قمة شرم الشيخ وإعادة صياغة الممرات التجارية

كتب أحمد صبري السيد علي
مازال الجدال حول جدوى مقاومة الكيان الصهيوني والمشروع الأمريكي بالشرق العربي دائراً منذ توقف القتال في لبنان، ليتخذ مرحلة أكثر احتدادً عقب توقف الحرب في غزة وقبول المقاومة الفلسطينية بمبادرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع تحفظات على بعض بنودها .
لا يرى الرافضين للمقاومة والداعين لضرورة التراجع والانخراط في المشروع الأمريكي سوى مظاهر الدمار الذي شهدته غزة والضاحية الجنوبية والجنوب اللبناني، وعمليات اغتيال القادة وعلى رأسهم سماحة السيد حسن نصر الله (قده)، والقائد يحيى السنوار (قده). متناسين أن هذه هي النتائج المتوقعة لأي حرب، ومتجاهلين مظاهر الدمار الذي شهدها الكيان الصهيوني كذلك .
لكن الأسوأ هو تجاهلهم الواضح في تحليلهم لمنطق الصراع الذي يعتمد على حساب الأهداف ومدى القدرة على تحقيقها، والذي أنتج قمة شرم الشيخ للسلام بحجم الحضور وطبيعته في مقابل غياب رئيس حكومة الكيان الصهيوني، وبدورها أدت قمة شرم الشيخ إلى صياغة جديدة للأوضاع الاقتصادية والممرات التجارية لا وجود فيها للكيان الصهيوني ولو بشكل مؤقت .
لنبدأ القصة منذ البداية، ونطرح التساؤل: لماذا قامت الحرب على غزة؟
في يوليو 2022 تأسست مجموعة I2U2 على هامش زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الشرق العربي، واعتبرت امتداداً لمجموعة التعاون الثلاثي السابقة بين الهند والإمارات والكيان الصهيوني والتي بدورها تأسست بعد توقيع اتفاقيات إبراهام 2020، لكن المجموعة الجديدة I2U2 انضمت إليها الولايات المتحدة الأمريكية (I تجمع الكيان الصهيوني والهند وU تجمع الولايات المتحدة والإمارات) لإضافة البعد الجيوسياسي والاقتصادي.
المجموعة بشكل رسمي لا تتضمن تحالفاً عسكرياً، لكن من ضمن أوجه التعاون بين هذه الرباعية هو الممر الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبي المعروف باسم ممر التوابل والذي أعلن عنه في قمة العشرين G20 المنعقدة بالهند في سبتمبر 2023 واعتبر كامتداد عملي لأهداف هذه المجموعة، وهذا الممر يربط الهند بأوروبا عبر خطوط نقل وموانئ وسكك حديدية تنتهي في الجانب الآسيوي بميناء حيفا في الكيان الصهيوني .
ثمة مشروع آخر كان الكيان الصهيوني يخطط له منذ العام 2021 وهو مشروع قناة بن جوريون التي تربط البحرين الأحمر والمتوسط،، وهي قناة مؤلفة من ممرَين بعمق 50 مترًا وعرض 200 مترٍ على الأقل لكل منهما، أي بزيادة 10 أمتار بالعمق عن قناة السويس، لتستطيع السفن التي يصل طولها إلى 300 متر وعرضها إلى 110 أمتار، من عبور القناة. وبحسب ادعاءات الكيان الصهيوني، فإن طبيعة الأرض التي ستنشأ عليها القناة صخرية، ما يعني أنها نادرًا ما تحتاج إلى صيانة وتتحمل ضغوطًا قوية، على عكس قناة السويس ذات الطبيعة الرملية وتحتاج دائمًا إلى متابعة ومراقبة. ويرى الكيان الصهيوني أن الوادي المحاذي لقطاع غزة، والذي يمتد من جبل شجرة البقر بالقرب من مستوطنة “سديه بوكر” إلى منطقة الزهراء شمال قطاع غزة يقسم قطاع غزة جغرافيًا إلى قسمَين: شمالي وجنوبي، هي الأكثر صلاحية لامتداد القناة إلى البحر المتوسط، وكان قادة الكيان يأملون في جرف الوادي وتوسيعه ليصبح قناة ملاحية تستوعب حركة الملاحة البحرية وتسمح بمرور السفن الكبيرة .
لكن التأسيس لهذه المشروعات التي تجعل من الكيان الصهيوني منتهى لحركة النقل التجاري بين الشرق والغرب من الجهة الآسيوية، يجب أن يسبقها تأمين هذه المسارات للممر التجاري وهو ما يعني القضاء على المقاومة العربية الفلسطينية واللبنانية التي تهدد أمن واستقرار هذه المسارات، وبالتالي فإن حتمية نشوب الحرب في كل من غزة ولبنان مؤكدة بغض النظر عن التوقيت، خاصة أن الأمريكيين كانوا متعجلين لإتمامه ضمن مساعيهم لتحجيم مبادرة الحزام والطريق الصينية، والتي اعتبرت مجموعة I2U2 وممر التوابل معادلاً لها .
لكن في أثناء القتال برز تطور آخر، حيث سقط نظام حزب البعث في سوريا، وهو ما فتح المجال بالنسبة للكيان الصهيوني إلى محاولة تأمين طريق بري جديد يمتد من الهند وحتى ميناء حيفا عبر السيطرة على الصحراء السورية من الجولان والسويداء ودرعا (باشان في التوراة) إلى مناطق السيطرة الكردية في الشمال الشرقي (ممر داوود)، وبذلك كان من المفترض أن يتم منح الأكراد والدروز في سوريا حكماً ذاتياً، وإسقاط النظام الإسلامي في إيران للسيطرة على كردستان وأذربيجان وبلوشستان في إيران، وبالتالي الانتقال من الهند إلى وسط آسيا مروراً بأذربيجان الإيرانية ثم مناطق كردستان، وعبر ممر داوود الممتد من شمال شرق سوريا إلى الجولان لينتهي عند ميناء حيفا على البحر المتوسط .
وإذا كانت هذه هي الأطماع التي تخيلها كل من الصهاينة والأمريكيين عبر تعبيرهم “الشرق الأوسط الجديد”، فإن النتائج التي تمت على أرض الواقع لم تكن على مستوى الطموحات. فقد برز أثناء الحرب سلاح المقاومة اليمنية الذي هدد كل السفن المتجهة إلى ميناء إيلات الصهيوني، وفشلت الولايات المتحدة والكيان معاً في إسقاطه أو إضعافه، كما فشل كلاهما في إسقاط النظام الإسلامي في إيران، ولم يتمكنا من الصمود أكثر من 12 يوماً تعالى بعدها صراخ الكيان الصهيوني لإيقاف إطلاق النار، والأسوأ أن الجيش الصهيوني لم يتمكن من إسقاط المقاومة العربية في غزة ولبنان طوال عامين رغم كم الأسلحة التي تم تمويله بها .
لكن الفشل لم يتوقف على هذا الحد، فقد تصاعد الهجوم الجماهيري على الحكومات الغربية وحتى حكومة الولايات المتحدة الأمريكية سواء في عهد جو بايدن أو في عهد دونالد ترامب، والذي صعد إلى الرئاسة تحت شعار أمريكا أولاً وبدعم من حركة MAGA. لكن عدم التزام ترامب بهذا الشعار وتوغله في الحرب الصهيونية على غزة ولبنان وإيران واليمن، أدى إلى نوع من الانفصال بينه وبين حركة MAGA لدرجة أن مارجوري تايلور جرين، إحدى الشخصيات المهمة في الحركة، وصفت الحرب الصهيونية على غزة بأنها إبادة جماعية، مما دفع موقع صحيفة Newsweek للقول بأن حرب غزة أظهرت صدعاً في الحركة ” MAGA’s Gaza Rift”، والتي بدورها انقسمت لثلاث اتجاهات، والأسوأ هو الصدع بين الكبار سناً في الحركة وبين الشباب، الأمر الذي أعطى صورة واضحة بأن السردية الصهيونية المصاغة من قبل المركز الرأسمالي في أمريكا، قد تعرضت للتحطم، وهو ما يهدد مصالح هذه الرأسمالية في مقابل المنافسة مع الصعود الأخير للتعاون الصيني/الروسي.
وهنا من الضروري طرح السؤال الثاني: لماذا توقفت الحرب قبل أن تحقق أي نتائج؟
يمكن تلخيص أسباب اضطرار الأمريكيين لإيقاف الحرب في البنود التالية:
1- الأفق غير الواضح للعمليات العسكرية الصهيونية والتي تنتقل من فشل إلى آخر.
2- اقتراب استحقاق الانتخابات النصفية التي سيخوضها دونالد ترامب في نوفمبر القادم وتشمل جميع مقاعد مجلس النواب البالغ عددها 435 مقعدًا، و33 أو 34 مقعدًا من أصل 100 مقعد في مجلس الشيوخ، بالإضافة إلى قيام 34 ولاية من الولايات الأمريكية الخمسين بانتخاب حكامها لمدة أربع سنوات خلال انتخابات التجديد النصفي، بينما تنتخب ولايتي فيرمونت ونيوهامبشاير حكامًا لمدة عامين في كل من الانتخابات النصفية والرئاسية. أي أنه سوف يجري انتخاب 36 محافظًا خلال انتخابات التجديد النصفي. ومن المؤكد أن ترامب يرغب في تحقيق أي إنجازات تمكنه من تحقيق نتائج إيجابية لحزبه خلال هذه الانتخابات، عبر ترميم صورته وصورة قراراته التي اتخذها في فترة الحرب .
3- الصراع الدائر بين الكيان الصهيوني والأتراك، سواء حول الأوضاع في سوريا أو لبنان، وبدأ ينزلق لمراحل تشكل خطورة على المصالح الأمريكية ذاتها. حيث يصر الأتراك على ضرورة وضع مصالحهم في الاعتبار في البلدين، كما يرفضون فكرة التأسيس لأي كيان كردي في سوريا يهدد أمنهم القومي، وهنا يستند الأتراك على الفشل الصهيوني في مواجهة المقاومة العربية .
4- الموقف المصري الرافض لفكرة إنشاء الممر الهندي بالصيغة الصهيونية، سواء طريق الخليج-حيفا، أو قناة بن جوريون، بالإضافة لرفض فكرة ترحيل الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، بالإضافة إلى حالة التوجه المصري نحو الشرق (إيران والصين)، والذي أزعج الأمريكيين، خاصة مع التصريحات الصهيونية العلنية برغبة الكيان في التوسع على حساب أراض عربية من بينها مصر. ويضاف إلى ذلك ما عبر عنه محمد أبو العنين عضو مجلس الشعب المصري ورئيس الجمعية البرلمانية للاتحاد من أجل المتوسط، في سبتمبر الماضي عندما عبر عن مخاوفه من انفجار الشارعين المصري والعربي نتيجة الممارسات الصهيونية، واصفاً حال الجماهير المصرية بأنه مشتعل، وهذه المخاوف دفعت عدد من الحكومات العربية لمحاولة الضغط لإيقاف الحرب .
لكن، ماذا عن نتائج الحرب والتي أبرزتها قمة شرم الشيخ؟
بحسب الإعلام الرسمي، انعقدت قمة شرم الشيخ للسلام تحت عنوان: التوصل لاتفاق نهائي لوقف الحرب في قطاع غزة، ومناقشة تفاصيل الترتيبات الأمنية والإدارية لفترة ما بعد الحرب، بما في ذلك مسألة إعادة الإعمار وملف تشكيل حكومة انتقالية. لكن طبيعة الدول الحاضرة بالقمة أثار التساؤلات، خاصة أن بعض هذه الدول لا علاقة مباشرة بينها وبين القضية العربية (فلسطين)، مثل: باكستان، الهند، أندونيسيا، اليونان، النرويج والمجر. بينما غابت دول أخرى منخرطة في الصراع مثل لبنان وسوريا، كما غابت دول كبرى كانت لها مشاركاتها في القضية بطريقة أو بأخرى كروسيا والصين، لكن الأهم كان غياب رئيس الكيان الصهيوني عن القمة التي انعقدت لمناقشة أوضاع من المفترض أنها تخص كيانه .
الواقع أن هذه القمة، بهذه الصيغة، لم تنعقد لمناقشة الأوضاع في غزة فقط، وإنما شهدت كذلك محاولة إعادة صياغة وترتيب الأوضاع في المنطقة عبر ممر التوابل الهندي-الأوروبي، وبالتالي التوجه للمواجهة الاقتصادية مع الصين ومحاولة تحجيم مبادرتها الحزام والطريق، سواء في الشرق العربي أو في جنوب آسيا (الهند، باكستان وأفغانستان) أو حتى البحر الكاريبي (فنزويلا) .
ومن الممكن استعراض أهم ملفات هذه القمة والتي تفسر طبيعة الدول المدعوة لها:
مصر – إندونيسيا
من أهم نتائج الحرب هو عودة مصر إلى صدارة المشهد مرة أخرى، فالطرق المؤدية للكيان الصهيوني تم استبدالها بطرق مؤدية لمصر كنهاية شرقية لهذا الممر قبل الوصول لأوروبا، حيث تم رد الاعتبار لقناة السويس مرة أخرى، كما أن الطريق الخليجي الذي يبدأ من الإمارات من المقرر أن يتوجه إلى مصر عبر مشروعات الربط السككي بين مصر والأردن والسعودية، وهو ما يفسر إحجام نتنياهو عن الحضور إلى شرم الشيخ بحجة موعد أحد الأعياد اليهودية، لكن الصحف الصهيونية أبرزت حالة من الاستياء داخل الحكومة الصهيونية لأن القمة همشت دور الكيان الصهيوني ولم يتم استشارة حكومته في جدول أعمال القمة .
لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد أدت الحرب إلى طرح مشروع الممر التجاري الإسلامي التاريخي من مصر إلى إندونيسيا، خاصة أن الأخيرة قامت بعملية تطوير لموانئها كميناء آتشيه كما تسيطر على أحد جوانب مضيق ملقا الاستراتيجي. بالإضافة إلى كون موقفها متشابه مع الموقف المصري المحايد بين صراع الممرات الاقتصادية، ولا مانع لديهما من الاستفادة من الممرين سواء الحزام والطريق أو الهندي-الأوروبي، وثمة رغبة لدى كل من الهند واليابان في منح إندونيسيا دوراً كبيراً في الجانب الشرقي للممر الهندي، حيث ستمر عبرها سلاسل التوريد المنتقلة إلى اليابان والفلبين وتايوان وكوريا الجنوبية.
ومن الناحية المصرية، فقد قامت الدولة بتطوير وضع ميناء العين السخنة ضمن المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، بحيث أصبح أهم مركز لوجيستي في شرق أفريقيا، وهناك مشروعات للربط السككي بينه وبين ميناء بورسودان، حيث سيتم انشاء خط سكك حديد من الميناء إلى أسوان، ثم إلى وادي حلفا والخرطوم، وينتهي عند ميناء بورتسودان، وقد وقعت الحكومة السودانية اتفاقات بالفعل مع الصين لتنفيذ هذا المشروع، الذي سيحول البحر الأحمر إلى محور نقل بحري-بري مزدوج، وسيدعم النفوذ المصري في أفريقيا عبر هذا الخط اللوجيستي إلى السودان وأثيوبيا وجنوب السودان. ومثل هذا التوغل في القارة الأفريقية من أسباب سعي الأمريكيين لمحاولة إعادة الاعتبار لقناة السويس، خاصة أن ثمة مشروع آخر أقره الاتحاد الأفريقي مؤخراً (NEPAD) وهو مشروع الربط القاري بين القاهرة وكيب تاون في جنوب أفريقيا بطول 10.200 كم مربع، ويمر عبر 9 دول أفريقية، وفي حال الربط بين الطريقين فإن مصر ستحظى بدور محوري في الربط القاري، وستكون نقطة ارتكاز لوجيستي للقارة الأفريقية كلها .
وبالتالي فقد أدت الحرب إلى بروز آفاق حالة جديدة من التعاون بين مصر وإندونيسيا والقارة الآسيوية عموماً، وتهميش للمسارات الممتدة إلى الخليج العربي (الإمارات والسعودية)، بالإضافة للتهميش الكامل للكيان الصهيوني (مؤقتاً) حتى يتمكن من إعادة ترتيب أوضاعه في مواجهة المقاومة العربية في فلسطين ولبنان واليمن. ومثل هذا التهميش يفسر ضعف الحضور السعودي والإماراتي في القمة .
تركيا-قطر-العراق
ربما كان الأتراك من أكثر الرابحين في هذه القمة، فالصفقة التي عقدها أردوغان مع ترامب انتهت إلى الاعتراف بالمصالح التركية في سوريا، وبالتالي الإيقاف المؤقت لممر داوود ولفكرة تقسيم سوريا أو منح كيان كردي حكم ذاتي موسع، مما يعني احتفاظ الأتراك بنهاية مسارات الممر البري من الهند إلى أوروبا، وقد بدأ الأتراك بالفعل في الترويج لعدد من المشروعات التي يمكن أن تخدم هذا المسار، مثل مشروع طريق الحج القديم من إسطنبول عبر دمشق إلى الحجاز، ومشروع قناة إسطنبول، وكلا المشروعين يسمحان بمد النفوذ التركي إلى شبه الجزيرة العربية والقوقاز، في مواجهة كل من روسيا والصين وإيران. وبالنسبة لمواجهة النفوذ الإيراني، يسعى الأتراك إلى إتمام طريق الرفاهية الذي يربط ميناء الفاو بالخليج العربي بأوروبا عبر إسطنبول، وهو سيمثل أحد الطرق المعتمدة في ممر التوابل، الأمر الذي سيخدم النفوذ التركي في قطر والعراق وكردستان العراقية، وسيخدم كذلك وضع قطر في مواجهة الإمارات والسعودية .
لقد ساهم الرفض المصري والتركي للأطماع الصهيونية في الاستحواذ على مسارات الممرات التجارية، في عودة العلاقات بينهما مؤخراً إلى درجة إعادة المناورات البحرية المشتركة بين الدولتين والتي توقفت منذ سنوات بسبب الخلاف السياسي حول فترة حكم الإخوان المسلمين في مصر، إلا أن الضربة الجوية التي وجهها الكيان الصهيوني للدوحة، ربما دفع القيادات السياسية في البلدين إلى اتخاذ قرار إعادة مناورات بحر الصداقة بين البلدين بعد توقف 13 عاماً، وهو ما فهمه المراقبون الصهاينة كرسالة عدائية من البلدين تجاه كيانهم .
