مقالاتمنوعات

الاستئناف في المادة الجزائية


بقلم: الدكتور جابر غنيمي
المساعد الأول لوكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد
مدرس جامعي

حتى يكون القضاء ناجزا وعادلا يجب أن تتوفر للمتقاضي جملة من الضمانات أهمها حق التقاضي على درجتين الذي يخول لكل من إنصرفت قناعته عن قبول الحكم الصادر عن محكمة البداية أن يرفع النزاع إلى أنظار محكمة الدرجة الثانية بهيئة أخرى.
ومن بين مظاهر تكريس مبدإ التقاضي على درجتين الاستئناف الذي يعد وسيلة طعن عادية و التي يمكن أن نقول عنها بأنها وسيلة نموذجية باعتباره يمكن من إعادة النظر في الدعوى واقعاً و قانوناً.
و الطعن بالاستئناف تكريس لمبدإ التقاضي على درجتين و الذي هو وسيلة أساسية لضمان عدالة الأحكام و إن كانت له كل هذه الجدوى إلا أنه لم يكن مألوفا في الأنظمة القانونية التقليدية، فلا نجد له أثرَا في الفقه الإسلامي ذلك أن الطعن في الأحكام مشروط بمخالفتها لدليل شرعي قطعي فلا ينقضي بالإجتهاد و الشبهة كافية لدفع الحدود.
و في فرنسا شهد مفهوم الاستئناف تطوراً عميقاً حيث نشأ هذا المفهوم في العصور الوسطى في ظل القانون الفرنسي القديم كآلية سياسية لتكريس سيادة المحاكم الملكية على المحاكم الإقطاعية و الكنيسة باعتبار أن الملك هو المصدر الوحيد للسيادة و قد انتصبت المجالس الملكية مؤلفة من قضاة مكلفين بالإشارة على الملك في الغرض و هو سر بقاء تسمية “المستشارين”.
و بالنسبة للبلاد التونسية فإنها لم تعرف درجات التقاضي بحكم أخذها بالنظام القضائي في الإسلام كما لم تكن تعرف نظام القضاء المجلسي حيث كان القضاء فردياً ينظر في النزاع على درجة واحدة لكن مع دستور 26 أفريل 1861 تم لأول مرة وضع تسلسل قضائي مبني على مبدأ التقاضي على درجتين مع محكمة عليا في قمة الهرم القضائي و قد نص الفصل 24 على إحداث المحاكم المدنية و التجارية و الجزائية. غير أن تعليق العمل بدستور عهد الأمان سنة 1864 تبعه إلغاء العمل بهذا النظام.
و بعد دخول السلطات الحمائية أصبح التنظيم القضائي من جديد قائماً على مبدأ التقاضي على درجتين بحيث كانت “محكمة الوزارة” صاحبة النظر في الطعون الموجهة ضد إقرارات المحاكم الشرعية و الفرنسية و محاكم الأحبار. و إثر الإستقلال تمّ تكريس مبدإ التقاضي على درجتين في المادة الجزائية.
و يشكل الاستئناف ضماناً هاماً للعدالة و ذلك من وجهتين، وجهة علاجية: من حيث أن قضاة الدرجة الثانية هم أكثر عدداً و أوسع خبرة سيمكنهم تعديل حكم قضاة الدرجة الأولى و تصحيح أخطائه و نقائصه. و من جهة وقائية: على اعتبار أن قضاة الدرجة الأولى سيقبلون و الحالة تلك على مضاعفة الجهود لتفادي الأخطاء القضائية التي من شأنها التأثير على عددهم الصناعي و على درجتهم في السلم الوظيفي.
و يعرّف الإستئناف بأنه الطريق العادي للطعن في حكم محكمة أول درجة أمام محكمة أعلى درجة، و يقصد به تحديد النزاع أمامها و التوصل بذلك إلى إلغاء الحكم المطعون فيه أو تعديله.
فالإستئناف كطريقة من طرق الطعن في الأحكام يهدف إلى إتاحة الفرصة لمن صدر ضده حكم من محكمة درجة أولى يمسّ بحقوقه و حرياته أو يضر بها، أن يعيد طرح موضوعه بكافة عناصره الواقعية و القانونية مرّة ثانية أمام محكمة الدرجة الثانية بموجب الإستئناف. وإعادة طرح موضوع الدعوى يهدف إلى مراجعته و فحصه مرّة ثانية بواسطة قضاة أكثر خبرة و تجربة من قضاة أول درجة بهدف إصلاحه إذا اعتبرنا أن هذا القضاء معيبا في إجراءاته أو مخطئا فيما قام به من تقدير للوقائع أو إعمال للقانون .
و قد حددت مجلة الإجراءات الجزائية شروط و إجراءات الاستئناف )المبحث الأول( و آثاره )المبحث الثاني (

المبحث الأول: شروط و إجراءات الاستئناف
لقد أخضع المشرع الطعن بالاستئناف إلى جملة من الشروط (الفقرة الأولى) و الإجراءات ) الفقرة الثانية(
الفقرة الأولى: شروط الاستئناف
و هي شروط تتعلق بالحكم المطعون فيه )أ( و الأطراف )ب( و الآجال )ج(
ا- الشروط المتعلقة بالحكم المطعون فيه:
الطعن بالاستئناف موجه ضد الأحكام التي تصدر إبتدائياً سواء كانت صادرة عن محاكم إبتدائية أو محاكم الناحية، حيث ينص الفصل 209م ا ج على انه” لا تقبل الاستئناف إلا الأحكام الصادرة ابتدائيا عن قاضي الناحية أو المحكمة الابتدائية في مادة مرجع النظر أو الأحكام الصادرة في الأصل في المادة الجناحية وكذلك الأحكام الصادرة عن المحكمة الابتدائية في الجنايات.
ولا يمكن استئناف ما عدا ذلك من الأحكام إلا مع الأحكام الصادرة في الأصل”.
ب- الشروط المتعلقة بالأطراف:
حق الاستئناف مخول لمن يأتي:

  • المتهم المحكوم عليه من أجل جناية أو جنحة والمسؤول مدنيا.
  • القائم بالحق الشخصي في خصوص حقوقه المدنية فقط.
  • وكيل الجمهورية.
  • الإدارات العامة والفروع المالية بوصفها ممثلة للنيابة العمومية في الصور التي خول لها القانون فيها حق ممارسة الدعوى العمومية مباشرة.
  • الوكلاء العامون لدى محاكم الاستئناف.
    ولا يمكن أن يقوم بالاستئناف إلا من تهمه القضية أو نائبه.
    وكـل مستأنـف باستثناء ممثـل النيابـة العمومية أن يرجع في استئنافه. وهذا الرجوع يجب أن يكون صريحا، ولا يمكن العدول عنه.
    ج- شروط متعلقة بالآجال:
    بكون الاستئناف غير مقبول فيما عدا صورة القوة القاهرة إن لم يقع في أجل أقصاه عشرة أيام من تاريخ صدور الحكم الحضوري أو من تاريخ الإعلام بالحكم الذي اعتبر حضوريا أو من تاريخ انقضاء أجل الاعتراض على الأحكام الغيابية أو من تاريخ الإعلام بالحكم الصادر برفض الاعتراض.
    ويرفع ذلك الأجل إلى ستين يوما بداية من تاريخ صدور الحكم بالنسبة لاستئناف الوكيل العام للجمهورية والمدعين العموميين لدى محاكم الاستئناف، وعليهم أن يعلموا بهذا الاستئناف خلال الأجل المذكور المتهمين والمسؤولين مدنيا وإلا سقط حقهم في الاستئناف.
    الفقرة الثانية: إجراءات الاستئناف
    يقدم مطلب الاستئناف إلى كتابة المحكمة التي أصدرت الحكم بتصريح شفاهي يسجل كتابة في الحين أو بإعلام كتابي.
    وعلى المستأنف أن يمضي وإذا امتنع من الإمضاء أو كان غير قادر عليه ينص على ذلك.
    وإذا كان المستأنف موقوفا فكبير حراس السجن يتلقى ذلك المطلب ويحيله بدون تأخير على كتابة المحكمة.
    ويتولى وكيل الجمهورية أو حاكم الناحية بحسب الأحوال إحالة مطلب الاستئناف وأوراق القضية فورا على ممثل النيابة العمومية لدى محكمة الاستئناف.
    وإذا كان المستأنف موقوفا ينقل حالا بإذن من وكيل الجمهورية أو حاكم الناحية إلى محل الإيقاف بمركز محكمة الاستئناف.
    ويستدعى الخصوم طبق الفصل 134 وما بعده ولا يستدعى القائم بالحق الشخصي إلا إذا كان القصد من الاستئناف رفع الدعوى المدنية إلى محكمة الاستئناف.
    وإذا كان الاستئناف صادرا عن ممثل النيابة العمومية، فلمحكمة الاستئناف أن تقرر الحكم أو تنقضه كلا أو بعضا لفائدة المتهم أو ضده.
    وإذا كان الاستئناف صادرا عن المتهم أو المسؤول مدنيا فقط فليس للمحكمة أن تعكر حالة المستأنف.
    وإذا كان الاستئناف صادرا عن القائم بالحق الشخصي فقط فليس لها أن تعدل الحكم بما يضر بحقوقه.
    وذا كان الحكم المستأنف صادرا في الأصل ورأت محكمة الاستئناف أن هناك بطلانا في الإجراءات فإنها تصحح ذلك البطلان وتحكم في الأصل.
    وإذا كان الحكم قابلا للإبطال فإن محكمة الاستئناف تتعهد بالأصل وتبت فيه.
    واذا كان الحكم المستأنف صادرا بعدم الاختصاص ورأت محكمة الاستئناف نقضه فإنها تنقضه وتتعهد بالأصل وتبت فيه.
    و إذا كان الحكم المستأنف صادرا بالاختصاص ورأت محكمة الاستئناف نقضه فإنها تحكم بالنقض وتحيل الأطراف وممثل النيابة العمومية للقيام لدى من له النظر.
    المبحث الثاني: آثار الاستئناف
    يترتب عن الاستئناف أثرين هامين: اثر انتقالي )الفقرة الأولى ( و اثر تعليقي )الفقرة الثانية(
    الفقرة الأولى: المفعول الانتقالي للاستئناف
    يترتب على الاستئناف نقل النزاع الذي طرح أمام محكمة الدرجة الأولى إلى محكمة أعلى درجة لإعادة النظر فيه وهو ما أوضحه الفقيه أحمد أبو الوفاء في تعريفه لمفهوم المفعول الإنتقالي للاستئناف بقوله :” يترتب على رفع الاستئناف طرح النزاع المرفوع عنه الاستئناف على محكمة الدرجة الثانية لتفصل فيه من جديد ولها كل ما لمحكمة الدرجة الأولى من سلطة في هذا الصدد فهي تبحث وقائع الدعوى وتقوم بإتخاذ ما تراه من إجراءات الإثبات وتعيد تقدير الوقائع من واقع ما قدم إليها من مستندات ومن واقع دفاع الخصوم ثم هي أخيرا تطبق القاعدة القانونية التي تراها صحيحة على وقائع الدعوى” .
    ويخضع الأثر الإنتقالي إلى قيود:
    أولها : ضرورة التقيد بالطلبات المنظور فيها في الدرجة الأولى
    وثانيها : ضرور التقيد بما تسلط عليه الاستئناف.
    وثالثها : ضرور التقيد بأطراف خصومة الاستئناف . فنتيجة للقيد الأول لا يمكن أن يتقدم لمحكمة الدرجة الثانية بطلبات جديدة لم يسبق طرحها أمام محكمة الدرجة الأولى كما أنه لا تطرح على محكمة الدرجة الثانية من الطلبات إلا ما فصلت فيه الأولى وأساس هذه القاعدة هو أن الهدف من مبدإ التقاضي على درجتين يكمن في التجريح في الحكم الإبتدائي ولا يتصور تبعا لذلك إرتكاب المحكمة الإبتدائية لخطإ في أمر لم يعرض عليها أو عرض عليها ولم تفصل فيه لسبب ما.
    ويجوز للجهة الاستئنافية تغيير الوصف القانوني للواقعة و إعادة تكييفها ، فلا تتقيد بالوصــف الذي كيفت به محكمة الدرجة الأولى ، فهي تراقب مدى صحة تكييف الوقائع فإذا أخطأت المحكمة الابتدائية في وصف الواقعة للف ، جهة الاستئنافية تصحيح هذا الخطأ بتغير الوصف القانوني، و لا يعد هذا التغيير إخلالا بمبدأ التقاضي على درجتين.
