الدكتورة عقيلة بالطيب : التقاعد والمتقاعدون مقاربة اجتماعية أي واقع معاش؟

يعدّ التقاعد مرحلة مفصلية في حياة الإنسان، إذ يمثل انتقالاً من حياة العمل والنشاط المهني المثمر والمنتج إلى حياة الراحة والتفرغ للشؤون الخاصة.
وقد ارتبط هذا المفهوم او هذا المصطلح الغربي بالتحولات الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدها العالم، فأصبح من القضايا الجادة والحيوية التي تستأثر اهتمام الباحثين الاجتماعيين وصناع السياسات الاجتماعية بصفة عامة والمجتمعات الغربية والعربية على حد السواء .
المحور الأول:
التقاعد كظاهرة اجتماعية واقتصادية
يمثل التقاعد او الإحالة على شرف المهنة ظاهرة عالمية ارتبطت بتطور الدولة الحديثة وبروز أنظمة الضمان الاجتماعي. ويعدّ التقاعد كنهاية خدمة لذلك وجب على الحكومات اعداد شكل من أشكال الحماية الاجتماعية التي تضمن للمتقاعد دخلاً ثابتاً يقيه الفاقة والعوز الاحتياج والهشاشة الاجتماعية لان هذه الفئة من خبراء الحياة افنت العمر في كنف الخدمة واسداء الخدمات للوطن .
وتشير تقارير منظمة العمل الدولية لسنة 2023 إلى أنّ أكثر من 77% من سكان العالم لديهم شكل من أشكال الحماية للمتقاعدين لكنها تبقي غير كافية ولا تفي بحاجيات وانتظارات المتقاعد.
المحور الثاني:
الأبعاد النفسية والصحية للتقاعد
ان التقاعد بمفهومه العميق يترك للاسف عند الكثيرين من الافراد شرخا كبيرا وانعكاسات نفسية رهيبة على الفرد، حيث يشعر البعض بعد سنوات من العمل بزوال عطائه وانتفاء حاجة المجتمع اليه وبفقدان الدور الاجتماعي، لذلك يختار العزلة والابتعاد عن المجموعات.
وتظهر الدراسات أنّ 65% من المتقاعدين يعانون من مشاكل الاكتئاب أو القلق والامراض المزمنة في السنوات الأولى من التقاعد.
وقد تناولت في اطروحتي الدكتوراه دراسة بعنوان “التقاعد والمتقاعدون أوضاع هامشية وصعوبة الادماج ” ان الفئة الثانية من المتقاعدين الذين هيأوا انفسهم لفترة التقاعد قد تتيح لهم هذه الفترة الجديدة فرصة للعناية بالصحة وممارسة أنشطة ثقافية ورياضية وهي فرصة الاستثمار وتجديد الطاقات وإنجاز حلم ظل مستحيلا أيام العطاء.
المحور الثالث:
التقاعد والسياسات العمومية
أصبحت أنظمة التقاعد تحدياً أمام المجتمعات العربية بفعل ارتفاع نسب كبار السن .ففي تونس مثلاً، بلغ عدد المتقاعدين 1.3 مليون متقاعد ما يقارب 830الف متقاعد من القطاع الخاص و470الف متقاعد من قطاع العام وفقا للبيانات الرسمية لوزارة الشؤون الاجتماعية تؤمن اجورهم الصناديق الاجتماعية ( الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي cnss) بالنسبة للقطاع الخاص والصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية cnrps بالنسبة للقطاع العام أي ما يعادل11% من السكان، ومن المتوقع أن تصل النسبة إلى 22% بحلول 2050. وتطرح هذه الأرقام تساؤلات جدية حول ديمومة الصناديق الاجتماعية وضمان استمرارية صرف الجرايات خاصة انها تلاقي عدة صعوبات في التغطية الاجتماعية امام ارتفاع غلاء المعيشة والتضخم وصعوبة ايجاد الحلول الملائمة للتعهد بكافة المتقاعدين ويبقي الموظف المحال على نهاية الخدمة من القطاع الخاص أكثر تضررا يعيش تحت سقف الفقر مع صعوبة الاندماج .
المحور الرابع:
واقع المتقاعدين في تونس والعالم العربي :
يعيش المتقاعدون في تونس والعالم العربي أوضاعاً متفاوتة، بين من يتمتع بجرايات محترمة وملبية لاحتياجاته . ومن يواجه صعوبات مالية واجتماعية. ناهيك ان المتقاعد يواجه صعوبات صحية وامراض مزمنة وجب عليه شراء الادوية ومجابهة مثل هذه المصاريف الجديدة والمكلفة تشكل مشكلة ترهق المتقاعد في تونس وفي العالم العربي وقد أظهرت تقارير المعهد الوطني للإحصاء (2022) أنّ أكثر من 40% من المتقاعدين في تونس وفي الدول العربية يواجهون صعوبات في تغطية مصاريفهم الشهرية.
المحور الخامس:
التحديات والحلول المقترحة:
من أبرز التحديات في الوقت المعاصر هي :
– شيخوخة السكان و ارتفاع كلفة الجرايات، امام تراجع نسب المساهمين. يظهر أنّ التقاعد ليس مجرد مسألة مالية، بل قضية متعددة الأبعاد تستوجب رؤية شمولية تجمع بين الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والصحية والنفسية .
إنّ إعادة ادوار المتقاعدين و ادماجهم في الحياة العامة، وتوفير الدعم النفسي والصحي والترفيهي لهم، يعد عنوان التقدم والرقي الحضاري أساسياً لبناء مجتمعات متوازنة تحترم جميع أفرادها.
ونقترح في الختام تنويع مصادر تمويل صناديق التقاعد، مع مواصلة رفع سن التقاعد تدريجياً، وتشجيع الاستثمار في الاقتصاد التضامني والاجتماعي وتوفير سبل الرفاه واخير المحافظة على الثروة الوطنية والاستئناس بها عند الضرورة .
المراجع:
– منظمة العمل الدولية، تقرير الحماية الاجتماعية 2023.
– المعهد الوطني للإحصاء (تونس)، تقرير 2022 حول أوضاع المتقاعدين.
– البنك الدولي، تقارير التنمية البشرية 2021.
– دراسات ميدانية في علم الاجتماع (مجلات أكاديمية متنوعة).
-أطروحة الدكتوراه حول التقاعد والمتقاعدون أوضاع هامشية وصعوبة الاندماج
د. عقيلة بالطيب