مقالات

 

كتب رياض الفرطوسي

الديمقراطية تبدو في ظاهرها نظاماً بديهياً وغايةً مثالية لكل مجتمع يسعى إلى الحرية والعدالة، ولكنها ليست وصفة سحرية يمكن استنساخها كيفما اتفق. هي في جوهرها نظام رفيع المستوى أنتجته مجتمعات متقدمة عبر مسار طويل من التراكم التاريخي والتجارب القاسية وإعادة صياغة القيم والمعايير بما ينسجم مع طبيعة المجتمع وبنيته الحضارية. لهذا، فإن استنساخها في مجتمعات لم تتهيأ لها الأرضية اللازمة قد يتحول إلى أداة للانهيار بدل أن يكون مدخلًا للبناء.

 

خذ العراق مثالًا حياً على ذلك. قبل الغزو الأميركي، كان كثيرون يرون في الديمقراطية الحل العاجل لكل أزمات البلد، وكان الحلم بأن صناديق الاقتراع ستفتح الأفق أمام دولة جديدة قوامها المساواة والحرية والعدالة. لكن ما حدث أن الصناديق جاءت، والانتخابات أقيمت، والعملية السياسية انطلقت، إلا أن النتيجة لم تكن دولة مواطنة، بل تكريسًا للطائفية والمحاصصة، حتى صار المجتمع يدور في حلقة مفرغة لم يجد منها مخرجاً إلى اليوم. لقد أثبتت التجربة العراقية أن الديمقراطية، إذا لم تكن مسبوقة بوعي حديث وقاعدة علمية وتعليمية صلبة، تتحول إلى آلية لإعادة إنتاج التخلف في صورة جديدة. ولهذا فإن السؤال الجوهري الذي ينبغي أن نطرحه هو: هل تكفي الديمقراطية وحدها لإنقاذ مجتمع غارق في الانقسامات والتأخر البنيوي، أم أن المطلوب قبل ذلك هو تأسيس قاعدة معرفية وعلمية قوية تتيح للمجتمع أن يمارس السياسة بمعايير حضارية؟

 

الجواب يقودنا إلى مفهوم أوسع من الديمقراطية وأعمق من السياسة التقليدية، وهو ما يمكن أن نسميه “أخلاق الحضارة”. كثيراً ما نتعامل مع الأخلاق بوصفها معايير فردية أو اجتماعية تتعلق بما نراه خيراً أو شراً، مقبولًا أو مرفوضاً، لكن الأخلاق في معناها الحضاري شيء مختلف تماماً. إنها الميزان الذي يضبط العلاقة بين المادة والروح في مسار التاريخ، والآلية التي تمنح الحضارة توازنها الداخلي. فالمجتمعات القديمة كانت لها أخلاق حضارية تختلف جذرياً عما كان سائداً في العصور الوسطى، وهذه الأخيرة بدورها تختلف عن الأخلاق التي تتبناها المجتمعات الحديثة اليوم.

 

من هذا المنطلق نفهم أن ما نعدّه نحن لا أخلاقياً في مجتمعاتنا قد يكون جزءاً من منظومة أخلاقية راسخة في الغرب. المثلية الجنسية مثلًا، التي يراها الكثيرون في عالمنا العربي والإسلامي خروجاً عن الأخلاق، تحولت في الغرب إلى قيمة من قيم الحرية الفردية، بل أصبحت جزءاً من ما يعتبرونه منظومة أخلاقية جديدة. هذا لا يعني بالضرورة أن نقبل أو نرفض، وإنما يكشف أن الأخلاق الحضارية نسبية وليست ثابتة، وأنها تعبير عن توازنات اجتماعية وثقافية داخل مجتمع محدد في لحظة تاريخية معينة. وهنا تبدأ المشكلة عندما نحاول استيراد هذه النماذج من دون أن نمر بالمقدمات نفسها التي صنعتها.

 

لقد مرت مجتمعاتنا منذ سقوط الدولة العثمانية بمرحلة انتقالية صعبة. لم تتوفر لنا الفرصة للتنفس الطبيعي في مسار التحديث كما حدث في دول أخرى. بدل أن يقود المتخصصون في الاقتصاد والعلوم والاجتماع مسيرة التقدم، وُضعوا دوماً تحت سقف السياسة. كان الزعيم الانقلابي أو الحاكم الفرد هو الذي يقرر مصير الجميع، فيما بقيت النخب العلمية والفكرية إما مهمشة أو مقموعة. وهكذا أُعيد إنتاج السلطة بأشكال مختلفة، لكن الجوهر ظل واحداً: غياب المشروع الحضاري الحقيقي القائم على العلم والمعرفة.

 

الأحزاب الأيديولوجية التي نشأت في القرن العشرين لم تكن بديلًا صحياً عن الدولة الفردية، لأنها أعادت إنتاج نفس المنطق القمعي ولكن بلغة شعاراتية، وحولت السياسة إلى صراع على السلطة بدل أن تكون أداة لتوجيه المجتمع نحو التطور. في ظل هذه الظروف، صارت الديمقراطية شعاراً فارغاً، لأن القاعدة العلمية ضعيفة، والبنية التعليمية متخلفة، والدولة نفسها لم تتحول إلى مشروع حضاري بقدر ما ظلت أداة للسيطرة وتوزيع النفوذ.

 

من هنا يبدو واضحاً أن الحل لا يكمن في الاستعجال الديمقراطي، ولا في استيراد التجارب الغربية بحذافيرها، بل في بناء دولة قوية ذات قيادة علمية تمتلك نخبة قادرة على التخطيط بعيد المدى، وتضع برامج واضحة للتنمية والنهضة، بحيث تصبح السياسة مجرد وسيلة داخل مشروع حضاري أشمل، لا غاية بحد ذاتها. السياسة في هذه الحالة تتحول إلى إدارة للعلاقات المجتمعية ضمن إطار مشروع معرفي وثقافي كبير، لا إلى غاية نهائية تستنزف الطاقات وتعيد إنتاج الانقسامات.

 

وإذا وسعنا دائرة النظر، سنجد أن هذه الإشكالية لا تتعلق بالديمقراطية وحدها، بل بكل ما نستورده من منجزات الحضارة الحديثة من دون إدراك لشروطها. الذكاء الاصطناعي مثلًا، الذي يتقدم اليوم بسرعة مذهلة، يُقدَّم للعالم بوصفه مشروعاً علمياً محايداً يمكن أن يسهم في إسعاد البشر وتسهيل حياتهم. لكن الحقيقة أن الذكاء الاصطناعي ليس مشروعاً علمياً بحتاً، بل مشروع هيمنة بيد القوى الكبرى القادرة على التحكم به. إنه أداة في يد الأقوياء لتعزيز سيطرتهم على العالم، وإذا دخل إلى مجتمعات غير مهيأة معرفياً ومؤسساتياً، فإنه سيضاعف هشاشتها بدل أن ينهض بها. هذه التكنولوجيا لا تأتي وحدها، بل تحمل معها بنى تحتية معرفية وثقافية وقانونية معقدة، وإذا استوردناها بلا وعي تحولت إلى سلاح ضدنا.

 

لهذا فإن المطلوب دائماً هو التريث والفهم العميق قبل تبني أي موجة جديدة من “موضات الحضارة”. ليس المقصود هنا أن نغلق الأبواب أمام العلم أو أن نعيش في عزلة، بل أن نعيد ترتيب أولوياتنا، فنركز أولًا على بناء قاعدة علمية وتعليمية صلبة تجعلنا قادرين على استيعاب هذه الموجات الحضارية وإعادة توظيفها بما يخدم مشروعنا الخاص، بدل أن نكون مجرد مستهلكين لها.

 

إذا نظرنا إلى تجارب بعض الدول التي سبقتنا في التحديث، مثل اليابان أو كوريا الجنوبية، نجد أن سر نجاحها لم يكن في استيراد الديمقراطية أو الحريات الغربية، بل في التركيز على العلم والتعليم والتكنولوجيا، وفي بناء دولة قوية ذات مشروع وطني واضح. الديمقراطية جاءت لاحقاً كنتيجة طبيعية لمسار التقدم، لا كشرط مسبق له. وقد تكون هذه هي القاعدة الذهبية: الديمقراطية الحقيقية لا تُفرض من الخارج ولا تُستنسخ جاهزة، بل تنبثق من داخل المجتمع عندما يصل إلى مستوى من النضج العلمي والحضاري يسمح له بممارستها بصورة صحيحة.

 

الدرس الأكبر الذي ينبغي أن نستوعبه هو أن العلم هو الأساس، لا الشعارات السياسية ولا تقليد الغرب في ديمقراطيته أو حرياته الخاصة. المجتمع بلا جامعات قوية، بلا مؤسسات علمية في مصاف العالمية، سيظل هشاً أمام أي نظام سياسي مهما بدا متطوراً. ومن المعيب أن ننظر إلى قوائم الجامعات العالمية فلا نجد جامعة عربية واحدة في مصاف المراتب العليا، فيما نغرق في جدالات سياسية عقيمة حول الديمقراطية والحريات.

 

المجتمع لن يتعافى إلا عندما تأتي سلطة ذات طبيعة علمية، تقود بخطط واضحة وبرامج تنموية حقيقية، وتجعل السياسة مجرد أداة ضمن مشروع حضاري أكبر. عندها فقط يمكن أن تكون الديمقراطية نتيجة طبيعية لمسار التقدم، لا وصفة مدمّرة لمجتمع غير مهيأ. المطلوب إذن ليس رفض الديمقراطية، بل إدراك أنها مرحلة متقدمة تأتي في وقتها المناسب، بعد أن يكون المجتمع قد تجاوز تخلفه وبنى مؤسساته العلمية والتقنية والتربوية.

 

نحن أمام خيار تاريخي: إما أن نواصل الدوران في الحلقة المفرغة نفسها من شعارات سياسية فارغة وصراعات سلطوية عبثية، أو أن نعيد توجيه البوصلة نحو العلم والعمل والإنتاج، ونؤسس مشروعاً حضارياً جديداً يجعلنا قادرين على اللحاق بركب الأمم. الديمقراطية حينها ستكون نتيجة وليست بداية، أداة للبناء لا وسيلة للهدم. والأخلاق الحضارية ستعيد التوازن بين المادي والمعنوي، فتمنح مجتمعاتنا القدرة على الانفتاح من دون انهيار، وعلى التقدم من دون فقدان الهوية.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى