سياسة
الوساطة الصينية فى الصراع الدائر داخل السودان بين قوات الدعم السريع لتحقيق السلام فى المنطقة والقرن الأفريقى

تحليل الدكتورة/ نادية حلمى
الخبيرة المصرية فى الشئون السياسية الصينية والآسيوية – أستاذ العلوم السياسية جامعة بنى سويف
يتمحور الخطاب الدبلوماسى والسياسى الصينى حيال الأزمة الراهنة فى السودان، بالدعوة إلى( ضرورة الحل السياسى، والحوار بين طرفى الصراع، وإقرار وقف لإطلاق النار، والعودة إلى الإتفاق الإطارى الذى وقعته الأطراف المعنية فى ديسمبر ٢٠٢٢، فضلًا عن دعوتها إلى تقليل حجم المعاناة الإنسانية للشعب السودانى). مع الرفض الصينى القاطع للتصويت على توقيع أى عقوبات على أطراف الصراع، أو التصويت على ذلك فى مجلس الأمن الدولى، وهو خط يتسق مع موقف الصين السابق منذ فترة الرئيس السابق “عمر البشير”. مع حرص حكومة الصين على إيفاد مبعوث خاص بشؤون القرن الأفريقى إلى السودان، وذلك لتعميق التواصل مع الأطراف المعنية داخل السودان والإقليم، كما عقدت الصين فى العاصمة الأثيوبية “أديس ” أواخر عام ٢٠٢٢ مؤتمراً خاصاً بـ (السلام والتنمية فى القرن الأفريقى)، بهدف زيادة مساحة التواصل والحوار مع دول المنطقة في حلحلة القضايا الأمنية والإقتصادية وإيجاد حلول فورية وعاجلة لها.
مع الوضع فى الإعتبار، بأن الإستقرار فى السودان يخدم المصالح الصينية فى مواجهة تنامى النفوذين الغربى والأمريكى، حيث تريد بكين لعب دور للتقارب بين (الدعم السريع والجيش السودانى) على غرار نجاح وساطتها فى ملفات عديدة مثل ملف تطبيع العلاقات السعودية الإيرانية. وتشعر بكين بمخاوف بشأن مستقبل مشاريعها ومصالحها والعمالة الصينية حيث تعتبر الخرطوم ثالث أكبر شريك تجارى للصين فى أفريقيا بعد جنوب أفريقيا وأنغولا كما أنها سادس أكبر دولة مصدرة للنفط إلى بكين.
وعلى الرغم من أن السودان كانت من أهم شركاء الصين فى القارة الأفريقية سنوات طويلة، إلا أن تلك المصالح الإقتصادية بينهما أخذت فى التراجع بعد إنفصال جنوب السودان فى عام ٢٠١١، التى إستحوذت على ما يقرب من٧٥% من إحتياطات النفط السودانية. ومع ذلك، ظلت السودان محط إهتمام بالنسبة للصين، نظراً لموقعها الإستراتيجى فى القارة الأفريقية، ولكونها إحدى الدول الأفريقية ذات الثقل الديمغرافى والسكانى، فضلاً عن مشهد عدم الإستقرار السياسى والأمنى المستمر فيها، والذى يمكن أن تصيب عدواه منطقة القرن الأفريقى برمتها، التى تربط الصين بدولها علاقات شراكة إستراتيجية ومصالح ممتدة.
ومنذ إندلاع الحرب فى السودان، لم تتخذ الصين موقفاً سلبياً، فقد دعت بكين الأطراف المتصارعة إلى التهدئة والجلوس إلى طاولة المفاوضات، لكنها فى الوقت ذاته لم تعلن رغبتها فى التوسط، ولم تسع حكومة بكين لتقديم أى مبادرة للحل تكريساً لـ “دبلوماسية المصالحات” التى أضحت نهجاً جديداً فى السياسة الخارجية الصينية. وهذا الموقف الصينى ناجم عن قراءة المشهد السياسى داخل السودان بعيون واسعة وبنظرة تحليلية ثاقبة، وإدراك أبعاده وتشابكاته وتعقيداته، فالقصة ليست مجرد صراع بين طرفين يسعيان للوصول إلى السلطة، أو صراع بين سلطة شرعية وميليشيات مسلحة، بل هو صراع دولى قد يجعل من السودان ساحة أخرى للمواجهة عبر إستنساخ النموذج الأوكراني فيه، وهو ما تتخوف منه الصين.
وتسعى الصين للحد من إمتداد الصراعات إلى جنوب السودان، حيث تدرك أن منطقة إقليم القرن الأفريقى تتسم بالهشاشة الأمنية، ويؤدى أى صراع فيه إلى إمتدادات فى دول الجوار، وبالتالى، فإن توسع رقعة عدم الإستقرار فى المنطقة والداخل السودانى، يهدد مصالح الصين المباشرة فى دول المنطقة، خاصةً جنوب السودان، التى تعد شريكاً أساسياً فى إمداد الصين بالنفط الأفريقى. بالإضافة إلى ذلك كانت تحتفظ الصين بعدد من مواطنيها العاملين فى السودان قبل الأزمة، والذين يقدر عددهم بالمئات وقامت بإجلائهم بعد إشتعال الأوضاع هناك.
وتوترت العلاقات بين الصين والحكومة الشرعية فى السودان فى شهر مايو ٢٠٢٥، على إثر مطالبة الحكومة السودانية، نظيرتها الصينية بتفسير واضح بشأن وصول طائرات مسيرة إنتحارية وإستراتيجية صينية الصنع إلى أيدى (قوات الدعم السريع) التابعة لحميدتى عدوها اللدود. خاصةً وأن وقوع مثل هذه الأسلحة الصينية فى يد قوات الدعم السريع السودانى يهدد الأمن القومى للسودان، لإستخدامها فى تهديد الأمن والإستقرار السودانى، من خلال إستهداف وتدمير المنشآت الحيوية، مثل المستشفيات ومحطات الكهرباء والمياه ومستودعات الوقود داخل السودان. كما ترتكب بها أيضاً جرائم ضد الإنسانية، وإنتهاكات جسيمة للقانون الدولى الإنسانى، عبر قصفها للفنادق والمدنيين العزل والمرافق الصحية، وقتلها للنساء والأطفال.
ومن أجل ذلك، إستدعت وزارة الخارجية السودانية خلال شهر إبريل ٢٠٢٥ القائم بأعمال السفارة الصينية فى مدينة بورتسودان، العاصمة المؤقتة للبلاد، وإستوضحته وطلبت منه إيضاحاً صينياً رسمياً بشأن كيفية حصول “قوات الدعم السريع” على مسيرات صينية إستراتيجية من طراز (إف إتش-٩٥)
(FH – 95)
وأكد القائم بالأعمال الصينى عدم وجود أى علاقة لبلاده بـ (قوات الدعم السريع) برئاسة “حميدتى”.
وعلى الجانب الآخر، يتمثل الموقف الصينى الرسمى من حرب السودان فى إلتزامها بسياسة (عدم التدخل المباشر مع التركيز على دعم إستقرار السودان للحفاظ على مصالحها الإقتصادية)، لا سيما في قطاع الطاقة. ورغم الإستياء الصينى من إنتهاكات العقوبات وتزويد أطراف النزاع بالأسلحة، تواصل الصين الإعتماد على دور وساطة غير مباشر مع الأطراف غير الغربية، وتتجنب التدخل السلبى الذى قد يتعارض مع مصالحها مع شركائها أو إستفزاز الولايات المتحدة الأمريكية، مع إستمرار الصين دعمها الشامل لحكومة السودان كدولة ذات سيادة. وتدعم الصين سيادة السودان وسياسة عدم التدخل فى شئونه، حيث أنه من المعروف دولياً إعتماد الصين على مبدأ إحترام سيادة الدول وعدم التدخل فى شؤونها الداخلية. مع حرص الجانب الصينى على دعم حكومة السودان فى نزاعها مع جيش تحرير شعب السودان خلال السنوات الماضية. فمنذ إستقلال جنوب السودان عام ٢٠١١، أكدت الصين إلتزامها المطلق بالحفاظ على علاقات قوية مع الخرطوم وإستمرت فى دعم جهود التنمية فى السودان. كما لعبت الصين دوراً هاماً فى إستغلال موارد السودان، خاصةً النفط، حيث قدمت قروضاً كبيرة للإستثمار فى البنية التحتية السودانية وبناء خطوط الأنابيب. كما إستغلت بكين خروج (شركة شيفرون) من السودان لتوسيع إستثماراتها فى قطاع النفط.
وهنا تلعب الدبلوماسية الصينية وفق مبدأ (الإستفادة من العلاقات غير المباشرة)، بمعنى أنه فى ظل الأزمة الحالية داخل السودان، تبتعد الصين عن أى تدخل مباشر، وتفضل إستخدام “دبلوماسية المقعد الخلفى”. كما تدعم الصين وساطات تقوم بها أطراف أخرى مثل (الأمم المتحدة والإتحاد الأفريقى ودول)، بدلاً من الإنخراط المباشر فى أى عملية تدخل حتى لو كانت مصحوبة بالسلام قد تضر بسمعتها دولياً من قبل منافسيها وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية. حيث تتجنب الصين التناقضات مع الشركاء والولايات المتحدة على وجه الخصوص فيما يتعلق بالتدخل فى الملف السودانى. وهنا تتجنب الصين خلق تناقضات بين أجندتها السياسية فى السودان وبين أجندات شركائها الإقليميين مثل روسيا ودول الخليج. كما يلاحظ تجنب الصين بالأخص لإستفزاز الولايات المتحدة الأمريكية بشأن ملف السودان الذى لا يحظى بأهمية إستراتيجية كبرى لديها.
فى الوقت الذى تراقب فيه منظمات حقوقية مثل (منظمة العفو الدولية) تزويد الإمارات العربية المتحدة للأسلحة إلى السودان، والتي تشمل أسلحة صينية، وذلك فى إنتهاك صارخ لحظر الأسلحة على دارفور. وهنا حملت عدد من المنظمات الحقوقية والدولية الجانب الصينى مسؤولية منع تحويل أسلحتها إلى مناطق النزاع، بينما تسعى لتعزيز موقفها من خلال دعم عمليات السلام.
وبناءً على التحليل السابق، نفهم مدى الحرص الصينى على دعم السلام والإستقرار فى السودان وإنهاء النزاع بين الجيش السودانى وقوات الدعم السريع وعينها على مصالحها الإقتصادية المترامية داخل السودان وفى منطقة القرن الأفريقى المجاورة، مع التخوف الصينى لتحول الوضع داخل السودان لساحة صراع إقليمى ودولى يضر بمصالحها، لذا تقف على الحياد.