الانتصار أو الموت أو كلاهما”… وجها الحقيقة لفلسفة الحرب و الإنسان

صفاء أحمد آغا
في فضاءٍ تملؤه الأضواء، وتعلو فيه أنفاس الجمهور المترقبة، تقدّم فرقة شدو المسرحية السعودية عرضها اللافت «الانتصار أو الموت أو كلاهما»، ضمن فعاليات المهرجان الدولي للمسرح وفنون الخشبة في دورته الثامنة بمدينة أغادير المغربية.
عملٌ جاء ليؤكد أن المسرح السعودي يعيش لحظة نضجٍ جديدة، وأنه لم يعد يكتفي بالحدود المحلية، بل بات يسعى إلى مناقشة قضايا الإنسان الكبرى بلغةٍ مسرحيةٍ معاصرةٍ وجريئة
فكرة تلامس الإنسان قبل الحرب
تحمل المسرحية توقيع الكاتب والمخرج السعودي ياسر مدخلي، أحد أبرز الأسماء التي أسهمت في تشكيل ملامح المسرح السعودي الحديث.
ومنذ اللحظة الأولى، يأخذ العمل المشاهد إلى منطقةٍ تتجاوز الحرب كحدثٍ عسكري، لتصبح الحرب هنا مجازًا عن الصراع الداخلي للإنسان بين رغبته في الانتصار وخوفه من الفناء.
الجنود، الجنرال، والنيشان… ليست مجرد شخصياتٍ عابرة على الخشبة، بل رموزٌ للسلطة، للضمير، وللوهم الذي يُبنى على أنقاض الحقيقة.
العنوان نفسه – «الانتصار أو الموت أو كلاهما» – يبدو كجملةٍ معلّقةٍ بين الحياة والمصير. فهل يمكن أن يتحقق الانتصار دون أن نموت داخليًا؟ وهل يمكن أن يكون الموت في بعض الأحيان هو الانتصار الحقيقي؟
بهذا السؤال الإنساني الشائك، يفتح العمل أبواب التأمل والجدل منذ بدايته وحتى إسدال الستار.

سينوغرافيا تعبّر بالصمت والظل
في مشهد بصري مكثّف، تمزج السينوغرافيا بين الضوء والعتمة، بين أصوات الحرب وصرير الصمت الذي يليها.
تستحضر الخشبة عالمًا متقشفًا لكنه غني بالدلالة: خوذٌ صدئة، علمٌ ممزق، ومقاعد خشبية تذكّرنا بأن المسرح لا يحتاج إلى بهرجةٍ ليعبّر، بل إلى صدقٍ في الرؤية وتكثيفٍ في الصورة.
الإضاءة المتقطعة تحاكي وميض الانفجارات والذكريات، والموسيقى توازي دقات القلوب المتعبة التي ما عادت تميّز بين دويّ القذائف وصدى الأحلام المنكسرة.
أداء جماعي بنَفَسٍ إنساني
تميّز العرض بأداءٍ جماعي متناغم، جمع ممثلين سعوديين من مدارس مختلفة: عبد الجليل حرابة، ماجد السيهاتي، علي الجلواح، خالد الهويدي، وعبد العزيز الزياني.
قدّم الفريق أداءً يوازن بين التعبير الجسدي والحضور النفسي، في تداخلٍ مدروسٍ بين الواقعية والرمزية.
الجنرال بدا صلبًا كجدار، لكنه في أعماقه هشٌّ كطفلٍ يخشى الحقيقة. والجنود، على اختلاف مواقفهم، جسّدوا الوجع الإنساني حين يصبح الجسد ساحة معركة، والروح ضحية الانتصارات المزيّفة.

لغة المسرح… وبلاغة السؤال
العمل لا يعتمد على الحوار المباشر فقط، بل يستخدم الصمت والمفارقة كلغةٍ مسرحيةٍ قائمة بذاتها.
يتحوّل الحوار أحيانًا إلى مونولوجٍ داخليٍّ يواجه فيه البطل ذاته، أو يتحوّل إلى جدلٍ فلسفي بين الشخصيات حول معنى الوطن، والكرامة، والموت.
تُستخدم اللغة العربية الفصحى بانسيابيةٍ شاعرية، ممزوجة بإيقاعٍ مسرحيٍ متوترٍ يناسب موضوع الحرب، دون الوقوع في فخ الخطابة أو الوعظ
المسرح السعودي… من المحلية إلى العالمية
جاءت مشاركة «الانتصار أو الموت أو كلاهما» في المهرجان المغربي لتؤكد الحضور المتنامي للمسرح السعودي على الساحة الدولية.
فبعد عقودٍ من التجارب المحلية، يشهد المسرح السعودي اليوم انفتاحًا نوعيًا في الموضوعات والأساليب، مدعومًا بمؤسساتٍ ثقافيةٍ كـمركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء) وجهود هيئات المسرح والفنون الأدائية التي تشجع الإنتاج المحلي على المشاركة الدولية.
وقد أبدى الجمهور المغربي، بحسب الحضور، إعجابه بالعرض الذي وُصف بأنه “مكثّف، عميق، ومفاجئ في طرحه”، لما يحمله من طابعٍ فلسفي وإنساني في آنٍ واحد.

رسالة تتجاوز الجغرافيا
ليست «الانتصار أو الموت أو كلاهما» مسرحيةً عن بلدٍ أو حربٍ محددة، بل عن الإنسان ككائنٍ يواجه مصيره بين نداء الواجب وصرخة الضمير.
إنها تذكيرٌ بأن النصر لا يُقاس بعدد المعارك التي نخوضها، بل بقدرتنا على أن نظل إنسانيين رغم الخراب.
ولعل هذا ما يجعلها عملًا يتجاوز الجغرافيا، لأن أسئلتها لا تخص جنديًا سعوديًا أو عربيًا فقط، بل كل إنسانٍ يقف على حدود الحياة يبحث عن معنى وجوده
في زمنٍ تتنازع فيه الحروب شاشات الأخبار وتفقد فيه الكلمات معناها، يظل المسرح المكان الوحيد القادر على أن يواجه الموت بالحياة، والخسارة بالأمل.
ومن خلال هذا العرض، تثبت فرقة شدو المسرحية أن المسرح السعودي يسير بخطى ثابتة نحو بناء خطابٍ فنيٍّ ناضج، يتكئ على القيم المحلية وينفتح على العالم بلغةٍ فكريةٍ وجماليةٍ متفرّدة.
«الانتصار أو الموت أو كلاهما» ليست مجرد عنوانٍ لمسرحية، بل صرخةٌ مسرحيةٌ تذكّرنا بأننا قد ننتصر حين نجرؤ على طرح السؤال، لا حين نكسب المعركة.