الهند-باكستان
كان تواجد كل من باكستان والهند معاً في القمة غريباً، خاصة أن هناك صداماً عسكرياً نشب بينهما منذ شهور قليلة، ومن ناحية أخرى هناك تواجد صيني قوي في باكستان ساهم في انتصارها بالمواجهة الأخيرة ضد الهند، وتمثل باكستان مساراً مهماً بالنسبة لمبادرة الحزام والطريق الصيني، وقامت الصين بالاستثمار في ميناء جودار الباكستاني على بحر العرب، كما تسعى لتأسيس الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني (CPEC). وهذا التواجد تسعى الولايات المتحدة والهند لإضعافه عبر دعمهما لبعض المجموعات الانفصالية البلوشية والتي تقوم بعمليات تخريبية للمصالح الصينية في المنطقة. كما تسعى الولايات المتحدة للحصول على حقوق الاستثمار في ميناء باسني الباكستاني على بحر العرب، وهذا المسعى يمثل تهديداً لكل من الصين وإيران معاً، وأيضاً للمؤسسة العسكرية الباكستانية .
المراقبون للأوضاع في باكستان يشيرون إلى وجود صراع بين تيارين، الأول: يتمثل بالمؤسسة العسكرية وجهاز الاستخبارات الباكستاني (ISI)، وهذا التيار يؤيد العلاقات مع الصين، ويرفض التعامل المرن مع الهند، معتبراً إياها تهديداً وجودياً لباكستان، وبالتالي فإن رؤيته تعتمد على أولوية الأمن الباكستاني والحفاظ على وحدة البلاد. التيار الثاني: يتمثل بالمؤسسات المدنية والأحزاب الليبرالية وحتى الإسلامية بقيادة شهباز شريف، وهو تيار مؤيد للعلاقات مع الولايات المتحدة والغرب الأوروبي، ويسعى للتقليل من الاعتماد على الصين والتعامل المرن مع الهند، وهذا التيار مدعوم من الولايات المتحدة .
ومن الواضح أن هذا الصراع الداخلي في باكستان والدعم الأمريكي للتيار المدني، هو السبب في التدخل السريع لترامب في الحرب الباكستانية-الهندية، فتحقيق الجيش الباكستاني لانتصار صريح كان قريباً يدعم موقف المؤسسة العسكرية، وربما كان هذا هو السبب الحقيقي في قيام الإمارات العربية المتحدة بمحاولة إيجاد أرضية مشتركة بين حركة طالبان الأفغانية (الإسلامية الماتريدية) والحكومة الهندية (اليمينية الهندوسية)، الأمر الذي تطور لاحقاً لرفع مستوى التمثيل الدبلوماسي الهندي في كابول، وتلاه اشتعال المواجهات بين طالبان والجيش الباكستاني، في محاولة لإضعاف المؤسسة العسكرية ودعم المؤسسات المدنية المؤيدة للعلاقات مع الغرب .
بالنسبة للهند والولايات المتحدة، فإن كل من أفغانستان وباكستان مهمتان للغاية، حيث يرغب كلاهما في إقامة مسار بري من الهند إلى آسيا الوسطى ومنها إلى تركيا، كما أن هذا الطريق سوف يؤدي لوصول الطاقة والمعادن الحيوية من آسيا الوسطى إلى الهند وبحر العرب، وهو ما يقتضي إيجاد صورة جديدة من العلاقات بين الهند وباكستان .
من ناحية أخرى، فإن العلاقات القوية التي تربط بين باكستان وتركيا يمكن أن تساهم في قدر من المرونة لدى المؤسسة العسكرية في مواجهة المشروعات المرتبطة بهذا الممر الاقتصادي، والوقوف على مسافة واحدة من هذا الصراع بين الولايات المتحدة والصين، لكن الأخيرة لا يبدو أنها يمكن أن تتساهل فيما يتعلق بالنفوذ داخل باكستان، وربما كانت الضربات الباكستانية القاسية على طالبان والتي أدت لهدنة بين الطرفين، رسالة صينية لكل من الهند والولايات المتحدة .
وثمة معضلة أخرى مرتبطة بالعلاقات بين الهند وروسيا، حيث تعتمد على الأولى على استيراد احتياجاتها من الطاقة على الثانية بشكل أساسي، وربما لهذا السبب شهدت القمة دعوة النرويج والتي تقدم كبديل للطاقة عن روسيا، وفي أعقاب المؤتمر صرح دونالد ترامب بأن رئيس الوزراء الهندي قد وعده بإيقاف استيراد الطاقة من روسيا.
لكن هناك جانب آخر من العلاقات بين الهند وكل من روسيا وإيران لا يرغب ترامب في إغلاقه، وهو ممر الشمال والجنوب الذي يربط الهند بسان بيترسبورج في روسيا عبر إيران وأذربيجان، حيث يراهن ترامب على محاولة استقطاب كل من روسيا وإيران لعملية سلام أو تهدئة في الشرق العربي وأوكرانيا عبر صفقة بخصوص هذا الممر الذي يمكن أن يدخل ضمن ممر التوابل في حال قبلا عقد صفقة معه، وهو ما يبرر وصف ترامب لإيران بأنها قد تنخرط في عملية السلام، وإعلانه عن ثقته في قدرة الرئيس الروسي بوتين على التوصل لتسوية مع أوكرانيا .
الكيان الصهيوني
إذا كانت كل من تركيا ومصر هما أكثر الرابحين من انعقاد قمة شرم الشيخ للسلام، فإن الكيان الصهيوني خسر الكثير من أهميته كما أسلفنا، لكن يبقى التساؤل عن الأسباب التي دفعت الأمريكيين للتخلي عنه بهذا الأسلوب، وقد استعرضنا بعضها بالفعل سابقاً، مع وجود سبب أكثر أهمية بالرغم من أنه لا يمثل حالة مباشرة، لكن يبدو أن الأمريكيين قد بدأوا يشعرون بخطورتها مع تمدد مشروعات نتنياهو التوسعية .
إذا عدنا للتاريخ، فقد بدأت المستعمرات الإنجليزية في أمريكا الشمالية كتابعة للبريطانيين، ولاحقاً تمكنت من التطور الاقتصادي حتى بلغ بها الأمر وكرد فعل على بعض قرارات الحكومة البريطانية للمطالبة بالاستقلال والحصول عليه، ثم تحولت لاحقاً إلى مركز اقتصادي ضخم استطاع أن يتزعم العالم الرأسمالي عقب نهاية الحرب العالمية الأولى .
إن التوسعات التي يطمح إليها نتنياهو في سوريا لا تتعلق فقط بالسيطرة على منابع المياه، كما أن رغبته في التأسيس لممر داوود والوصول إلى الفرات حيث التواجد الكردي لا يتعلق بتأمين الحصول على الطاقة فقط أو حتى بالحصول على طريق بري يتواصل مع ممر التجارة الهندي-الأوروبي، وهي كلها من بين الأسباب، لكن ثمة سبب آخر لا يقل أهمية، فهذه المنطقة كذلك غنية بالحديد والمنجنيز والتيتانيوم والفوسفات والذهب والمعادن النادرة، وبالتالي فإن التوسع الصهيوني فيها مهما كانت صيغته سوف يحدث تغييراً بنيوياً في طبيعة الكيان الصهيوني، حيث سيتحول من مجرد قاعدة متقدمة للمصالح الأمريكية إلى كيان ذو قوة مركزية إقليمية مستقلة، عبر الاعتماد على اقتصاد التكنولوجيا المتقدمة (هاي تك) والتي تجتذب الاستثمارات العالمية، وهذا طبعا سيضاف إلى تحوله كنقطة لوجيستية واقتصادية لا يمكن تجاوزها في حال تمت مشروعاته بخصوص ممر التوابل .
أي أن نتنياهو كان يطمع في التأسيس للحصول على الاستقلال من التبعية للأمريكيين والغرب الأوروبي، عبر التحول لمركز استقطاب رأسمالي. ولعل كل من يقرأ كتاب نتنياهو “مكان بين الأمم” الصادر في عام 1993 يمكنه أن يلحظ هذا الطموح لديه ولدى النخب الصهيونية في العقدين الأخيرين. وبالرغم من أن هذا السعي قد تضرر كثيراً في الحرب الأخيرة خاصة مع قصف إيران وحزب الله لوادي السليكون الصهيوني في هيرتسيليا، الأمر الذي ساهم في تراجع الثقة بمناخ الاستثمار ودفع صناديق مالية أمريكية وأوروبية كانت تمول شركات ناشئة صهيونية إلى سحب أو تعليق استثماراتها مؤقتاً، بل أن عدداً من الشركات الناشئة قامت بنقل مقراتها إلى قبرص واليونان والإمارات. وتشير مجلة TechMonitor (يوليو 2025) بأن الشركات المغامرة في الكيان الصهيوني خسرت 18% من تدفقاتها السنوية .
أقول أنه بالرغم من كل هذا لكن يبدو أن كل من أوروبا وأمريكا كانت لهم مخاوفهم فهل تلمست إدارة ترامب هذه التطلعات الصهيونية وخشيت من تحولها إلى واقع في المستقبل؟ بحسب بعض التحليلات الأمريكية فإن هناك توجسات بالفعل لدى الأمريكيين سواء في عهد بايدن أو خلفه ترامب من طموحات نتنياهو، وهو ما تمثل في تصريحات جاريد كوشنر بأن ترامب يشعر بأن الصهاينة قد خرجوا عن السيطرة، وربما كان هذا هو السبب الأساسي الذي دفع ترامب لإزاحة الكيان الصهيوني من مشروع الممر، ولو بشكل مؤقت، كمقدمة لإنهاء بنيامين نتنياهو ذاته سياسياً عبر الطلب من الرئيس الصهيوني إصدار عفو عنه، الأمر الذي بدا كمحاولة لإظهار السيطرة الأمريكية المطلقة على هذا الكيان .
والخلاصة، أن القول بأن المقاومة العربية في فلسطين ولبنان واليمن قد تعرضت لهزيمة بناء على الخسائر التي وقعت بصفوفها وما فقدته من قادة مهما كانت أهميتهم، لا يمكن أن يكون واقعياً، فما تعرض له الكيان الصهيوني ليس فقط أبنية مدمرة أو شخصيات قتلت وإنما تهميش وجودي ربما سيكون له تأثيرات سلبية جدا سواء على أوضاعه الداخلية أو الخارجية.
من المؤكد أن النتائج السابقة لا تعني وردية المستقبل، بل أن بعضها سيئاً للغاية، وأكثرهم سوءاً هو منح الشرعية للمشروعات التركية في سوريا ولبنان، بحيث أن المواجهة القادمة للمقاومة (لبنان والعراق خصوصاً) لن تكون فقط مع الكيان الصهيوني وإنما مع النفوذ التركي بالأساس، إلا أن هذا التهميش الكبير للكيان الصهيوني في حد ذاته يعد مكسباً قامت به المقاومة العربية ولا يمكن إنكاره لمن ينظر إلى التحولات الجارية في العالم ضمن صراع الممرات التجارية وصعود القوة الصينية في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية، التي بدأت تسعى لضم حلفاء جدد يمكنهم مواجهة التطور الصيني المتسارع .
يبقى التساؤل حول: هل سيتوقف الكيان الصهيوني؟
لا يمكن توقع استسلام الكيان الصهيوني لهذا المصير، أو حتى استسلام بنيامين نتنياهو، لكن المؤكد أن هذا الكيان أصبح يحتاج لترتيب أوراقه مرة أخرى، خاصة بالنسبة للمصير السياسي لرئيس حكومته، كما يجب عليه أن يوجد البديل المناسب الذي يمكنه إعادة بناء سردية المظلومية الصهيونية الشهيرة وتصديرها للوعي الأمريكي والأوروبي، والأهم إعادة بناء العلاقات مع الولايات المتحدة في إطار تبعية الكيان الصهيوني وبدون طموحات لذلانقلاب على هذه المهمة وتكرار النموذج الأمريكي في مواجهة أمريكا .
أحمد صبري السيد علي