
بقلم: الدكتور جابر غنيمي
المساعد الأول لوكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد
مدرس جامعي
خصص المشرع التونسي لقاضي التحقيق بابا كاملا في مجلة الإجراءات الجزائية احتوى على أربعة وستين فصلا من الفصل 47 إلى المادة 111. ويقوم بوظائف التحقيق حاكم معين بأمر، وعند الضرورة يعين مؤقتا أحد الحكام بقرار للقيام بالوظائف المذكورة أو لإجراء البحث في قضايا معينة. وفي حال غياب صاحب الوظيف أو عند تعذر الحضور عليه مؤقتا فإنه يعوض في القضايا المتأكدة بأحد قضاة المحكمة يعينه الرئيس.
وحاكم التحقيق مكلف بالتحقيق في القضايا الجزائية والبحث بدون توان عن الحقيقة ومعاينة جميع الأمور التي يمكن أن تستند عليها المحكمة لتأييد حكمها.
و لا بد من الإشارة الى كون السيد قاضي التحقيق يقوم بجميع أعماله بمحضر كاتب وهذا الأخير يقوم بأعمال جبارة إذ يمكن اعتباره بمثابة اليد اليمنى للسيد قاضي التحقيق فهو الذي يقوم بتحرير الاستدعاءات ويسهر على توجيهها لأعوان الضابطة العدلية قصد تبليغها كما يقوم بتحرير الأبحاث ويمضي بكل المحاضر شأنه في ذلك شأن السيد قاضي التحقيق والمحامي وممثل النيابة العمومية الذي يحضر الاستنطاق كما أنه يصاحب السيد قاضي التحقيق في المعاينات والتشاخيص.
لقد خول المشرع التونسي للسيد قاضي التحقيق سلطات قوية تبرز على مستوى البحث من جهة ) المبحث الأول( وعلى مستوى النفوذ أي اتخاذ القرارات من جهة أخرى .
المبحث الأول : سلطات قاضي التحقيق على مستوى البحث:
يبدو أن البحث عن الحقيقة هو الوظيفة الأساسية للسيد قاضي التحقيق، لذلك مكنه المشرع من كل السلطات القانونية والواقعية للوصول للحقيقة، فمكنه من إجراء الأبحاث اللازمة والمعاينات وحتى التفتيش بالمنازل وحجز الأشياء الصالحة لكشف الحقيقة وإجراء الاختبارات اللازمة إلى غير ذلك من الأعمال الاستقرائية التي يقتضيها البحث للوصول إلى الهدف المنشود.
لكن مهما يكن من أمر فانه لا بد من الإشارة بأن التحقيق وجوبي في مادة الجنايات فقط أي في أخطر صنف من الجرائم وهو اختياري في مادة الجنح ما لم ينص القانون على خلاف ذلك ولعل في ذلك حماية أكبر للحريات العامة وحرية الأشخاص.
ان قاضي التحقيق يتعهد بصفة لا رجوع فيها بقرار من النيابة العمومية، ويتولى البحث عن الحقيقة في الموضوع المتعهد به دون أن يتجاوزه إلى تهم أخرى إلا بإثارة من النيابة العمومية ويتقيد بالأشخاص المذكورين بقرار فتح البحث، ولا يمكنه توجيه التهمة على غيرهم ممن يقع اكتشافهم أثناء الأبحاث سواء كانوا فاعلين أصلين أو مشاركين إلا بعد أخذ رأي النيابة العمومية في الموضوع، ولهذه القاعدة استثناءات:
فبصفته أحد أعوان الضابطة العدلية طبق الفصل 10 من مجلة الإجراءات الجزائية فانه يمكن للسيد قاضي التحقيق أن يتعهد بالبحث دون حاجة لقرار النيابة العمومية في الصورتين المنصوص عليهما بالفصل 14 من مجلة الإجراءات الجزائية ونخص بالذكر هنا صورة الجناية المتلبس بها.
كما يمكن للسيد قاضي التحقيق أن يتعهد بالبحث بمقتضى شكاية مقدمة من طرف الشاكي الذي وقع حفظ دعواه من طرف النيابة العمومية على مسؤوليته الخاصة حسب إجراءات معينة ومضبوطة جاء بها الفصل 36 وما بعده من مجلة الإجراءات الجزائية.
