من الشريعة إلى السيادة.. أطروحة سليم العوا في إعادة بناء المفاهيم القانونية

في زمنٍ باتت فيه المرجعيات القانونية محكومة بإرادة الغالب، وتُصاغ المبادئ الدولية وفق موازين القوى لا موازين العدالة، تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة مساءلة البنية المفاهيمية التي يقوم عليها النظام القانوني الدولي، فبينما يُقدَّم القانون الدولي كإطار محايد لضبط سلوك الدول وضمان حقوق الأفراد، تتكشف في التطبيق اليومي انحيازات صارخة، وازدواجية في المعايير، واستثناءات تُكرَّس باسم السيادة أو الأمن أو الشرعية الانتقائية.
وفي خضم هذا المشهد، يُطرح سؤال جوهري: هل يملك العالم الإسلامي أدوات نظرية وقانونية تُمكّنه من تقديم بدائل معرفية ومفاهيمية تعيد الاعتبار للقيم الكونية من موقع الشراكة لا التبعية؟
من هذا المنطلق، نشأت محاولات فكرية وقانونية جادة لتفكيك المفاهيم الغربية السائدة، لا من باب الرفض الأيديولوجي، بل بهدف إعادة تأصيلها في ضوء المرجعية الإسلامية، ومواءمتها مع تطلعات الشعوب نحو العدالة والكرامة والسيادة الحقيقية، وضمن هذا التيار، ظهر صوت قانوني فريد، جمع بين التكوين الأكاديمي العميق، والخبرة العملية في الساحات القضائية، والقدرة على الربط بين أصول الشريعة الإسلامية ومقتضيات القانون الدولي المعاصر، ليقدّم اجتهاداً نوعياً يستحق التأمل والاحتفاء.
وفي فقه القانون الدولي، غالباً ما تُقدَّم الشريعة الإسلامية كخلفية حضارية أو دينية، لا كمرجعية قانونية قادرة على صياغة موقف شامل تجاه القضايا الدولية المعاصرة، غير أن الدكتور محمد سليم العوا سلك مساراً مختلفاً؛ إذ انطلق من منطلق فقهي عميق ليرتقي بالشريعة إلى مستوى الخطاب القانوني الدولي، لا بوصفها منظومة روحية فقط، بل كمرجعية تشريعية متكاملة يمكن أن تسهم في بناء نظام قانوني عالمي أكثر عدالة وتوازناً، لقد تبنى العوا نهجاً عقلانياً مقاصدياً، يسعى إلى إبراز أوجه التكامل بين أصول الشريعة ومبادئ القانون الدولي المعاصر، مستندًا في ذلك إلى تحليل علمي رصين ونقدٍ منهجي مزدوج: للقصور في تفعيل الشريعة، وللانحيازات في البنية الدولية القانونية الراهنة.
لقد كان المفكر الإسلامي سليم العوا من أوائل المفكرين القانونيين في العالم الإسلامي الذين تجاوزوا الثنائية التقليدية بين الشريعة والقانون الوضعي، فقد نظر إلى الشريعة الإسلامية بوصفها إطاراً قانونياً قادراً على إنتاج قواعد عامة ومجردة، قابلة للتنزيل على الواقع الدولي، ومن خلال ما قدمه من أبحاث ومرافعات ومحاضرات، برز مشروعه في تطوير ما يمكن تسميته بـ “الاجتهاد القانوني الدولي الإسلامي”، وهو اجتهاد يدمج بين القواعد الكلية للشريعة (كالعدل، رفع الظلم، حفظ الأنفس، الالتزام بالعقود) والمفاهيم القانونية الحديثة (كالسيادة، المسؤولية الدولية، حماية المدنيين، وحقوق الشعوب).
النشأة
ولد الدكتور محمد سليم العوا عام 1942 في محافظة الإسكندرية بمصر، وحصل على ليسانس الحقوق من جامعة الإسكندرية، ثم نال درجتي الماجستير والدكتوراه من جامعات بريطانية، حيث تخصص في القانون الجنائي الدولي، هذه الخلفية الأكاديمية المزدوجة بين الموروث القانوني الإسلامي والتعليم الغربي مكّنته من أداء دور الوسيط الفعّال بين مرجعيتين غالباً ما توصفان بالتنافر: الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام.
وقد شغل العوا مناصب استشارية لدى عدد من المنظمات الدولية، منها منظمة التعاون الإسلامي، كما مثّل أطرافاً في قضايا تحكيم دولي، وكان من المحامين الذين تولّوا قضايا ذات بعد سياسي وقانوني يتقاطع مع القانون الدولي الإنساني، مثل قضايا المعتقلين تعسفياً أو المتهمين في محاكمات سياسية تفتقر إلى الضمانات القانونية، وخلال سنوات عمله، حافظ العوا على خط تحليلي واضح: أن القوانين الوضعية لا تكتسب شرعيتها من ذاتها، بل من مدى اقترابها من القيم الأخلاقية والإنسانية، وهو ما جعله يعيد في كثير من كتاباته تقويم مفهوم الشرعية القانونية بمعايير الشريعة.
في كتاباته، لا يعرض سليم العوا الشريعة كبديل يرفض القانون الدولي، بل كمرجعية يمكنها أن تسهم في ترميم النظام القانوني العالمي الذي كثيرًا ما يتعرض لأزمات الشرعية والأخلاق، وفي كتابه “النظام السياسي في الإسلام”، على سبيل المثال، يتناول العوا مبدأ السيادة من منظور إسلامي، ليبرهن أن الإسلام سبق إلى التأكيد على سيادة الأمة، وحماية الحاكم من الاستبداد، وهو بذلك ينقل هذه المفاهيم إلى دائرة قابلة للتفاعل مع القانون الدولي المعاصر.
كما كان له دور بارز في نقد مفهوم العدالة الدولية، خاصة في ممارسات المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، يرى العوا أن هذه المؤسسات -رغم أهميتها القانونية- قد وُظفت في بعض الأحيان لأهداف سياسية، ما أفقدها حيادها، لاسيما في قضايا تخص دولاً عربية أو إسلامية. في المقابل، يدعو إلى إنشاء مؤسسات قانونية دولية نابعة من رحم التعاون الإسلامي، تستلهم من الشريعة الإسلامية روح العدالة دون أن تغفل أدوات القانون الدولي الحديثة.
وعلى المستوى الأكاديمي، ألقى العوا عشرات المحاضرات في جامعات عربية وغربية، تناول فيها قضايا مثل: مفهوم الجهاد في القانون الدولي، العلاقة بين الدولة والدين، حدود الدولة الإسلامية المعاصرة، وإشكالية التداخل بين السيادة الوطنية والتدخل الإنساني. كل ذلك بلغة قانونية منضبطة، لا تنطلق من خطاب دعوي بل من مرجعية تحليلية قانونية رصينة.
إن مشروع الدكتور العوا لا يهدف إلى أسلمة القانون الدولي بالمفهوم الشعاراتي، بل إلى عقلنته من خلال إدماج القيم الإسلامية في بنيته المفاهيمية، لتقريب الفجوة بين ما هو قانوني وما هو أخلاقي، وهذا ما جعله يرفض المقاربات الصدامية التي تنطلق من فكرة المواجهة بين الشريعة والقانون، داعياً إلى خطاب قانوني إسلامي يسهم في إعادة التوازن للمنظومة الدولية، ويعالج أوجه القصور في حماية حقوق الشعوب والدول الضعيفة.
ولعل أهم ما يميز أسلوب العوا أنه يعيد صياغة المفاهيم القانونية الغربية من منظور إسلامي دون أن يرفضها جملةً، فمثلاً، عندما يتحدث عن مفهوم السيادة، لا يرفضه، بل يعيد تأصيله بما يتوافق مع مبدأ الاستخلاف القرآني، ويقدّم بذلك نموذجاً لا للتقليد، بل للاجتهاد الإبداعي.
إن تجربة الدكتور محمد سليم العوا تُعد مرجعاً مهماً في مسار تطوير اجتهاد قانوني إسلامي دولي، يقوم على ثلاث ركائز: الاجتهاد الفقهي، العقل القانوني، والالتزام الأخلاقي، وقد فتح هذا النموذج المجال أمام إعادة النظر في العلاقة بين العالم الإسلامي والنظام الدولي، لا من موقع المفعول به، بل من موقع الفاعل الذي يملك بدائل وأدوات للمساهمة في صياغة عالم أكثر عدالة.
وفي النهاية وفي ظل عالم يتأرجح بين طموحات القانون ومصالح السياسة، وبين صيغ العدالة وشروط الهيمنة، يظل الاجتهاد القانوني الذي يمزج بين الأبعاد القيمية والمفاهيم المعاصرة أحد أنبل أشكال المقاومة الفكرية والمعرفية، ومن خلال ما قدّمه الدكتور محمد سليم العوا، يتّضح أن المشروع الإسلامي القانوني لا ينحصر في استدعاء النصوص أو استعراض الشعارات، بل يتجلى في القدرة على تحويل المبادئ إلى أدوات تحليل، والرؤى الأخلاقية إلى أُطر معيارية قابلة للتطبيق في الفضاء الدولي.
لقد أعاد العوا الاعتبار لاجتهادات الشريعة بوصفها منظومة عقلانية قادرة على إنتاج القانون، لا مجرّد مرجعية روحية أو أخلاقية، وفي الوقت الذي انشغل فيه كثير من الفقهاء بالبعد المحلي أو التاريخي، وسقط بعض القانونيين في أسر النقل عن النموذج الغربي، شق العوا طريقًا ثالثًا، يستلهم من تراث الأمة ويخاطب عقل العصر، مقدّماً صيغة قانونية تتفاعل مع القانون الدولي دون أن تذوب فيه، وتعارض مظالمه دون أن تقطع مع أدواته.
بالتالي، إن أهمية هذا النموذج لا تقتصر على قيمته الأكاديمية أو النظرية، بل تكمن في قدرته على إحداث تحوّل في الوعي القانوني الإسلامي، وتحريره من ثنائية التبعية أو العزلة. فالعوا لم يكن مجرد ناقد لخلل المنظومة الدولية، بل كان بنّاءً في اقتراح البدائل، ومؤسساً لمنهج يمكن أن يتبنّاه جيل جديد من القانونيين المسلمين الذين يطمحون إلى موقع الفاعل في صياغة القوانين، لا موقع المنفعل بها.
من هنا، فإن مشروع العوا يجب ألّا يُنظر إليه كمجرد اجتهاد فردي أو محاولة معزولة، بل كلبنة أساسية في مسار إعادة بناء الخطاب القانوني الإسلامي المعاصر، خطاب يربط بين السيادة والكرامة، بين المقاصد الشرعية والحقوق الإنسانية، وبين استراتيجيات الأمة وتحديات النظام الدولي.
وفي زمنٍ تتسارع فيه التحوّلات ويشتد فيه الاستقطاب، تزداد الحاجة إلى مثل هذه العقول التي تُمسك بجذر الفكرة وروح النص، وتُعيد تشكيل أدوات القانون بما يليق بكرامة الإنسان واستخلافه في الأرض.
*كاتب ومفكر – الكويت.