طرق الصيد

حكاية طرقْ الـصّيـد…(كما عشتها) (قطعة موسيقيّة على الشبّابة أو القْصبة كما سمعتها في منتصف السّبعينات أثناء مخيّم كشفي خلال عطلة الشّتاء بمقام زاوية سيدي عمر البقْراوي في ريف مدينة الكاف )……. المكان مثقل براوائح الزّاوية والشّمع الذّائب يترك رسوما سرياليّة على جنبات الأعمدة ..
يتداخل النّور الخافت مع الظّلال المتدرّجة وتتماوج طبقات رماديّة ترميك في عالم أسطوريّ..كنا نغرق فيه رويدا رويدا …أخيرا ءاستجاب مسعود القْصّاب الأعمى لتوسّلاتنا في أن يعزف لنا طرقْ الصّيد بعد أن مهّد لذلك بصوته المتحشرج …عن الفارس الّذي تمرّد على تعاليم القبيلة وتسلّل تحت جنح الظّلام بعد مواعدة حبيبته ..فقد توحّدت سلطة القبائل المتناحرة لوأد الحبّ المتأجّج في صدور العشّاق ..فلتسقط تعاليم القبيلة هذه اللّيلة وليذهب أعداء الحبّ ءالى الجحيم …كانت الحكاية تخرج من شبّابة مسعود وتزحف من رحم الأسطورة لتتجسّد لحما ودما في جنبات الزّاوية الساكنة ..هواء وصفيرا وأنغاما برائحة الشّيح والصّعتر في غريق البوادي …
كانت البداية هادئة يتسلّل الصّفير من صدر مكلوم ءالى فوهة شبّابة قدّت من قصب موشوم بالنّار ..ترتعد أصابع مسعود ويلج بنا في جنح اللّيل الحالك ..ويتسلّل مع الفارس خلف مرابض النّجع ( ياه…نجعك يا لملهوّث قْدّا..ساقْــوه كيف عزّم برحيلا …ساقْـوه مالمراح وقْـبّل …ماسوج وعقْـبتا تشكيلا ….يا لعج راهو داك قْـتلني حرّمتي النّوم من عينيّا..ضربوك بالعصا وسكتّي ..كثر التخمام زاد عليّا…) …هناك حيث تتسلّل الحبيبة وتترك خلفها كلّ شيء أهلها وناسها ومراتع طفولتها ..وتتعانق الأصابع المتمرّدة ويسحبها خلفه ..وتسكت الكلاب وكأنّها تتحالف مع مكوّنات الحكاية ..يرفعها بين يديه ويثبّتها على سرج حصانه الّذي يعلم كلّ القصّة ويباركها يعتلي الفارس صهوة جواده وتلف ذراعيها حول خصره ..وتهدأ أنفاسها المتسارعة ويصبحان قلبا واحدا تتدفق فيه دماءالعشاق …حينها أصبح المتجمّعون حول مسعود ..مثل سيول اشّمع الذّائب ..وكان كانون الفحم ينضح بروائح البخور والدّاد والجاوي ..تسمّر كلّ واحد في مكانه على الحصير..وآستند الجميع على الجدران الملوّنة بأصابع الحناء كانت قد رسمتها أنامل العذارى تبركا بالمقام وهنّ يتركن هناك أحلاما لعلّها تتحقّق ذات يوم …..
بدأ صوت الشبّابة يرتفع يحاكي وقع خطوات الحصان الحذر يبتعد عن المرابع حيث هناك العسف والحبّ الحرام ..ءالى عالم أرحب ..ءالى حيث لا سلطان غير سلطان الحبّ..ويتحوّل سير الجواد خببا ثمّ ركضا والّليل الغطاء والسّند ..وتتبدّل نفخة مسعود وتتسارع معها الأحداث وتخفق القلوب حين الوصول ءالى الخنقْة ..وهناك تفرض أحداث الحكاية أن يعترض طريقهم أسد هائج في قلب الوادي ..ويصهل الحصان ويرفس بقائمتيه منذرا سيّده هاهو خطّ آخر من المنع وكأنّه يتحالف مع صلف القبيلة ..يترجّل الفارس ..وتبدأ معركة ضارية تهتزّ لها جنبات الوديان ويتطاير الغبار والحصى ..وتخرج الزّغاريد من فوهة الشبّابة يتلقّفها مسعود من فم الحبيبة العاشقة وهي تشحن فارسها وتشدّ من أزره …وتزوّده بما يحتاج من أنفاس في عراكه مع الأسد ..يتمايل مسعود في كلّ ءاتّجاهوينفخ ..ينفخ ..ويتراقص لهب الشّموع في المكان فيرسم على الجدران فارسا شامخا يصرع الأسد الجبّار….ثمّ يستردّ أنفاسه ..وتولول الحبيبة بزغاريد الفرح والنّصر…تبّا للقبيلة وتعاليمها وللأسد وزئيره …ءانه الحبّ ولا شيء غير الحبّ …ويتحوّل صوت الشبّابة ءالى سنفونيّة تحكي ملحمة تبعث القشعريرة في الجالسين هناك ….يحيا الحبّ ولا شيء غير الحبّ .
رؤوف هدّاوي