واثر تعهده بالبحث في القضية يتولى السيد قاضي التحقيق مباشرة أعماله فيتولى إجراء الأبحاث اللازمة سعيا وراء كشف الحقيقية وهي أهم مرحلة في التحقيق وتتمثل هذه الأعمال خاصة في سماع المتضرر) الفقرة الأولى ( والتحرير على الشهود )الفقرة الثانية( واستنطاق ذي الشبهة) الفقرة الثالثة( وإجراء المكافحات ) الفقرة الرابعة( والمعاينات والتشاخيص اللازمة ) الفقرة الخامسة( و التفتيش و حجز كل ما يفيد البحث ) الفقرة السادسة( و الإذن بإجراء الاختبارات .
الفقرة الأولى: سماع المتضرر:
إن سماع المتضرر يعتبر أول عمل استقرائي يقوم به السيد قاضي التحقيق وهو يهدف إلى تسجيل وتضمين كل تصريحات المتضرر وهي عبارة عن سرد للوقائع التي تتكون منها الجريمة باعتبارها منطلق البحث عن الحقيقة إذ يستلزم ذلك أحيانا من السيد قاضي التحقيق التوجه حتى للمستشفى أو للمصحة أو لمنزل المتضرر لسماعه عندما يكون الأمر يستوجب ذلك وحالة المتضرر لا تسمح له بالحضور بمكتبه.
وفضلا عن الأهمية الجزائية لهذه الشهادة فانه يمكن دائما للمتضرر أن يسجل قيامه بالحق الشخصي لدى التحقيق حتى يكون طرفا فاعلا في القضية ويتمكن أمام المحكمة التي ستتعهد بالقضية من المطالبة بجبر وتعويض ما حصل له من ضرر مادي أو معنوي أو الاثنين معا ويكون القيام هنا بمقتضى مطلب كتابي ممضى ممن له الصفة (أي من المتضرر أو نائبه) يقدمه للسيد قاضي التحقيق المتعهد بالقضية.
الفقرة الثانية: سماع الشهود:
يتولى قاضي التحقيق سماع كل من يرى فائدة في شهادته ويقع استدعاؤه بالطريقة الإدارية أو بواسطة العدل المنفذ.
وفي صورة عدم امتثال الشاهد المراد سماعه لقرار السيد قاضي التحقيق الرامي للحضور لديه فانه يسوغ له بعد أخذ رأي وكيل الجمهورية أن يسلط عليه خطية تتراوح بين عشرة دنانير وعشرين دينارا ويمكن إعفاؤه من أدائها إذا أبدى أعذارا مشروعة هذا فضلا عن إمكانية جلبه بمقتضى بطاقة جلب تكون صادرة عن المحقق وعلى الشاهد أن يحلف قبل أداء الشهادة على أن يقول الحق وإلا ينطق بسواه ويقع إنذاره من مغبة الشهادة زورا هذا بعد تسجيل هويته الكاملة ونفيه للقوادح القانونية إلا أنه يمكن دائما للسيد قاضي التحقيق أن يتلقى شهادة شهود مقدوح فيهم قانونا ويكون ذلك على سبيل الاسترشاد فقط لتوضيح وإنارة بعض النقاط المتعلقة بالجريمة موضوع البحث.
أما بالنسبة لتلقي الشهادة فان الشهود يشهدون فرادى وبدون حضور المظنون فيهم.
الفقرة الثالثة: استنطاق المظنون فيه:
يتولى السيد قاضي التحقيق في بداية هذا العمل الإجرائي أخذ الهوية الكاملة للمتهم من اسم ولقب ومقر ومهنة إلى غير ذلك ثم يتولى مباشرة توجيه التهمة إليه معلما إياه بالأفعال المنسوبة إليه والنصوص القانونية المنطبقة عليها والعقوبة المستوجبة وزمان ومكان وقوع الجريمة ثم يعلمه بأنه يمكنه الجواب حالا وبدون إنابة محام أو طلب التأخير لإنابة من يناضل عنه إذ يمكنه من الضمانات القانونية اللازمة عند استنطاقه وفي صورة طلب التأخير من قبل المتهم لإنابة محام فانه يتعين على السيد قاضي التحقيق تأخير موعد الاستنطاق ليوم آخر لا يتجاوز الأربعة أيام من تاريخ الاستنطاق الأول أما إذا كان المتهم حدثا فانه لا يمكن استنطاقه إلا بحضور محام ولذلك فانه يتعين على المحقق تسخير محام للدفاع عنه في صورة عدم توليه إنابة من يدافع عنه.
