
كتب جليل هاشم البكاء
منذ اللحظة التي أعلنت فيها الثورة الإسلامية في إيران انتصارها، اتخذت مساراً واضحاً لا لبس فيه: مسار الاستقلال التام ورفض الخضوع لسياسات الإملاء الخارجي. خرجت إيران من دائرة التطبيع المذل، لتتحول إلى قطب يقود محوراً يؤمن بأن المقاومة ليست خياراً عسكرياً فقط، بل مشروعاً حضارياً وسيادياً يهدف إلى استعادة الكرامة للأمة، ورفض الهيمنة الإمبريالية التي لطالما سعت الولايات المتحدة إلى فرضها على المنطقة.
هذا النهج الثابت جعل كل دولة تُصرّ على سيادتها وتتشبث بقرارها الوطني تنظر إلى إيران بوصفها شريكاً طبيعياً. ليس لأن إيران تفرض نفسها، بل لأنها تقدّم نموذجاً على أن الاستقلال ممكن، وأن مقاومة الغطرسة الأميركية ليست ضرباً من الخيال. كل دولة تريد أن تنهض من تحت ركام الهيمنة وتخرج من دائرة الخضوع تجد في طهران مسانداً لا يطلب مقابلاً سوى التزام مبدأ السيادة واحترام إرادة الشعوب.
وقد برهنت التجارب أنّ الدول التي تتقاطع وتلتقي مصالحها مع مشروع التحرر والمقاومة تتجه تلقائياً نحو بناء علاقة متوازنة وقوية مع إيران، علاقة لا تحكمها التبعية ولا المصالح الضيقة، بل رؤية مشتركة تقوم على حماية القرار الوطني وصون الكرامة.
لبنان كان واحداً من هذه الدول بحكم تكوينه وشعبه وتاريخه. فمنذ أن اختار المقاومة طريقاً لتحرير الأرض والدفاع عن السيادة، وُجدت مساحة طبيعية للتقارب مع إيران التي احتضنت خيار المقاومة وقدّمت له الدعم السياسي والمادي والمعنوي. هذا التقارب لم يكن طارئاً ولا سياسياً عابراً، بل امتداداً لواقع جغرافي وتاريخي وثقافي يرى أن قوة لبنان في تمسكه بإرادته، وأن سلاحه الأهم هو وحدته ورفضه أن يكون ورقة في يد أي قوة استعمارية.
غير أنّ مرحلة مختلّة في التاريخ السياسي اللبناني أدخلت البلاد في حالة ارتباك. حكومة انحازت لمعادلات خارجية حاولت تبرير الاحتلال وتجاوز جرائمه اليومية، وذهبت إلى حد قبول الفيتو الأميركي والإسرائيلي على أي علاقة طبيعية مع إيران. حكومة رأت في المقاومة عبئاً لا درعاً، وفي الدعم الإيراني خطراً لا قوة، ففتحت الباب أمام خطاب يساوي بين الجلّاد والضحية، ويتغافل عن حرب الاستنزاف التي يمارسها الاحتلال بلا توقف.
ورغم هذا الاعوجاج السياسي، جاء سلوك وزير الخارجية اللبناني الأخير ليؤكد حقيقة ثابتة: لا يمكن للبنان، بتركيبته وهويته وعيشه اليومي تحت تهديد الاحتلال، أن يتنكر لمعادلة السيادة التي أثبتت التجربة صدقيتها. لبنان الذي يريد أن يحفظ كرامته لا بد أن يكون قريباً من كل قوة لا تتدخل في قراره الداخلي وتدعمه في حقه بالدفاع عن نفسه، وهذا ما جعل العلاقة مع إيران تستعيد معناها وواقعيتها.
إن مسار السنوات الماضية، بكل تحولاتِه وانتكاساتِه وإشراقاتِه، يثبت أن مشروع الاستقلال ليس شعاراً وأن الكرامة ليست ترفاً، بل هما قاعدتان تستندان إلى إرادة حقيقية وموقف ثابت. وكلما حاولت الحكومات الضعيفة أن تُدخل لبنان في دائرة الإملاء الخارجي، جاءت الحقائق على الأرض لتؤكد أن الرؤية التي تبني على محور المقاومة وعلى العلاقة الطبيعية مع إيران هي الرؤية الأكثر انسجاماً مع تاريخ هذا البلد وهويته.
الاستقلال والكرامة ليسا تفصيلاً، بل هما من الثوابت. وكل محاولة لمصادرتهما لا تؤدي إلا إلى سقوط أصحابها، بينما يظل الشعب ومقاومته وحلفاؤه في موقع الدفاع عن حق لا يمكن التنازل عنه، حق أن يكون للبنان إرادة، وللمنطقة كرامة، وللشعوب مستقبل لا تصنعه الغطرسة الأجنبية بل تصنعه إرادة الحرية.
جليل هاشم البكاء









