…..”فورناطا” ….

وأنا في طريقي أمشي في الصّباح الباكر مررت بمخبزة جديدة وكان العمّال ترتفع أصواتهم ضحكا يمازحون أحدهم ومن بينهم ءامرأة في مقتبل العمر ..فتبسّمت وتذكّرت أبي… منذ نصف قرن عندما كان شغل المخابز يكسر كاهل أشدّ الرّجال ..! كان أبي رجلا أميّا لم تسعفه طفولته القاسية أن يتعلّم وقد حذق بالكاد أن يرسم الأرقام لينجز فقط عمليّات جمع طويلة ومرهقة حتّى يحسب أجرته بعد كلّ نصف شهر”كانزا” ..عاش اليتم صغيرا وهرب من الرّيف القاسي ليترك لأخوته معالجة قطعة أرض تكفي لإعالة بعض الأفواه في ظروف جاحدة وحياة خشنة صعبة .
لا أذكر أنّه حدّثنا حول طفولته !..ربّما لأنّه لم تكن له طفولة ليتذكرها ليجد نفسه رجلا !..بدون مقدّمات في مواجهة مصيره لوحده وربّما كان ذلك ما جعل منه رجلا صلبا يحسب لكلّ شيء ألف حساب وينسج علاقاته كالعنكبوت بصبر وذكاء فيه جلد الفلّاح وإصرار الكادح الذي يذرف العرق كل يوم ويحبّ عمله ويتفانى فيه حتّى أصبح “رايس “لمخبزة كبيرة يجمع تحت ناظره مجموعة من العمّال يحترمونه ويخشونه لأنّه كان يحافظ على مصالح صاحب العمل كأنّه هو.!.وينبري مدافعا على زملائه بضراوة إذا أحسّ تطاولا من العرف.
كنت أراقبه وهو يعمل ..كان متوسّط القامة بلون القمح ..عيناه سوداوان في وجه حليق دائما مع شوارب وآبتسامة يواجه بها كلّ النّاس تكشف أسنانا مرصوفة حافظ عليها إلى حين وفاته ..وقد جعل الكدح منه رجلا صلب البنية يواجه أتون النّار الحارقة المندفعة من الموتور الهادر بنار جهنّميّة لاسعة أمام الفرن ..
وكان يتلقّف موسى صغيرة ليرسم بها خطوطا صغيرة مائلة على العجين المختمر بسرعة فائقة ثمّ يمسك المخبز المستطيل الطّويل وقد إصطفّ عليه عجين الخبز ثمّ وبحركة رشيقة وسريعة يدلفها وسط الفرن الكبير ليصطفّ العجين في خطوط مرصوفة متوازية..ليعيد الكرّة مرّات حتّي يمتلئ الفرن فيغلق منافذه ويأخذ نفسا طويلا ورشفة صغيرة من كأس القهوة الّذي يبقى دائما بجانب الفرن …
ثمّ يتوجّه مباشرة لمساعدة رفاقه أمام لوح العجين السّميك الطّويل والأملس في حركات سريعة وخبيرة يرشّ قبضة فارينة على اللّوح ويمسك بكلّ يد قطعة من العجين بعد أن مرّت على أصابع عامل الميزان ثمّ يحكم تدويرها وعجنها ليصنع منها كويرات متقايسة يلقفها الواقف على آلة السّيلندر ليقع بسط العجين أقراصا (جرادق) أو لفائف طويلة (بلانكيت)..تذهب مباشرة ءالى “البلانجا” ثم ّإلى الخمّارة وهي مكان مغلق يتخمّر فيه العجين زمنا …ثمّ يترك الجماعة ويجري نحو الفرن وينادي مساعده وهو في العادة أصغر وآخر وافد في الجماعة ليفتح منافذ الفرن ويطلّ على الخبز وقد نضج وآستوى وفاحت رائحته الشّهيّة ويبدا المساعد في ترصيفه في محمل خشبيّ …
وتنتهي رحلة “فرناطة “..لتبدأ رحلة “فرناطة “أخرى !!كما دورة الحياة …وهكذا دواليك ..تلك رحلة رجل أمام الفرن ..!!!
رؤوف هدّاوي