ويتولى السيد قاضي التحقيق أثناء الاستنطاق طرح بعض الأسئلة على المتهم واستفساره عن كل الظروف التي حفت بالأفعال المنسوبة إليه كالزمان والمكان والأفعال المادية الايجابية أو السلبية التي قام بها أثناء اقترافه للجرم والحالة النفسية والشخصية التي كان عليها آنذاك وأسباب إقدامه على الأفعال المنسوبة إليه… الخ أما إذا كانت الجريمة مقترفة من قبل عدة أشخاص فانه يقع استنطاق كل واحد منهم على حده وبمحضر مستقل.
الفقرة الرابعة: في المكافحات:
يمكن للسيد قاضي التحقيق إجراء المكافحات اللازمة سعيا دائما وأبدا وراء كشف الحقيقة فيمكنه أن يكافح الشهود بعضهم ببعض كما يمكنه أيضا أن يكافح المتهمين.
لكن يبدو من الضروري أن نبين هنا من كون إجراء المكافحات هو عمل اختياري بالنسبة للسيد قاضي التحقيق فهو إذن ليس بالإجراء الوجوبي إذ يلجأ إليه المحقق عند الضرورة وحسب طبيعة الأبحاث ونوعية التصريحات المسجلة لديه أو لدى مأمور الضابطة العدلية أو الباحث المنتدب فيكون مثلا في غنى عنها في صورة التطابق التام بين تصريحات كل من المتضرر والشاهد والمتهم وبذلك فان المكافحات تكون مجدية وضرورية إذا اختلفت شهادات الشهود فيما بينهم مع تصريحات المتهمين فيما بينهم أيضا أو حتى في صورة اختلاف رواية الشهود مع ما تمسك به المتهم أو المتهمين أثناء الاستنطاقات المجراة.
الفقرة الخامسة: في المعاينات والتشاخيص:
يمكن للسيد قاضي التحقيق أن يتوجه إلى مكان اقتراف الجريمة ومعاينة المكان وكل الظروف المادية التي حفت بالجريمة، حتى تكون له فكرة واقعية وحقيقية عن الواقعة والجريمة المتعهد بالبحث فيها لكن لا يجب التهاون أو التقاعس عن إجراء المعاينات الموطنية خاصة في الجرائم الشنيعة كجرائم القتل مثلا إذ أن المعاينة تعتبر أهم عملية إجرائية وتصبح ضرورية إذ تمكنه من سماع الشهود أحيانا على العين واستنطاق المتهم مباشرة اثر الجريمة وبذلك يكون قاضي التحقيق وضع يده على الجريمة ومعالمها ويصبح ملما بها تمام الإلمام الأمر الذي يجعله أحيانا في غنى عن الأبحاث المكتبية المطولة المرهقة واللامجدية هذا فضلا عن كونه يمكن دائما للسيد قاضي التحقيق إجراء التشاخيص اللازمة تتمة للأبحاث المتعهد بها.
إن عملية التشخيص هي عبارة عن تمثيلية إذ يتولى المحقق إحضار جميع أطراف القضية من متضرر وشهود ومتهم أو متهمين ويأمرهم بأخذ الأماكن التي كانوا فيها زمن الواقعة والقيام كل فيما يخصه بالأفعال التي صدرت منه أثناء الجريمة وبذلك تتكون للمحقق فكرة ملموسة وحقيقية وحية عن الواقعة تساعده بطبيعة الحال على كشف الحقيقة مع الملاحظ هنا هو أنه وفي جرائم القتل فانه يسوغ دائما للسيد قاضي التحقيق إجراء تشخيصا وإحضار شخص ما للقيام بدور الهالك والضحية حسبما يصرح به الشهود والمتهم.
الفقرة السادسة: في التفتيش والحجز:
إن مجلة الإجراءات الجزائية خولت للسيد قاضي التحقيق هذا الإجراء. فبالنسبة للتفتيش يمكنه إجراءه في جميع الأماكن التي قد توجد بها أشياء تساعده على اكتشاف الحقيقة ويمكنه القيام بالتفتيش حتى بمحلات السكنى شريطة أن لا يكون ذلك قبل الساعة السادسة صباحا وبعد الساعة الثامنة مساء إلا في صورة الجناية أو الجنحة المتلبس بها أو إذا كانت الغاية من الدخول هي إلقاء القبض على مظنون فيه محل تتبعات جزائية أو مسجون فار من سجنه أو محل الإيقاف.
كما يمكن للسيد قاضي التحقيق أثناء إجراء الأبحاث والمعاينات حجز كل الأشياء المفيدة لكشف الحقيقة، منها الحجج المادية والأساسية للجريمة وآلة الجريمة سواء كان الأمر يتعلق بالاعتداء على الأشخاص أو على الأموال ولنضرب لذلك أمثلة ففي جريمة القتل يتولى حجز العصا أو الهراوة أو المسدس أو السلاح الأبيض الذي أزهق به الجاني روح المجني عليه.
وفي جريمة السرقة الموصوفة يتولى حجز القضيب الحديدي أو المفك البراغي أو المسحات الذي استعمله الجاني في خلع النافذة أو باب المنزل الذي تعمد سرقته… الخ (كما يمكنه حجز المنقول وغير المنقول المشترى بالمال المتحصل عليه من الجريمة) أما في جرائم التدليس فانه يتولى حجز الكتب أو الوثيقة أو الشيك المرمى بالزور وفي كل الصور يحرر السيد قاضي التحقيق تقريرا في الحجز المادي ينص به على المحجوز بكيفية مفصلة كما يتولى عرض المحجوز على المتهم وأحيانا على المتضرر إذا استوجبت الأبحاث ذلك ويقع التنصيص على ذلك بمحضر الحجز لكن يمكن دائما للسيد قاضي التحقيق إرجاع الأشياء المحجوزة أثناء نشر القضية بعد استيفاء الحاجة منها سواء كان ذلك بطلب من أصحاب الحق فيها أو من تلقاء نفسه وفي أغلب الأحيان يتولى إحالة المحجوز صحبة ملف القضية على دائرة الاتهام وللمحكمة المحالة عليه القضية اثر ذلك حق الحكم باستصفائه أو بإعدامه أو بإرجاعه لأصحابه وفي هذه الصورة يتعين على أصحابه طلبه في بحر ثلاثة أعوام من تاريخ ذلك الحكم وإلا فانه يصير من حقوق الدولة.
الفقرة السابعة: في الاختبارات:
إن الاختبارات تعتبر من أهم الأعمال التي يأذن بإجرائها المحقق ففي بعض الأحيان يأذن بإجراء الاختبارات بواسطة ذوي الخبرة على بعض الأدلة أو الحجج المادية المحجوزة ويحرر في الغرض مأمورية يبين له فيها بصفة دقيقة ومفصلة جملة الأعمال المطلوب انجازها.
ففي جرائم التدليس مثلا فان السيد قاضي التحقيق غالبا ما يكلف احد السادة الخبراء المختصين في الخط بإجراء اختبار خطي على الشيك المدلس أو الوثيقة أو الكتب المرمى بالتدليس ليتولى التحقق من ثبوت التدليس من عدمه من جهة وإمكانية إسناده للمتهم أو لا من جهة أخرى.
اما وفي خصوص جرائم القتل فان المحقق يأذن بإجراء تشريح بواسطة أحد الأطباء الشرعيين على جثة الهالك يبين فيه الطبيب الشرعي المكلف أسباب الوفاة وهي أمر أساسي وجوهري باعتبار أنه يبرز ويثبت مدى وجود العلاقة السببية بين الوفاة والفعل المادي الصادر عن المظنون فيه.
ويلجأ أحيانا السيد قاضي التحقيق إلى إجراء اختبارات فنية على آلة الجريمة كالمسدس أو البندقية التي استعملها الجاني في إزهاق روح المجني عليه حتى يحصل له الاقتناع التام من كون المتهم استعمل المسدس أو البندقية المحجوزة لديه في الجريمة أم لا.
وفي كل الأحوال فانه يجوز للسيد قاضي التحقيق أن يعرض المظنون فيه على الفحص الطبي لاختبار مداركه العقلية والنفسية من تلقاء نفسه إذا بدى له المتهم أثناء استنطاقه غير عادي ويعاني من بعض الاضطرابات كما يمكنه ذلك أيضا إذا قدم له المتهم أو نائبه ملفا أو شهادة طبية مسلمة من المصالح المعتمدة تفيد معاناته من اضطرابات نفسية وعصبية لها تأثير مباشر على مداركه العقلية أو أنه كان يعالج فيما مضى بإحدى مستشفيات الأمراض العصبية أو العقلية والغاية هنا من العرض هي معرفة نسبة مسؤولية المتهم عن أفعاله وهو أمر أساسي وهام لأن المعتوه والفاقد للمدارك العقلية لا يؤاخذ عن أفعاله إذ لا يمكن تسليط عقاب جزائي بدني عليه ويقع الاكتفاء بوضعه بمؤسسة استشفائية للتداوي عملا بالفصل 38 من المجلة الجنائية.
و تجدر الإشارة إلى أن السيد قاضي التحقيق كثيرا ما يلجأ إلى إعطاء الانابات العدلية فينيب أعوان الضابطة العدلية المختصين ترابيا أو أحد الفرق المختصة كفرقة الأبحاث والتفتيش أو فرقة مقاومة الإجرام أو فرقة الشرطة العدلية أو فرقة الأبحاث الاقتصادية… لاستكمال الأبحاث وجمع كل الأدلة والقرائن اللازمة سعيا لاكتشاف الحقيقة.
إلا أنه ومهما يكن من أمر فانه يتعين على السيد قاضي التحقيق أن يراقب بصفة مستمرة أعمال الباحث الذي ينتدبه للبحث مكانه وأن يزوده بكل ما يلزم حتى تكون الأبحاث المجراة من طرفه في المستوى المطلوب لكن مهما يكن من أمر فهو مطالب بإجراء الأبحاث اللازمة وإتمام كل النقائص وان الإنابة العدلية التي قد يلجأ إليها أحيانا لا تعفيه من مباشرة الأبحاث في القضية بنفسه.
ونظرا للأهمية البالغة لهذا الدور فان المشرع منحه سلطة قضائية هامة وهامة جدّا ويبدو ذلك واضحا جليا من خلال القرارات التي يتخذها طبق القانون.
المبحث الثاني: سلطات السيد قاضي التحقيق من خلال القرارات التي خولها له القانون:
يمكن تقسيم هذه القرارات إلى ثلاثة أصناف: إصدار البطاقات القضائية )الفقرة الأولى( و قرار الإفراج المؤقت ) الفقرة الثانية( و قرار ختم البحث ) الفقرة الثالثة ( .
الفقرة الأولى: إصدار البطاقات القضائية:
لقد مكن المشرع التونسي السيد قاضي التحقيق من إمكانية إصدار نوعين من البطاقات القضائية: بطاقة الجلب وبطاقة الإيداع. وتحتوي هاتين البطاقتين على عدة تنصيصات وجوبية جاءت صلب الفصل 81 من م.ا.ج.
فبطاقة الجلب تهدف أساسا كما يفهم من منطوق الكلمة إلى جلب شخص ما إلى مكتب التحقيق ويمكن أن يكون ذلك الشخص شاهدا أو متهما لسماع أقواله في القضية المتعهد بها السيد المحقق.
كما يمكن للسيد قاضي التحقيق إصدار هذه البطاقة أي بطاقة الجلب ضد كل متهم بحالة سراح وقع استدعاؤه بالطريقة القانونية فلم يمتثل ولم يحضر لديه ويمكن كذلك له إصدارها ضد كل شاهد لم يحضر لديه بعد استدعائه مرتين.
أما بطاقة الإيداع فهي تختلف من حيث مفعولها عن بطاقة الجلب إذ تهدف أساسا إلى إيقاف المتهم وإيداعه السجن أو الإصلاحية إذا كان المتهم حدثا.
ويصدر السيد قاضي التحقيق في غالب الأحيان هذه البطاقة بعد تعهده بالقضية واستنطاقه للمتهم والوقوف على حقيقة الجريمة المقترفة ويكون ذلك بعد أخذ رأي وكيل الجمهورية. ويمكن القول هنا أن السيد قاضي التحقيق كثير التحري عند إصداره لهذه البطاقة لما لها من اثر على حرية البشر ولا يصدرها إلا في صورة الجريمة المشينة والخطيرة على الأمن العام باعتبار أن الإيقاف يبقى دائما وأبدا إجراء استثنائيا وحرية البشر هي الأصل باعتبار أن الاستقامة وسلامة النية أمر مفترض عملا بأحكام الفصل 558 من مجلة الالتزامات والعقود.
ونظرا للأهمية البالغة لهذه البطاقة فان المشرع التونسي مكن السيد وكيل الجمهورية من حق الطعن فيها بالاستئناف لدى دائرة الاتهام في غضون أربعة أيام من تاريخ اطلاعه عليها.
الفقرة الثانية: الإفراج المؤقت:
إذا كان للسيد قاضي التحقيق حق إيقاف الأشخاص وإيداعهم بمحلات الإيقاف من جهة فانه يكون له من البديهي جدا حق الإفراج عليهم من جهة أخرى، وهذا يدل دلالة واضحة على الأهمية التي أولاها المشرع التونسي للحريات الفردية والعامة.
فانه يمكن دائما للسيد قاضي التحقيق بعد أخذ رأي النيابة العمومية الإفراج من تلقاء نفسه على المظنون فيه وذلك حسب الأحوال والظروف والملابسات التي تتجمع لديه بعد إجراء الأبحاث لكن يمكنه أيضا الإفراج عن المظنون فيه في صورة تقدم المتهم نفسه أو نائبه بمطلب سراح وذلك بعد أخذ رأي النيابة العمومية أيضا في الموضوع.
ويتحتم على السيد قاضي التحقيق في جميع الأحوال في صورة الإفراج عن المتهم تعليل وتبرير ذلك صلب قرار الإفراج ويمكن دائما للمتهم أو لنائبه أو لوكيل الجمهورية استئناف قرار الإفراج أو رفض الإفراج لدى دائرة الاتهام في غضون أربعة أيام من تاريخ الاطلاع بالنسبة للسيد وكيل الجمهورية ومن تاريخ الإعلام لمن عداه.
ويمكن القول هنا أن شرط التعليل بالنسبة للسيد قاضي التحقيق سواء كان ذلك عند الإفراج أو عند رفضه وطريقة الطعن المخولة للأطراف المذكورين آنفا تدل على القيمة التي أولاها المشرع التونسي لحرية البشر.
ويتحتم الإفراج بضمان أو بدونه بعد الاستنطاق بخمسة أيام لفائدة المظنون فيه الذي له مقر معين بالتراب التونسي ولم يسبق الحكم عليه بأكثر من ثلاثة أشهر سجنا إذا كان أقصى العقاب المقرر قانونا لا يتجاوز العام سجنا.
ولقاضي التحقيق وفي كل الأحوال وفي غير الصورة المبينة أنفا التي يتحتم فيها الإفراج أن يأذن من تلقاء نفسه بالإفراج مؤقتا عن المظنون فيه بضمان أو بدونه وذلك بعد أخذ رأي وكيل الجمهورية.
والإفراج المؤقت يمكن أن يأذن به قاضي التحقيق في أي وقت بناء على طلب وكيل الجمهورية أو المظنون فيه نفسه أو محاميه مع مراعاة القيود الواردة بالفقرة السابقة.
ولا يفرج مؤقتا عن المظنون فيه إلا بعد أن يتعهد لقاضي التحقيق باحترام التدابير التي قد يفرضها عليه كليا أو جزئيا وهي التالية:
1- اتخاذ مقر له بدائرة المحكمة،
2- عدم مغادرة حدود ترابية يحددها القاضي إلا بشروط معينة،
3- منعه من الظهور في أماكن معينة،
4- إعلامه لقاضي التحقيق بتنقلاته لأماكن معينة،
5- التزامه بالحضور لديه كلما دعاه لذلك والاستجابة للاستدعاءات الموجهة له من السلط فيما له مساس بالتتبع الجاري ضده.
ويجب البـت فـي مطلـب الإفراج فـي ظرف أربعـة أيـام مـن تاريـخ تقديمـه.
و القرار الصادر عن قاضي التحقيق في الإفراج المؤقت أو رفضه أو في تعديل أو رفع قرار التدبير يقبل الاستئناف لدى دائرة الاتهام من طرف وكيل الجمهورية والمظنون فيه أو محاميه قبل مضي أربعة أيام من تاريخ الاطلاع بالنسبة لوكيل الجمهورية ومن تاريخ الإعلام بالنسبة لمن عداه كما يقبل الاستئناف من الوكيل العام في ظرف العشرة أيام الموالية لصدور القرار.
واستئناف وكيل الجمهورية يحول دون تنفيذ قرار الإفراج أو التدبير.
أما استئناف الوكيل العام فلا يحول دون تنفيذ ذلك القرار.
وفي صورة الاستئناف يوجه قاضي التحقيق في الحال ملف القضية إلى دائرة الاتهام.
ويجب على دائرة الاتهام البت في مطلب الاستئناف في أجل أقصاه ثمانية أيام من تاريخ اتصالها بالملف.
لكن في صورة عدم البت في مطلب الإفراج من طرف قاضي التحقيق في الأجل المذكور بالفصل 86 ) 4 أيام من تاريخ تقديمه ( فللمظنون فيه أو محاميه أو وكيل الجمهورية أن يقدم المطلب مباشرة إلى دائرة الاتهام.
ويجب على الوكيل العام جلب الملف وتقديم طلباته الكتابية المعللة في بحر ثمانية أيام، وعلى الدائرة أن تبت فيه في ظرف ثمانية أيام من تاريخ اتصالها بالملف.
ومطلب الإفراج المقدم من المظنون فيه أو محاميه لا يمكن تجديده في كل الأحوال إلا بانقضاء شهر من تاريخ رفض المطلب السابق ما لم تظهر أسباب جديدة.
و القرار القاضي بالإفراج المؤقت عن المظنون فيه لا يمنع حاكم التحقيق أو المحكمة المنشورة لديها القضية من إصدار بطاقة إيداع جديدة ضده إن دعت الحاجة إلى ذلك بسبب عدم حضوره بعد استدعائه كما يجب أو بسبب ظهور ظروف جديدة وخطيرة.
لكن إذا كان الإفراج المؤقت ممنوحا من دائرة الاتهام بعد نقضها لقرار حاكم التحقيق فلا يجوز لهذا الأخير أن يصدر بطاقة إيداع جديدة إلا بعد صدور قرار من تلك الدائرة في الموافقة على ذلك بعد سماع ممثل النيابة العمومية.
الفقرة الثالثة: قرار ختم البحث:
عندما يستوفي السيد قاضي التحقيق جميع أعمال البحث في القضية وعندما تصبح القضية جاهزة للنظر ينتهي الملف إلى السيد ممثل النيابة العامة لإبداء الرأي في الأصل، وعلى هذا الأخير أن يقدم طلباته في القضية في غضون أجل ثمانية أيام، ثم يتولى هذا الأخير إرجاع الملف إلى السيد قاضي التحقيق الذي يحرر قرارا يسمى بقرار ختم البحث وهو قرار يتعرض صلبه المحقق إلى كل الأعمال الاستقرائية التي أجراها في القضية فيضمن بها تصريحات المتضرر وشهادة الشهود إن وجدوا واعتراف أو إنكار المتهم ونتيجة الاختبارات إن وجدت والمحجوز والمعاينات وأعمال التشخيص… مبديا في الختام رأيه الذي يكون قاضيا سواء بحفظ القضية أو بالتخلي عنها أو بإحالتها على المحكمة المختصة أو على دائرة الاتهام.
أ) الحفظ:
يمكن للسيد قاضي التحقيق اتخاذ هذا القرار كلما لم تتوفر الأركان القانونية للجريمة أو إذا بقي الجاني مجهولا أو إذا لم تكن الحجج المادية كافية لإدانة المتهم، وفي هاته الصورة يأذن بالإفراج عن المتهم إذا كان موقوفا ويتولى إرجاع المحجوز لأصحاب الحق.
ب) التخلي:
يمكن للسيد قاضي التحقيق التخلي عن القضية المتعهد بالبحث فيها إذا اتضح له من الأبحاث المجراة أن القضية ليست من أنظاره كأن تكون من أنظار محكمة استثنائية كالمحكمة العسكرية مثلا أو أن الجريمة المرتكبة لم تقع بدائرته الترابية ولم يقع إلقاء القبض على المتهم بتلك الدائرة وانه ليس من سكانها.
ج) إحالة القضية على المحكمة المختصة:
وإذا اتضح للسيد قاضي التحقيق أن الجريمة متوفرة الأركان القانونية ومدعمة بحجج وقرائن مادية متظافرة، فانه يقرر إحالة المظنون فيه على المحكمة ذات النظر، ويأذن بالإفراج عن المتهم إذا كانت الجريمة من قبيل المخالفات أو لا تستوجب العقاب بالسجن. أما إذا كانت الجريمة من قبيل الجنح فانه يتولى إحالة المتهم على الحالة التي هو عليها صحبة كل ما تجمع لديه من مؤيدات على المحكمة ذات النظر، وفي صورة ما إذا كانت للجريمة صبغة جنائية فانه يقرر إحالة القضية على دائرة الاتهام صحبة كل المستندات والمحجوزات، وفي هذه الصورة يتحتم على السيد قاضي التحقيق إعلام كل من يهمه الأمر بهذا القرار كإعلام القائم بالحق الشخصي والمتهم ووكيل الجمهورية الذين لهم حق الطعن فيه بواسطة الاستئناف لدى دائرة الاتهام في غضون أربعة أيام من تاريخ الاطلاع بالنسبة للسيد وكيل الجمهورية ومن تاريخ الإعلام لمن عداه.
هذا وان الجدير بالملاحظة والتوقف هنا هو أن الفصل 109 من م.ا.ج عند تعرضه للأشخاص الذين لهم حق الطعن بالاستئناف في قرار ختم البحث لم يذكر المحامي نائب المتهم الأمر الذي يتجه معه القول بأن هذا الحق خول للمتهم فقط ولا يسوغ لمحاميه بحال من الأحوال الطعن في هذا القرار نيابة عنه.
وإلى جانب كل هذه الأعمال الأساسية والجوهرية التي يقوم بها المحقق فانه يتولى القيام بعدة أعمال أخرى أثناء مباشرته للبحث لا تقل أهمية عن الأعمال والسلطات المخولة للسيد قاضي التحقيق فان هذا الأخير يلتجئ أحيانا إلى التفكيك والضم وتوجيه تهم جديدة إلى المتهم وحتى توجيه تهمة إلى متهم لم يشمله البحث كيفما سنبين ذلك فيما يلي:
1- التفكيك:
يجنح السيد قاضي التحقيق إلى هذا العمل الاستقرائي كلما اتضح له من خلال الأبحاث أن هنالك صنفين من المتهمين في قضية واحدة البعض أحداث والآخرين رشد وتقع عملية التفكيك بإحالة كل صنف على المحكمة المختصة كما يلجأ السيد قاضي التحقيق إلى التفكيك عند عدم وجود ارتباط في الإجراءات كأن تشتمل القضية المتعهد بالبحث فيها جريمتين منفصلتين من حيث الزمان والمكان والمتضررين … فيتم عندئذ التفكيك لتصبح كل فعلة مستقلة عن الأخرى وبالتالي كل فعلة موضوع قضية منفردة.
2- الضم:
يقع ضم بعض القضايا لبعضها من قبل المحقق في صورة اتحاد موضوعها من حيث الوقائع والظروف الزمانية والمكانية والأشخاص… فتصبح قضية واحدة.
3- توجيه تهمة جديدة إلى المتهم:
يقع توجيه تهمة أو تهم جديدة إلى المتهم في كل الصور التي تظهر فيها جرائم أخرى يعترف بها المتهم لدى السيد قاضي التحقيق أثناء الأبحاث ولم يشملها قرار فتح البحث، ففي هاته الحالة يمكن دائما توجيه التهمة أو التهم الجديدة إلى المتهم بعد أخذ رأي النيابة العمومية بمقتضى قرار اطلاع يعرضه السيد المحقق على النيابة العمومية.
4- توجيه التهمة على متهم لم يشمله البحث:
اذ يمكن توجيه التهمة على متهم لم يشمله البحث إذا تبين من الأبحاث أن الفعلة مرتكبة من عدة أشخاص ولكن البحث شمل البعض فقط فان السيد قاضي التحقيق يتولى عرض الملف على النيابة العمومية لإبداء الرأي في توجيه التهمة على المتهم الذي لم يشمله البحث وعند موافقة ممثل النيابة العمومية يتولى السيد قاضي التحقيق استنطاق المتهم (الجديد) طبق الإجراءات المنصوص عليها بمجلة الإجراءات الجزائية ويصبح طرفا في القضية.