    ويجوز لجهة الاستئناف تعديل التهمة و ذلك عن طريق إضافة الظروف المشــــددة ما دام و أن هذه الوقائع كانت معروضة على محكمة الدرجة الأولى، و إعمالا لذلك فلجهة الاستئناف أن تضيف إلى الضرب العمد سبق الإصرار و الترصد، أو تقتضي ظرف التعدد إلى السرقة، كما يجوز لها أن تقضي بعدم الاختصاص إذا أصبحت الجريمة بعد تعديلها جناية ، و ذلك إذا كان الطعن بالاستئناف مرفوعا من النيابة العمومية.
    ويجوز للجهة الاستئنافية أن تناقش الأدلة الجديدة التي طرحت عليها و لم تعرض على المحكمة الابتدائية، وهذه نتيجة طبيعة لطرح الدعوى عليها من جديد ، ومن آثار ذلك أن لها سلطات التحري في الحقيقة بكل الوسائل، فلها أن تعتمد في حكمها على الأدلة التي استبعدتها المحكمة الابتدائية ، فإذا اعتبرت المحكمة الابتدائية التفتيش باطلا ، استبعدت الدليل المستمد منه.
    كما يجــوز لجهة الاستئناف تصحيح الأخطاء، و تدارك السهو الذي وقعت يه محكمة الدرجة الأولى.
    الفقرة الثانية: المفعول التعليقي
    يوقف تنفيذ الحكم خلال أجل الاستئناف وأثناء نشر القضية الاستئنافية غير أن بطاقة الإيداع في السجن تظل عاملة إلى انقضاء أمد العقاب المحكوم به ابتدائيا وفي صورة ما إذا كان الاستئناف بطلب من ممثل النيابة العمومية إلى أن يصدر الحكم من محكمة الاستئناف.
    والاستئناف الواقع بعد الأجل لا يوقف تنفيذ الحكم.
    إن المبدأ العام أن الطعن بطريق الاستئناف يوقف تنفيذ الحكم، وميعاد الاستئناف ـ في حد ذاته يوقف تنفيـذ الحكم أثناء سريانه، و إذا حصل الطعن فـي الحكم بطريق الاستئناف يضل وقف التنفيذ ساريا حتى يفصل فيه.
    والعلة و الحكمة من إقرار مبدأ وقف تنفيذ الحكم المستأنف كمبدأ عام ت، كمن في أنه قد يترتب على تنفيذه أضررا يصعب تداركها أو إصلاحها أ إذا لغي أو عدل الحكم محل الاستئناف .
    والعدالة تقتضي إرجاء مباشرة تنفيذ الحكم المستأنف إلى ما بعد الفصل في الطعن بالاستئناف حتى لا يضار المحكوم عليه جراء مباشرة التنفيذ .
    وإذا كانت القاعـــدة العامة في الطعن بطريق الاستئناف في الأحكام القضائية هي وقف التنفيذ كأثر من أثار هذا الطعن، فالأمر مختلف بالنسبة للطعن بطريق الاستئناف في القرارات الصادرة عن قاضي التحقيق، ومؤدي ذلك أن هذه الأخير ة لا تكون فاصلة في الدعوى و بالتالي لا يترتب كأثر على استئنافها – كمبدأ عام – وقف تنفـــــيذ الأمر محل الطعن في الاستئناف، و هو ما نصت عليه أحكام الفصل 87 م ا ج ” القرار الصادر عن قاضي التحقيق في الإفراج المؤقت أو رفضه أو في تعديل أو رفع قرار التدبير يقبل الاستئناف لدى دائرة الاتهام من طرف وكيل الجمهورية والمظنون فيه أو محاميه قبل مضي أربعة أيام من تاريخ الاطلاع بالنسبة لوكيل الجمهورية ومن تاريخ الإعلام بالنسبة لمن عداه كما يقبل الاستئناف من الوكيل العام في ظرف العشرة أيام الموالية لصدور القرار. واستئناف وكيل الجمهورية يحول دون تنفيذ قرار الإفراج أو التدبير.  أما استئناف الوكيل العام فلا يحول دون تنفيذ ذلك القرار”.
     

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى