذي وجدت فيه هذه المجتمعات.لذلك حاولت المجتمعات على مر العصور
التصدي للجريمة من خلال تسليط عقوبات رادعة و متناسبة مع كل مخالف تسول له نفسه
الخروج عن النظام الاجتماعي . ويعد القانون الجزائي القانون الكفيل بتوفير الحماية و الأمن
والاستقرار للمجموعة الاجتماعية وذلك لما ينطوي عليه من عقوبات رادعة وزجرية لكل
الأفعال الإجرامية .
والجريمة يمكن تعريفها بأنها تتمثل في سلوك إرادي يجريمه القانون ويقرر لفاعله عقوبة ،
كما عرفها بعض فقهاء علم الاجتماع هي كل سلوك جدير بالعقاب سوأ أعاقب الشارع
الوضعي عليه أم لم يعاقب ويعني ذلك أن الجدارة بالعقاب هي ضابط الجريمة .
لكن هناك رأي فقهي أخر جعل ضابط الجريمة الطبيعية أنها عدوان على الشعور الأخلاقي
متوسط يسود في كل العصور و البلاد ويعني ذلك أنها عدوان على قدر أدنى من القيم
الأخلاقية لا يتصور أن يتجرد منها مجتمع إنساني.
وقد عرف الدكتور محمود نجيب حسني الجريمة بكونها ” فعل غير مشروع صادر عن
إرادة جنائية يقرر له القانون عقوبة أو تدبير احترازي “

ومن خلال هذا التعريف للجريمة يمكن القول أن الجريمة تستوجب توفر ثلاثة أركان لقيامها
،وهي الركن الشرعي و الركن المادي و الركن المعنوي وهذه الأركان الثلاثة التي تستوجبها
قيام الجريمة كرستها جل التشاريع.
لكن هناك رأي فقهي أخر جعل ضابط الجريمة الطبيعية أنها عدوان على الشعور الأخلاقي
متوسط يسود في كل العصور و البلاد ويعني ذلك أنها عدوان على قدر أدنى من القيم
الأخلاقية لا يتصور أن يتجرد منها مجتمع إنساني.
وقد عرف الدكتور محمود نجيب حسني الجريمة بكونها ” فعل غير مشروع صادر عن
إرادة جنائية يقرر له القانون عقوبة أو تدبير احترازي “
ومن خلال هذا التعريف للجريمة يمكن القول أن الجريمة تستوجب توفر ثلاثة أركان لقيامها
،وهي الركن الشرعي و الركن المادي و الركن المعنوي وهذه الأركان الثلاثة التي تستوجبها
قيام الجريمة كرستها جل التشاريع.
والمقصود بالركن الشرعي للجريمة هو أن يكون هناك نص قانوني سابق الوضع ينص على
تجريم بعض الأفعال أي نص قانوني يأمر بعدم القيام بفعل معين أو يجرم عدم القيام به،
والركن الشرعي للجريمة هو امتداد لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات . وقد كرس المشرع
التونسي هذا المبدأ في الدستور بالفصل 13 الذي ينص ” العقوبة شخصية ولا تكون إلا
مقتضى نص قانوني سابق الوضع عدا حالة النص الأرفق
كما أن هذا المبدأ كرسه المشرع في الفصل الأول من المجلة الجزائية الذي نص “لا يعاقب
أحد إلا بمقتضى نص من القانون سابق الوضع لكن إذا وضع قانون بعد وقوع الفعل وقبل
الحكم البات وكان نصه أرفق بالمتهم فالحكم يقع بمقتضاه دون سواه “.
ومن ثمة فان مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات يقتضى أن لا جريمة بدون نص سابق الوضع
أي لا جريمة بدون نص قانوني نص عليها صراحة . فالقانون هو المصدر الوحيد لتحديد
الجرائم و بتالي فانه لا يمكن مؤاخذة شخص عن فعل ما أو عن الامتناع عن القيام بعمل لم

يجرمه القانون صراحة وذلك استنادا للقاعدة الأصولية القائلة أن الأصل في الأمور الإباحة
وأن المنع أو التجريم هو خلاف للأصل.
ومبدأ شرعية الجرائم والعقوبات كرسته كل التشاريع الجنائية على غرار التشريع الفرنسي
في الفصل 111-3 من المجلة الجنائية الجديدة .
أما الركن الثاني للجريمة فهو الركن المادي فلا يمكن الحديث عن جريمة في صورة لم
يرتكب فعل مادي ونعني بالفعل السلوك الإجرامي أيا كانت صورته سواء كان الفعل نشاط
ايجابي أو امتناع عن القيام بفعل وعليه فان قيام الجريمة يستوجب وجود نص قانوني سابق
الوضع يجرم فعل معين ، وارتكاب فعل مادي مجرم سواء كان قيام بفعل أو الامتناع عن
قيام بفعل حتى يتسنى الحديث عن جريمة .
أما الركن الثالث للجريمة فهو الركن المعنوي والركن المعنوي يفترض أن يكون مرتكب
الفعل الإجرامي مسؤول عن فعله أي أن تكون له إرادة حرة وواعية ، فان انتفى عنها ذلك
فلا تقوم المسؤولية الجنائية وعليه إذا توفرت في مرتكب الفعل الإجرامي موانع المسؤولية
فانه يكون غير مسؤول عن فعله الإجرامي وموانع المسؤولية الجنائية يمكن أن تكون
شخصية كصغر السن و الجنون والعته وقد تكون موضوعية كالإكراه وهو ما كرسه الفص
38 من المجلة الجنائية الذي نص ” لا يعاقب من لم يتجاوز سنه الثالثة عشر عاما كاملة عند
ارتكابه الجريمة أو كان فاقدا العقل “
وتبعا لذلك فان العقاب لا يسلط إلا على الشخص المسؤول عن تصرفاته وأفعاله بصورة
إرادية وواعية . ومن ثمة إذا تم تسليط عقاب على الأشخاص الغير مسؤولين جنائيا فانه
يتعارض مع فلسفة العقوبة كجزاء يناله الجاني المدرك و المستوعب لخطورة فعله الإجرامي
والعقوبة لغة هي الجزاء إذ ورد في لسان العرب لابن منظور ” اعتقب الرجل خيرا أو شرا
بما صنع كافأه به . والعقاب و المعاقبة أن نجزي الرجل بما فعل سوءا ” واسم العقوبة ”
وعقابه بذنبه معاقبته وعقابا أخذه به . وتعقب الرجل إذا أخذته بذنب كان منه “

أما العقوبة في المفهوم الاصطلاحي القانوني هي “ما يحكم به على كل من يخالف الإحكام
القانونية “وقد عرفها الدكتور محمود نجيب حسني ” بأنها إيلام مقصود يوقع من أجل
الجريمة و يتناسب معها “
و نستخلص من التعريفات السابقة للعقوبة على اختلافها أن العقوبة هي الألم و الأذى الذي
يقع إلحاقه بالمجرم جزاءا له عما أحدثه بفعله الإجرامي من خلل داخل النظام الاجتماعي.
فالعقوبة إذن هي تترجم حق المجموعة في التصدي للجاني وترميم الخلل الواقع من طرفه
وحمله على عدم الرجوع إلى عالم الإجرام مرة ثانية ، وحمل من تسو له نفسه على ارتكاب
فعل إجرامي عن العدول عنه وذلك حتى لا يناله الأذى و الألم المترتب عن العقوبة .
فالعقوبة إذن لها ثلاثة أهداف وهي الردع و الزجر و الإصلاح والمقصود بالإصلاح هي
إصلاح المخالف وجعله شخص سوي و إعادة إدماجه من جديد في المجتمع بعد قضاء فترة
العقوبة و ما قانون 2001 المتعلق بنظام السجون إلا دليل على الهدف الإصلاحي للعقوبة
وذلك ما نص عليه الفصل 37
وقد شهدت العقوبة على مر العصور تطورات هامة ففي العصور القديمة تنوعت أصناف
العقوبات في المجتمعات حسب طبيعة الجرائم و خطورتها ففي الجرائم البسيطة كان العقاب
يتمثل في السخرية والتهكم. أما إذا كانت الجريمة تكتسي صبغة خطيرة فالعقاب على ذلك
الفعل يكون قاسيا ذو صبغة انتقامية ذلك أن المذنب كان يكبل في حجلات من حديد و يكلف
بأعمال شاقة وحمل الأحجار و تكسير الصخور، كذلك طمس الأعين وقطع الأنف، كذلك
عقوبة تقطيع الأطراف الأربعة و حرق اللسان بحديد ساخن
وتترجم هذه القسوة في العقوبة في كونها وسيلة للانتقام من الجاني الذي اعتدى على غيره .
ثم مرت العقوبة من مرحلة الانتقام إلى مرحلة القصاص والقصاص هو أهم القيود التي
قررتها الدولة للحد من علوا فكرة الانتقام ويقضي قانون القصاص ” العين بالعين والسن
بالسن “ وتبعا لذلك فان القصاص يهدف إلى إقامة التوازن بين الفعل الصادر عن المجني
عليه من جهة و بين جسامة الاعتداء الواقع من جهة أخرى.

ثم مرت العقوبة من مرحلة الانتقام إلى مرحلة التعويض الاتفاقي أو القانوني وتمثل هذه
المرحلة فترة جديدة لتطور العقوبة بحيث لم تعد العقوبة تقوم على الانتقام من الجاني ، إنما
أضحت تقوم على التعويض وذلك من خلال دعوة السلطة الاجتماعية طرفي النزاع إلى
التفاهم فيما بينهم عوض الاقتتال ويتم ذلك بدفع مبلغ من المال يعتبر تعويضا عن الضرر
الذي يدفعه المعتدي إلى المجني عليه أو ذويه . والتعويض عن الضرر الحاصل للمجني عليه
كان اتفاقيا في البداية لأنه يخضع لإرادة الأطراف المتنازعة ثم أصبح قانونيا أي بتحديد من
الدولة نفسها.
وفي مرحلة لاحقة اتسمت العقوبة بصبغة دينية حيث لعبت الديانة المسحية دورا كبيرا في
التأثير على الفكر العقابي .ذلك أن الديانة المسحية غيرت من مضمون العقوبة حيث لم تعد
العقوبة كما هو سائد في العصور القديمة تمثل تكفير والتكفير هو التضحية بالجاني لإرضاء
الإلهة . إنما أصبحت العقوبة جزاءا عادلا يريد به الإله العادل محو الخطية و تطهير النفس
و تمهيد الطريق أمامه للتوبة ومن ثمة فان الطابع الديني للعقوبة أدي إلى التخفيف من قسوة
العقوبات السائدة وذلك بإلغاء بعض العقوبات المبالغ في شدتها و قسوتها على الجاني.
ولعب الدين الإسلامي الحنيف دورا كبيرا في بلورة مضمون العقوبة فالعقوبة في الإسلام
كما هي في الديانة المسحية تتجه إلى العدالة وحماية الفضيلة و الأخلاق . وتبعا لذلك فهو
يهدف إلي تحقيق العدالة من خلال أن تكون العقوبة متساوية مع الجريمة وآثارها كما أن
العقوبة في الإسلام أصبحت لها بعد منفعي مصلحي ذلك انه ما من حكم في الإسلام إلا كان
فيه مصلحة للمجتمع إذ قال لله تعالى ” قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور
وهدى ورحمة للمؤمنين “
كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم “لا ضرر وضرار “ وعليه فالعقوبة في الدين
الإسلامي أصبحت لها غايتان الأولى حماية الفضيلة وحماية المجتمع من انتشار الرذيلة فيه
أما الغاية الثانية فهي المنفعة العامة أو المصلحة.

وقد قسم الفقهاء الجرائم في الشريعة الإسلامية تقسيما ثلاثيا يقوم على جرائم الحدود وجرائم
القصاص و الدية وجرائم التعازير.
وجرائم الحدود وهي الأفعال المعاقب عليها بحدود و الحد هو العقوبة المقدرة حقا لله وتبعا
لذلك ليس لها حد ادني و حد أقصى وهى حق لله تعلى لا يجوز إسقاطها لا من أفراد المجني
عليهم ولا من الجماعة نفسها. وتبعا لذلك يمكن القول أن عقوبات جرائم الحدود مقدرة مسبقا
من الله تعالى ولا يمكن للقاضي الاجتهاد فيها .
أما جرائم القصاص و الدية يقصد بها الجرائم التي يعاقب عليها بقصاص أو الدية وتشترك
عقوبات القصاص والدية مع عقوبات الحدود بكونها محددة من الله تعالى وليس لها حد أدنى
و لا حد أقصى لكنها تختلف عن جرائم الحدود لكونها حق للإفراد و بتالي يجوز العفو عنها
من جانب المجني عليه أو وليه و بتالي إسقاط العقوبة المقررة علها . وعليه فان جرائم
القصاص و الدية هي جرائم محددة من الله تعالى لكن يجوز إسقاطها و العفو عنها من
المجني عليه أو وليه .
أما جرائم التعازير فتتمثل في جرائم غير منصوص على عقوبتها وليست محددة من الله
تعالى مثل جرائم الحدود والقصاص و الدية] . و من ثمة يمكن القول أنه في جرائم الحدود
والقصاص و الدية فان سلطة القاضي تكون مقيدة بينما يتمتع بسلطة تقديرية واسعة فيما
يتعلق بجرائم التعازير .
وقد تطورت العقوبة بموجب تطور القوانين خاصة في العصر الحديث ويمكن القول أن
التطور الحقيقي للقانون الجزائي كان إبان الثورة الفرنسية ذلك انه امتاز العهد السابق مباشرة
على الثورة بنشاط فكري تناول أهم النظم الجنائية وامتاز كذلك بروح انتقادية عابت
الأوضاع المستقرة في ذلك العهد . وشهدت العقوبة تطور مع ثلاث مدارس فقهية .
المدرسة الأولى هي المدرسة التقليدية نشأة هذه المدرسة في النصف الثاني من القرن الثامن
عشر من أبرز مؤسسيها Feuerbach . Bentham .Baccaria وعابت هذه المدرسة على

النظام الجنائي المستقر عيوبا تؤصل في أمرين وهما قسوة العقوبات و خضوعها للسلطة
التقديرية للقاضي واستبداده.
ونادت هذه المدرسة بأمرين أولهما التخفيف من قسوة العقوبات وإقرار مبدأ شرعية الجرائم
والعقوبات بما يستتبعه من قضاء على سلطة القاضي في التجريم و العقاب وحصرها في
تطبيق نصوص القانون وإقرار المساواة بين من يرتكبون ذات الجريمة. ومن ثمة فالمدرسة
التقليدية كرست مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات وجعل العقوبة متناسبة مع خطورة الجريمة
وما تلحقه من ضرر بالمجتمع. إلا أن المدرسة التقليدية وجهت لها عدة انتقادات من طرف
مؤسسي المدرسة التقليدية الحديثة ويعتبر Guizot .Rossi من أبرز مؤسسيها وهذه
المدرسة سعت إلي تعديل بعض الأفكار التي كرستها المدرسة التقليدية وجعل العقوبة
تتناسب مع مبدأ العدالة دون إهمال مصلحة المجتمع ، و من الأفكار الجديدة المتعلقة
بالعقوبة التي كرستها المدرسة التقليدية الحديثة هي ضرورة الأخذ بعين الاعتبار ظروف
المجرم وعدم المبالغة في الاعتماد علي فكرة النفعية الاجتماعية عند تحديد العقوبات . وقد
استطاعت هذه المدرسة أن تؤثر على المشرع الفرنسي بهذه الأفكار الجديدة حيث أنه منذ
سنة 1832 اصدر عدة قوانين أدت إلى إلغاء عقوبة الإعدام بالنسبة للجرائم السياسة والى
تخفيف ملحوظ للعقاب بالنسبة للعديد من جرائم الحق العام كما خفف المشرع الفرنسي من
قسوة العقوبات فألغيت بعض العقوبات القاسية كقطع يد قاتل والده قبل تنفيذ الإعدام فيه . إلا
أن المدرسة التقليدية و المدرسة التقليدية الحديثة تعرضتا لانتقاد لاذع من المدرسة الوضعية
هذه المدرسة التي نشأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر و يعتبر الفقيهين
Lambroso. Ferri من أبرز مؤسسيها ويرى أنصار هذه المدرسة أن المدرستين
التقليديتين اهتمتا بالجريمة أكثر من اهتمامها بالمجرم، لذلك لا بد من الاهتمام بالمجرم و
شخصيته و الظروف التي تدفعه إلى ارتكاب الجريمة لان المجرم عندما يرتكب الجريمة فهو
مدفوعا لارتكابها ولا يفعل ذلك بإرادته و اختياره. لذلك أسست المدرسة الوضعية رأيها على
فكرة الجبرية أي نفي الاختيار لدي الجاني والسبب في ذلك أن المذنب يكون مكرها على
الإجرام امتثالا لما تمليه عليه غرائزه و حالته النفسية و كل ما يحيط به من ظروف خارجية.

وتبعا لذلك قسمت هذه المدرسة المجرمين إلى خمسة أصناف وهم المجرم بطبيعته أي مجرم
بالفطرة الذي له مكونات عضوية ونفسية تدفعه حتما إلى الإجرام
و المجرم بالعاطفة وهو المصاب بضعف يفقده السيطرة على تصرفاته مما يجعله يقدم على
الجريمة دون تفكير .
والمجرم بالصدفة هو المجرم الذي تدفعه الظروف الخارجية للجريمة أي يكون غير معتاد أو
مصر على الإجرام .
و المجرم المعتاد وهو المجرم الذي ارتكب الجريمة للأول مرة ثم اعتاد على الإجرام بسبب
تأثير العوامل الاجتماعية المفسدة .
و المجرم المصاب بخلل في مداركه العقلية مما يجعله ناقص الإدراك والتميز فهو إذن مجرم
معتل العقل .
وبعد تحديد المدرسة الوضعية أصناف المجرمين قامت بتحدد الإجراءات الواجب اتخاذها
ضد كل صنف من أصناف المجرمين .
فالمجرم بالفطرة والمجرم المعتاد فلا أمل في إصلاحهما و الإجراء الذي يتخذ ضدهما هو
استئصالهما من المجتمع ، وذلك إما بعقوبة الإعدام أو النفي المؤبد أو عقوبة الإقصاء . أما
المجرم المختل عقليا يجب ادعاه في مستشفى الإمراض العقلية أو في مكان مخصص
للمجرمين مختلي العقول . أما المجرم بالعاطفة أو المجرم بالصدفة فإنهما قابلان للإصلاح
لذلك يجب أن يتمثل الإجراء المتخذ ضدهما في كل ما يكون مؤديا إلى إصلاحهما وتقويم
سلوكهما كذلك الشأن بالنسبة للأطفال الجانحين نظرا لكون صغر سنهم يجعلهم قابلين
للإصلاح . إذن يمكن القول أن المدرسة الوضعية ساهمت بأفكارها الجديدة و الرائدة في
نشأة علوم الإجرام و اعتماد فكرة التدابير الاحترازية كجزاء جزائي إلى جانب العقوبة
الأصلية . إلا أن هذه المدرسة على الرغم ما نادت به من أفكار عقابية جديدة فإنها لم تؤثر

في التشريع الجنائي المعاصر الذي بقي وفيا لأراء المدرسة التقليدية و المدرسة التقليدية
الحديثة في أغلب القوانين الجنائية بما في ذلك القانون الجزائي التونسي.
القانون الجزائي التونسي كغيره من التشاريع المقارنة مر بعدة مراحل تاريخية أهما تطبيق
التشريع الجنائي الإسلامي ابتداء من أواخر القرن السابع ميلادي إلى حد النصف الثاني من
القرن التاسع عشر حيث وقع تكرس القانون الوضعي مكان التشريع الإسلامي ويتجسم ذلك
في عهد الأمان الصادر سنة 1857 و الذي نص في فصله 27 على مبدأ شرعية الجرائم
والعقوبات الذي تم الأخذ به مع ظهور أول مجموعة للقوانين سنة 1861 . كما وقع تقنين
القانون الجزائي بموجب إصدار المجلة الجنائية سنة 1913 ودخلت حيز التنفيذ في غرة
جويلية 1914 . وقد أقرت المجلة الجنائية أسوة بالمجلة الجنائية الفرنسية لسنة 1810اهم
المبادئ التي دعت إليها المدارس الفقهية التي ظهرت في أروبا على غرار مبدأ شرعية
الجرائم والعقوبات و مبدأ المساواة في العقوبة ،وكذلك مبدأ شخصية العقوبة التي أقرها
الفصل 13 من الدستور .
وكل هذه المبادئ كرسها المشرع الجزائي للحد من السلطة التقديرية للقضاة عند توقيع
العقاب و استبدادهم من جهة وصيانة كرامة الجاني من جهة أخرى . كما كرس المشرع
التونسي مبدأ هام في القانون الجزائي وهو” مبدأ تفريد العقوبة” وهذا المبدأ يعني جعل
العقاب المقرر للجريمة يتلائم وشخصية الجاني وخطورة الجريمة و النتائج المترتبة عنها .
وتبعا لذلك فان المشرع أعطى للقاضي حرية في تكييف العقاب وبتالي تسليط العقاب على
كل واقعة على حدة وحسب شخصية كل متهم وظروف كل واقعة على المجتمع . وعليه
يمكن القول أن المشرع قطع مع نظام العقوبات الثابتة الذي لا يسمح للقاضي بمراعاة الفروق
الموجودة بين الجناة من خلال وجود ظروف تشديد وظروف تخفيف يجب على القاضي
التقيد بها عند إصدار الحكم بالعقاب .
وحتى تكون العقوبة متلائمة مع شخصية المجرم و ظروف الجريمة والنتائج المترتبة عنها ،
كرس المشرع التونسي في المجلة الجزائية وبعض القوانين الخاصة ظروف تخفيف للعقاب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى