تمدّد وتوحّش «إسرائيل» وغيبوبة العرب!

د. عدنان منصور*
ليس هناك من أمة في العالم القديم والحديث تعاطت مع قضاياها الوطنية والقومية باهمال وضعف، واستخفاف، وخنوع، مثل ما يتعاطى العرب مع قضاياهم الوطنية والقومية التي تطال في الصميم وجودهم ومصيرهم، وأمنهم القومي منذ قرن من الزمن وحتى اليوم!
من عجائب وغرائب الأمور أنّ العرب، قادة، وزعماء، وسياسيين، وعسكريين، يعلمون ما يخطَّط لهم من مشاريع ومؤامرات، وما يهدّد دولهم، وما يُبيّته العدو الخارجي لهم من سياسات مدمرة، مكشوفة للعلن. رغم ذلك يبقون حيالها مسمّرين، مجمّدين، كمن على رؤوسهم الطير!
لم يتوقف السياسيون، والمحللون، والمنظرون، والإعلاميون، والكتاب العرب، عن الحديث عما يخططه الغرب للعالم العربي، وما تحضّره «إسرائيل» بكلّ جهارة وتحدّ للدول العربية، دون أن تعير أيّ اهتمام لحكامها، ودون أن تتوقع منهم أيّ ردّ فعل يجنّب دولهم الخطر المحدق بها، ويثبتوا للعالم كله، أصدقاء وأعداء، انهم عند الاستحقاق، يدهشون العالم بمواقفهم ووحدتهم الصلبة، ويستميتون في الدفاع عن اوطانهم وشعوبهم!
هل من دولة أو أمة في عالم اليوم، تجد نفسها، تحت التهديد الدائم، وتتعرّض للاستباحة، والقتل، والمجازر، والتدمير، والتقسيم، دون أن تحرّك ساكناً؟! ما حال العرب إزاء ذلك؟! ايّ نوع من أنواع الأمم وقادتها، هي أمة العرب التي يلحق بها الذلّ والهوان، ولا تتحرك، ولا تنتفض، فيما «دولة» الاحتلال الإسرائيلي تتقدّم على أكثر من جبهة، وتجتاح ما بقيَ من جبهات؟!
هل ما قامت به الحركة الصهيونية، وأذرعها العسكرية الإرهابية، كالأرغون، والهاجانا، وشتيرن قبل قيام الكيان، وما قامت وتقوم به «إسرائيل» بعد تأسيسها، من حروب، وإبادة، وتهجير، يشكل مفاجأة لنا ولأحرار العالم، وهي التي تستند منذ عقود، إلى مزاعمها التلمودية، ونواياها التوسعية؟
إذا كانت «إسرائيل» واضحة تماماً في سياساتها التوسعية، فما الذي فعلناه على مدى 77 عاماً من عمر الكيان المؤقت؟! متى تبنّى العرب خطة لمواجهة العدو واستمروا فيها ونفذوها بحذافيرها؟! متى خرج العرب من عجزهم، وتفككهم، وتمزقهم، وخلافاتهم، وتناحرهم، وحذرهم، وعدم الثقة من بعضهم البعض؟!
لم يتبنّ العرب يوماً في ما بينهم سياسة واحدة ليصمدوا معاً، ولم يتفقوا على دبلوماسية واضحة ليفاوضوا معاً، ولم يجتمعوا على خوض حرب ضدّ العدو ليحاربوا معاً، ولم يعتزموا على مقاطعة العدو وحصاره معاً، ولم يضعوا خطة لتحرير أراضيهم من المحتلين لتنفيذها معاً!
على مدى عقود تتقدّم «إسرائيل» في احتلالها، ويتراجع العرب عن حقهم، وبين التقدّم والتراجع، انهارت دول وقسّمت أخرى! هل أدرك قادة العرب و»فحول» الأمة، و»الغيارى» عليها، وأخذوا على محمل الجدّ، مسؤوليتهم الوطنية والقومية إزاء ما كان «يبشر» به قادة وزعماء «إسرائيل» منذ عقود؟!
هل كانوا يعون ويستوعبون مشروع النظام الصهيوني ـ نظام أرييل شارون رئيس وزراء إسرائيل ورفائيل ايتان رئيس هيئة الأركان ـ، الذي يتعلق بخطط «إسرائيل» الاستراتيجية المستقبلية، الذي نُشر في 14شباط/ فبراير عام 1982 في مجلة «كيفونيم» الإسرائيلية؟! ألم يحدّد البرنامج، الدول التي سيطالها مخطط «إسرائيل»؟! إنْ كانوا قد وعوه، فما الذي فعلوه لوقف الانهيار؟! لماذا الركوع أمام «إسرائيل» حتى تأخذ منهم كلّ شيء، ولم تعطهم شيئاً؟! ما الذي جنته منهم، وما الذي جنوه منها؟! ما الذي أعطته السلطة الفلسطينية لـ «إسرائيل»، وما الذي أخذته منها؟! ما هذه الأمة التي يفرّط قادتها، بوجودها، وتاريخها، وسلامتها، ومستقبلها، وأمنها القومي؟! متى كانت الدول الحرة تعترف بمحتلها غير دول عربية. تظرفه وتضعه في موقع الصديق والحليف؟!
كيف لأمة أن تستفيق من سباتها العميق، وتنهض وتحصّن وجودها ووحدة أراضيها، فيما دولها تنبطح للعدو، وتنخرط وتزجّ نفسها بشكل مريب في حروب عربية داخلية، تزعزع أركانها، وتمزق أوصالها، في الوقت الذي يركز فيه الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي على تفكيك الدول العربية الى وحدات صغيرة؟!
لقد عرفت «إسرائيل» منذ البداية حقيقة العالم العربي من حيث مشاكله، وانقساماته، ومكوناته العرقية، والقومية، وعجز وفشل قادته في حلّ مشاكله الأساسية، حيث اعتبرت العالم العربي بمثابة «قصر من ورق بنته القوى الخارجية ـ فرنسا وبريطانيا ـ خلال العشرينات من القرن الماضي».
على مدى عقود، ركزت «إسرائيل» على المكونات العرقية، والطائفية، والقومية، والاجتماعية، ومشاكلها الداخلية، وراهنت عليها في تفكيك دول العالم العربي.
ألم تدعم «إسرائيل» الحركة الكردية في العراق، وانفصال جنوب السودان، وتُقِم شبكة علاقات قوية مع مكونات في سورية ولبنان؟! ألم يركز المشروع على «أنّ تقسيم لبنان إلى خمس مقاطعات، ينبئ بالمصير الذي ينتظر العالم العربي أجمع بما فيه مصر وسورية والعراق وكلّ الجزيرة العربية، فيما الأمر بات منجزاً في لبنان»؟! ألم تدعم «إسرائيل» حركات انفصالية في دول المغرب العربي الكبير؟! ألم تعمل في الخفاء على تأجيج الحالة الطائفية بين المسلمين والأقباط في مصر؟! ألم يلحظ مشروع شارون ـ إيتان، قبل 43 عاماً انّ سورية «ستكون مسرحاً لحرب أهلية حقيقية بين الأغلبية السنية والأقلية العلوية»؟! ألم يذكر مشروع شارون ـ إيتان، «أنّ الهدف السياسي لـ «إسرائيل»، هو تفكيك مصر، وتقسيمها إلى وحدات جغرافية منفصلة… وسوف يصبح لدينا دولة مسيحية في مصر العليا وعدد من الدول الأخرى، بدلاً من الحكومة المركزية الحالية، فهذا هو التطور التاريخي المنطقي، غير الممكن تجنّبه على المدى البعيد الذي أخّرته اتفاقية السلام لعام 1979»؟!
ألم يؤكد المشروع على «أنّ الهدف الأكثر إلحاحاً لـ «إسرائيل» على المدى البعيد، تحقيق اضمحلال سورية والعراق. وتحوّلهما إلى مقاطعات عرقية ودينية كما هو الحال في لبنان، ويعتبر الهدف على المدى القصير تحقيق الانحلال العسكري لهاتين الدولتين؟! ألم يؤكد على «تقسيم سورية إلى عدة دول بحسب الجماعات العرقية، بحيث ان الساحل سيصبح دولة علوية، ومنطقة حلب دولة سنية، ومنطقة دمشق دولة أخرى سنية معادية لجارتها الشمالية، وسيشكل الدروز دولتهم الخاصة التي يمكن أن تمتدّ إلى جولاننا، وبكلّ الأحوال في حوران وشمال الأردن!»
أما العراق، فيعتبره المشروع الإسرائيلي، «أرضاً مثالية لتحرك إسرائيل». إنّ تفكيك هذا البلد يهمّنا أكثر من تفكيك سورية. وستتشكل فيه ثلاث دول حول المدن الرئيسية: كردية في الشمال، سنية في بغداد، شيعية في الجنوب».
أما لجهة الأردن، يؤكد المشروع على «أن تركز الخطة الإسرائيلية سواء العسكرية أو الدبلوماسية على تصفية النظام الأردني، ونقل السلطة إلى الأكثرية الفلسطينية. سوف يحلّ هذا التغيير في النظام الأردني مشكلة أراضي الضفة الغربية، وذلك عن طريق الحرب أو عن طريق شروط السلام، ويجب أن يحصل ترحيل السكان من هذه الأراضي، ورفض مخطط الحكم الذاتي… لن يكون هناك حياة مشتركة سلمية في هذا البلد، إلا عندما سيفهم العرب بأنهم لن يعرفوا لا وجوداً، ولا أمناً إلا بعد تحقيق السيطرة اليهودية من نهر الأردن حتى البحر، ولن يحصلوا على وطنهم الخاص وعلى أمنهم إلا في الأردن».
هذه هي خطة «إسرائيل» الاستراتيجية منذ عقود، التي عملت على تحقيقها بشكل كبير وممنهج، فيما العرب يكتفون بالمؤتمرات، والشعارات، والخطابات، والبيانات، والتنديدات، والاستنكار، واللطم والندب والبكاء على أطلال أوطان لا يستحقونها!
متى يعي قادة العالم العربي ما يُحاك ضدّ بلدانهم الممدّدة على مذبح التقسيم والتقزيم والتذويب؟! إنْ كانوا يدركون كارثة ما يحصل في غزة والضفة الغربية، من إبادة جماعية، وتماد العدوان والاحتلال الإسرائيلي على لبنان وسورية، واحتلال أجزاء من أراضيهما، وارتكاب جرائم وتصفيات جسدية بحق طوائف، وهم يعلمون وراضون بالعار والذلّ عندئذ سنقول لأحفاد «أبو عبد الله الصغير» آخر ملوك الأندلس: وداعا للأوطان، للكرامة، للوطنية، وللشرف العربي كله…
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق