فن و ثقافة

العرض العالمي الأول للفيلم الإيطالي Quasi Grazia للمخرج بيتر مارسياس في الرباط

صفاء أحمد آغا

كان حفل افتتاح مهرجان الرباط الدولي لسنما المؤلف أكثر من مجرد افتتاح؛ لقد كان تأكيداً على مسارٍ سينمائي يمتدّ لثلاثين عاماً من التعبير الفني المستقلّ والتجريب السينمائي، وعلامة بارزة في خريطة المهرجانات العربية والدولية.

اختار المهرجان كفيلم افتتاحي العرض العالمي الأول للفيلم الإيطالي Quasi Grazia للمخرج الإيطالي بيتر مارسياس (Peter Marcias) ، هذا الاختيار يعكس التوجّه العالمي للمهرجان، الذي لا يكتفي بعروض محلية أو إقليمية، بل يسعى إلى إتاحة نافذة مفتوحة على التجارب السينمائية المستقلة من مختلف القارات .

الفيلم «Quasi Grazia» من إخراج Peter Marcias، مقتبَس من رواية بنفس العنوان للكاتب Marcello Fois.   ويحكي عن حياة الكاتبة الإيطالية Grazia Deledda، وهي المرأة الإيطالية الوحيدة إلى حدّ الآن التي حازت جائزة نوبل في الأدب.

ثلاثة محطات رئيسية

ينقسم الفيلم إلى ثلاثة محطات رئيسية في حياتها: وصول والدتها من مدينة نُورو (Nuoro) بشكل مفاجئ، اللحظات التي تسبق عودتها إلى نيل جائزة نوبل.، لقاء مع طبيب ينظر إليها في عينيها كي يجد كلمات لا تؤذي، كل هذا يسير كخيط سردي يُربط بين الخصوصيّة الحياتية والبعد العام – الأدب، المرأة، الاعتراف.

يناقش الفيلم  محاور موضوعية جد مهمة: اولا العلاقة بين المرأة والكتابة، من خلال حياة غراتسيا ديليدا، يعالج الفيلم كيف أن الكتابة ليست فقط فعلًا فنيًا، بل مسارًا تحرريًا، خاصة لامرأة في بيئة تقليدية ومحافظة. من منظور المخرج نفسه: «قليلات هنّ من الشخصيات النسائية التي يمكن أن يُنظر إليها في سردارة (Sardegna) كرمز للنضال من أجل التحرر والمساواة، والفيلم يعرض الكتابة كـ «صوتٍ» تنطق به امرأة، ليس فقط لتدوين حكايات، بل لتأكيد وجود، وللمطالبة بموطئ قدم فني واجتماعي.

صراع اجتماعي وثقافي

ثانيا: البعد السياسي للخصوصيّة، فعلى الرغم من أن المحطات الثلاثة تبدو شديدة الخصوصية، فإن النص يُحوّلها إلى معالم صراع اجتماعي وثقافي: المرأة التي تُكتب، التي تُشَكّل عبر المجتمع، التي تُمنح جائزة كبرى بعد سنواتٍ من التهميش والتجاهل. «القيمة السياسية لحياتها الخاصة» كما جاء في وصف الفيلم، بالتالي: الحياة الفردية تتحوّل إلى رمز، والكتابة تتحول إلى فعل مقاومة.

ثالثا الذاكرة والهوية: الفيلم يعمل بالمحطات الثلاثة كوقائع زمنية مرتبطة بالذاكرة، ليس بالضرورة بالترتيب الزمني الكامل، وإنما كمفتاح لفهم الشخصية والبيئة: الجزيرة السردانية، التوقع الحائز على جائزة، اللقاء الطبي (الذي قد يُرمز إلى المرض أو الشيخوخة أو مواجهة الذات) ، ينفتح النص على سؤال الهوية: ما علاقة المرأة بالمنزل، بالجزيرة، بالكتابة، وبعالمٍ أكبر؟ وهل إنّ الانتماء إلى مكان (سردينيا) يقف عائقًا أو دافعًا؟

البناء السردي والأسلوبي

فالبناء السردي للفيلم والذي مدّته 80 دقيقة تقريبًا، يستخدم الزمن بشكل مختزل في ثلاث محطات  :  تشكّل «هيكلًا» للفيلم، لا سردًا بسيطًا من الولادة إلى النضج، بل نقطة انطلاق نحو فهم الشخصية من زوايا مختارة، والأسلوب يبدو تأمليًا، بعيدًا عن الإثارة الزائدة، متمحورًا حول الوجوه، اللحظات الهادئة، التوتر الكامن بين الذات والمجتمع، كما أن اختيار المخرِج محطات  بدل «محطات عديدة» يمنح العمل طابعًا رمزيًا: كل محطة مثل مفتاح لفهم أوسع، لا تتحول إلى مجرد «بداية، منتصف، نهاية»، بل إلى تتابع تأملي.

