مقالات
أبطال صنعوا التاريخ .. عثمان دقنــة

بقلم: ناصر السلاموني
منذ عقودٍ طويلة تعمّد الغرب ومؤرخوه طمس أسماء عربية إسلامية كثيرة صنعت صفحات خالدة في تاريخ المقاومة، وأخفوا قصص رجالٍ هزّوا عروش الإمبراطوريات.حتى لا يتخذهم الشباب قدوة لهم في معاركهم ضد المحتلين ٠ومن بين هؤلاء الذين حاولوا دفن ذكراهم في كتبهم رجلٌ لا يمكن للصحراء نفسها أن تنساه إنه ( عثمان دقنة)، أسد السودان الذي كسَر هيبة الإمبراطورية البريطانية .
في شرق السودان وُلد (عثمان دقنة) ؛فتى نحيل الجسد، شديد العزم ؛نشأ بين قبائل( البجا)، فتشرّب من طفولته صلابة الصحراء وقوانينها، لم تكن حياته ترفاً، بل تدريباً قاسياً لصناعة مقاتل لا يُرى إلا حين يقرر هو أن يُرى.
وحين اندلعت الثورة المهدية، وجد فيها( عثمان) مشروعاً للتحرّر من قبضة بريطانيا. وفي الجبهة الشرقية على ساحل البحر الأحمر تولّى القيادة، فبدأ يعيد صياغة قواعد الحرب في أرضٍ اعتقدت بريطانيا أنها لن تقف في وجهها. كانت الإمبراطورية تنظر إلى خصومها باعتبارهم “فلاحين غير منظمين”، لكنها فوجئت بقائد يعرف كيف يحوّل الرمال إلى فخاخ والممرات إلى كمائن، ويستخدم الصحراء كسلاح لا يملكه غيره.
كانت القوات البريطانية تعتمد على تكتيك المربّع الحديدي الشهير؛ أربعة صفوف محكمة تتوسطها المدافع، تكتيك لم يكسره الروس ولا الفرنسيون ولا الهنود. لكن عثمان دقنة فعلها. كان يرسل مجموعات صغيرة تُثير الغبار حول الجيش وتجبر المربّع على الحركة، ثم ينقضّ فرسان البجا من المؤخرة، من حيث لا يتوقع أحد، فينهار التشكيل الحديدي كما ينهار باب قديم تحت مطرقة ثقيلة. تحولت هذه الخطط إلى مادة تُدرّس لاحقاً في كلية الأركان البريطانية، ودوّن القادة الإنجليز اسمه باعتباره “أخطر رجل واجه إمبراطورية الشمس التي لا تغيب”.
لم يجد الجنود البريطانيون اسماً يصف رعبهم من مقاتلي البجا سوى لقب “Fuzzy Wuzzy”، ولم يكن لقباً ساخراً، بل اعترافاً مضمراً بأن هذا الرجل ورجاله فعلوا ما عجزت عنه جيوش أوروبا: كسر المربع البريطاني. حتى الشاعر الإنجليزي روديارد كبلنغ كتب قصيدة كاملة يشيد فيها ببأسهم وثباتهم.
وفي معارك( التيب) و(طماي) و(توفريك )و(خور شمبات) كانت الصورة تتكرر: جيش مدجج بالمدافع، وصوت نحيل يلوّح بين الغبار، ثم لحظة خاطفة تتلاشى فيها التشكيلات البريطانية كما تتلاشى خطوط الرمل في هبة ريح. لم يكن عثمان دقنة يقود معارك صِدامية، بل كان يدير شطرنجاً صحراوياً يعرف كيف ينهيه بحركة واحدة لا تخطر ببال خصمه.
قرابة عشرين عاماً ظلّت بريطانيا تطارده دون نجاح، حتى صار اسمه كابوساً يتردد في مكاتب قادتها. وحين عجزت المدافع، نجحت الخيانة؛ فقد وُشي به سنة 1900م. تظهر صور اعتقاله الشهيرة: رجل ثابت النظرات، حوله من باعوا الأرض لقاء مالٍ زائل. وقال للخائن كلمته الباقية: “اتقبضت… لكن علّك ما بعتني رخيص.”
وتروي المذكرات أن الملك (جورج الخامس)، خلال رحلة إلى الهند، مرّ بسواكن ليشاهد الرجل الذي حيّر جنرالاته. وحين رفض عثمان مقابلته، اضطر الملك إلى الذهاب إليه داخل السجن. وجده جالساً على الأرض يسبّح، لا يلتفت، ولا ينهض، ولا يعبأ بوجود ملك بريطانيا. وقف الملك أمامه، أدّى له التحية العسكرية، ثم غادر مأخوذاً بهيبة رجل لم تستطع الزنازين أن تكسر روحه.
قضى عثمان دقنة ستة وعشرين عاماً خلف القضبان، لكنه خرج من التاريخ أكبر مما دخل إليه. رحل عام 1926م ودُفن في وادي حلفا، وبقي اسمه حياً، وسيرته ناراً في صدر كل من يعرف معنى الحرية. لقد مات أسد الشرق، لكن صدى خطوات فرسانه ما زال يتردد في ذاكرة الأمة، وما زال البريطانيون حتى اليوم يذكرون الرجل الذي جعل الإمبراطورية ترتجف.









