
بقلم: الدكتور جابر غنيمي
المساعد الاول لوكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد
مدرس جامعي
تلعب النيابة العمومية دورا محوريا و رئيسيا في مكافحة الفساد. و لتحقيق هذا الهدف لا بد من توفير جملة من الضمانات و لعل من أهمها استقلالية النيابة العمومية.
إن استقلال القضاء ليس ترفاً، وليس خيارا للشعوب أو الحكام .. بل هو حتمية حياة وضرورة وجود .. ، وهو صمام الأمان للمتقاضى قبل القاضي .
والحديث عن دولة المؤسسات وعن مبدأ سيادة القانون وعن المشروعية في دولة لا يوجد فيها قضاء مستقل، يصبح نوعاَ من العبث، لأن هذه الأمور جميعا مرتبطة ارتباطا وثيقا لا ينفصم، فحيث يوجد إيمان بمبدأ المشروعية وسيادة القانون وحيث يوجد الدستور، فان السلطة القضائية المستقلة تأتى كنتيجة طبيعية، أما عندما يختفي مبدأ المشروعية وعندما لا يكون هناك إيمان بمبدأ سيادة القانون، فانه لا يمكن تصور وجود سلطة قضائية مستقلة في مواجهة بطش السلطة التنفيذية.
ولقد نص الفصل 102 من الدستور التونسي” القضاء سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل، وعلوية الدستور، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات.
القاضي مستقل لا سلطان عليه في قضائه لغير القانون”.
و قد نص الفصل 115 من الدستور على أن النيابة العمومية هي جزء من القضاء العدلي، وتشملها الضمانات المكفولة له بالدستور.
ولقد نص الفصل 12 من القانون عدد 29 لسنة 1967 المؤرخ في 14 جويلية 1967 المتعلق بنظام القضاء و المجلس الأعلى للقضاء و القانون الأساسي للقضاة ” يتألف السلك القضائي من القضاة الجالسين ومن أعـضاء النيابـة العمومية ومن القضاة التابعين لإطار الإدارة المركزية بوزارة العدل والمؤسسات الراجعة لهذه الوزارة بالنظر والقضاة الذين هم بحالة إلحاق”
و قد نص الفصل 15 من القانون عدد 29 لسنة 1967 المؤرخ في 14 جويلية 1967 المتعلق بنظام القضاء و المجلس الأعلى للقضاء و القانون الأساسي للقضاة ” قضاة النيابة العمومية خاضعون لإدارة ومراقبة رؤسائهم المباشرين ولسلطة وزير العدل”.
و نص الفصل 23 من م ا ج ” لكاتب الدولة للعدل أن يبلغ إلى الوكيل العام للجمهورية الجرائم التي يحصل له العلم بها وأن يأذنه بإجراء التتبعات سواء بنفسه أو بواسطة من يكلفه أو بأن يقدم إلى المحكمة المختصة الملحوظات الكتابية التي يرى كاتب الدولة للعدل من المناسب تقديمها”.
و الاستقلال في اللغة يطلق على معان منها: الارتفاع، والارتحال، والاستبداد وهو التفرد. يقال: هو مستقل بنفسه، أي ضابط أمر.
ولبيان استقلال القضاء في الاصطلاح، ذكر الباحثون المعاصرون عدداً من التعريفات، منها:
سلامة القاضي من نفوذ غيره عليه في قضائه فرداً أو دولة، رئيساً له أو غيره.
انفراد القاضي بإصدار الأحكام في الوقائع بالطرق الشرعية وفق اجتهاده، دون تدخلٍ من غيره، أو تأثيرٍ عليه .
ويُلحظ في التعريفين: أن استقلال القاضي يستلزم عدم تدخل أحد في عمل القاضي، سواء أكان التدخل عن طريق فرد أو جماعة، ودون تأثير عليه يصرفه عن الحق، سواء كان التأثير صادراً من ذات القاضي، كالعداوة لمن حكم عليه،أو انشغال الذهن حال الحكم، أو كان التأثير من غيره ترغيباً أو ترهيباً.
ويُلحق باستقلال القاضي استقلال السلطة القضائية عن غيرها من السلطات.
و مسار مكافحة الفساد يقتضي استقلالية النيابة العمومية ) الجزء الأول( ولكن الاستقلالية لوحدها لا تكفي و إنما يجب أن يواكبها إقرار تبعية الضابطة العدلية و حماية خاصة لها )الجزء الثاني(
الجزء الأول: مظاهر استقلالية النيابة العمومية
ان مسار مكافحة الفساد يقتضي استقلالية النيابة العمومية عضويا ) الفقرة الأولى( و وظيفيا ) الفقرة الثانية( و ذاتيا ) الفقرة الثالثة(
الفقرة الأولى: الاستقلالية العضوية
الاستقلالية العضوية، هي الاستقلالية بالمعنى المتداول أي النظام القانوني (statut légal) الذي يحمي النيابة العمومية من أية تبعيّة لسلطة أخرى ومن أي تدخّل أو ضغط خارجيّين. و هو ما يدعو إلى إلغاء تبعية النيابة العمومية للسلطة التنفيذية ممثلة في وزير العدل، و بالتالي إلغاء الفصل 23 م ا ج و الفصل 15 من القانون عدد 29 المؤرخ في 14 جويلية 1967 المؤرخ في 14 جويلية 1967، و جعل النيابة العمومية خاضعة لإشراف وكيل الدولة العام لدى محكمة التعقيب، و هو مكرس في العديد من الدول مثل ايطاليا و بريطانيا و ألمانيا و الولايات المتحدة الأمريكية.
الفقرة الثانية: الاستقلالية الوظيفية
الإستقلال الوظيفي للنيابة العمومية، يتمثل في تطبيق القانون على المنازعات المعروضة عليهم بعيدا عن أية قيود أو ضغوطات أو تهديدات مباشرة أو غير مباشرة، سواء من السلطة التنفيذية او الافراد او الصحافة و شبكات التواصل الاجتماعي…
الفقرة الثالثة: الاستقلالية الذاتية
و تتعلق بشخصية ممثل النيابة العمومية التي يجب أن تتميز بالقوة و الشجاعة و العزيمة وإرادة مكافحة الفساد .
الجزء الثاني: الاستقلالية لوحدها غير كافية
ان استقلالية النيابة العمومية لا تكفي لوحدها لمكافحة الفساد وإنما يجب أن يواكبها إقرار تبعية الضابطة العدلية لها ) الفقرة الأولى( و توفير حماية خاصة ) الفقرة الثانية(
الفقرة الأولى: إقرار تبعية الضابطة العدلية للنيابة العمومية
و هو ما يقتضي إحداث جهاز الشرطة القضائية يتبع مباشرة للنيابة العمومية من حيث الانتماء الهيكلي و الإشراف و التقييم و إسناد الخطط و الترقيات.، و هو ما يوجد في العديد من الدول مثل فرنسا.
الفقرة الثانية: توفير حماية خاصة لأعضاء النيابة العمومية
لان مكافحة الفساد هو مكافحة للمافيات و اللوبيات التي تتمعش من الفساد، لا بد من توفير حماية خاصة لأعضاء النيابة العمومية و لعائلاتهم و تتمثل في حماية أمنية و قانونية.