دلالات رمزية

كما أن الفيلم يحمل دلالات رمزية وعناصر تحليلية في محطات مهمة :  الأولى (وصول الأم): تمثل العائلة، الجذور، التوقعات. وصول الأم من نُورو يمكن قراءته كعودة إلى الأصل أو مواجهة للماضِي، أو حتى عبور للحظة تحوّل داخل الشخصية، والثانية (ما قبل الفوز بجائزة نوبل): اللحظة التي يُعترف فيها بالفرد، كتتويج للكفاح. لكنها أيضًا لحظة قلق، انتظار، احتمال الفقد أو التغيير ، والثالثة (الطبيب): ربما تمثّل هشاشة الإنسان، مواجهة الزمن أو المرض، أو ضرورة أن يُنظر للمرأة ليس فقط ككاتبة، بل كإنسان يتألم، ينظر له، يعامل، يرى.

العلاقة بين الكتابة والتحرر: تجلّي المرأة التي تكتب، في مجتمع لم يسع دائمًا إلى أن يسمعها. الكتابة هنا ليست مجرد مهنة، بل فعل استحقاق وإثبات .. التقاط صورة للشخصية في تقاطع بين المكان والزمن: السردينيا مثل خلفية، رمزية للهوية، للأرض، للنشأة. بينما الجائزة والنضال فتحا آفاقًا أوسع.. المرأة في عصرها والمراة اليوم: رغم أن القصة تاريخية، النص يشير إلى قضايا معاصرة: دور المرأة، الكتابة النسائية، الاعتراف، القدرة على التعبير.

السينما المعاصرة

وهنا  يجب أن نتحدث عن أهمية الفيلم ضمن سياق السينما المعاصرة ، فهو يمثل الفيلم جزءًا من السينما التي تعيد قراءة التاريخ من منظور جديد: تاريخ المرأة، تاريخ الأدب، تاريخ الهوية، ضمن سياق المهرجان (مثل Festival International du Film d’Auteur de Rabat) الذي يفتتح به، يعطي رسالة بأن المهرجان لا يسعى فقط إلى عروض مجردة، بل إلى أفلام تحمل «صوتًا» وفكرًا

من جهة فنية: التركيز على شخصية قوية أمام الكاميرا (Laura Morante قامت بدور غراتسيا) يعيد التأكيد على قيمة الأداء والتمثيل في أعمال المؤلف.

حياة الكاتبة

الفيلم يناقش تحديات  ونقاط  مفتوحة ، قد تعرض  الفيلم لأن ينتقد لكونه مركّزًا على «ثلاث محطات» فقط: هل تغطي هذه المسارات حياة الكاتبة بالكامل؟ هل هناك تفاصيل يغيبها التركيز؟ كيف يدار التوازن بين الدقة التاريخية والعضوية الدرامية؟ خاصة عندما يتحول التاريخ إلى رمز؟ هل تصل رسالة الفيلم إلى المتابعين غير المطلعين على شخصية غراتسيا ديليدا أو الأدب الإيطالي؟ هل العمل قادر على أن يكون عالميًّا دون أن يفقد خصوصيته .

«Quasi Grazia» ليس مجرد فيلم سيرة ذاتية، بل هو قراءة فنية لذات امرأة – محاطة بتاريخ، تحديدًا جزئيًا، وطموحها للكتابة والاعتراف ، يتناول الكتابة كحرية، المرأة كمبدعة، والعالم كميدانٍ للجدل بين الجذور والطموح، بين التقليد والتجديد ، ومن خلال هيكل المحطات الثلاث، يقودنا إلى التأمل في مسارات الحياة، وفي نتائجها، وفي تكلفة التميز، هو فيلم عن الكاتبة، لكنه في الوقت ذاته فيلم عن الزمن الذي يصنع الكاتبة، والمرأة التي تصنع الكلمة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى