مقالات
هيرتزل بين الأسطورة والحقيقة: لماذا فلسطين ليست حقًا لليهود؟

بقلم هشام محمد
عندما نسمع اسم تيودور هيرتزل، يتبادر إلى أذهاننا فورًا صورة الرجل الذي أطلق شرارة المشروع الصهيوني، ووضع الأساس لقيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين. لكن ما لا يعرفه كثيرون أنّ قصة هيرتزل لم تبدأ من قاعات السياسة، ولا من أروقة الدين اليهودي، بل من حياة صحفي وأديب لم يكن يعرف العبرية ولا يفتح التوراة، قبل أن تدفعه موجة معاداة السامية إلى تبني فكرة أن الحل يكمن في إيجاد وطن آمن لليهود. فهل كان الرجل على حق؟ وهل حقًا كانت فلسطين هي “الخيار الإلهي” الوحيد؟
تخيّل معي لو أنّ شخصًا مسلمًا، معادٍ للصهيونية، وقف فجأة ليقول لك إن تيودور هيرتزل، الأب الروحي للفكر الصهيوني، كان على حق حين دعا إلى إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين!
قبل أن نغضب من هذا الشخص أو نهاجمه، دعونا نتوقف قليلًا لفهم وجهة نظره، والأهم أن نتعرف على هيرتزل نفسه وظروف نشأة فكرته.
وُلد هيرتزل في المجر عام 1860، وحصل على دكتوراه في الحقوق. بعد تخرجه هاجر مع عائلته إلى فيينا، وعمل بالمحاماة لفترة قصيرة قبل أن يترك المجال ويتجه إلى الأدب والصحافة، فكتب روايات ومسرحيات خفيفة، ثم التحق بالعمل الصحفي في إحدى الصحف النمساوية الشهيرة. إلى هنا، لا شيء يشير إلى أن الرجل كان يحمل أي اهتمام بفكرة الصهيونية. بل تخيل أنه لم يكن يعرف العبرية، ولم يكن متدينًا، ولا كان يفتح التوراة أصلًا!
فما الذي حدث ليحوّل هذا الحقوقي والصحفي الرومانسي إلى “زعيم” ملهم لليهود؟
هيرتزل دخل الساحة الصهيونية عام 1895، وكان عمره حينها 35 عامًا، ولم يعش بعدها سوى تسع سنوات فقط قبل وفاته في سن الرابعة والأربعين. ما قلب حياته رأسًا على عقب كان كتابًا للكاتب الألماني أوجين دورينغ، تناول فيه معاداة السامية واقترح حلًّا “جذريًا” للتخلص من اليهود: إمّا طردهم أو إجبارهم على اعتناق المسيحية.
تأثر هيرتزل بالفكرة وبدأ يقرأ عن جذور معاداة السامية، محاولًا فهم سر اضطهاد اليهود في أوروبا. في تلك الفترة كانت روسيا تشهد حملات تهجير واضطهاد قاسية لليهود بعد اغتيال القيصر الروسي عام 1881، رغم أنّ المجموعة التي نفذت عملية الاغتيال لم تضم أي يهودي. تخيّل أنّ فترة تجنيد الشاب اليهودي في الجيش الروسي كانت تصل إلى 25 عامًا، إضافة إلى الضرائب الباهظة والعنصرية الممنهجة ضد اليهود.
لاحقًا، كُلّف هيرتزل بمهمة صحفية في باريس لتغطية قضية “دريفوس” الشهيرة، وهو ضابط يهودي اتهم بالخيانة وتسريب أسرار عسكرية لألمانيا. ورغم تبرئة دريفوس لاحقًا، إلا أنّ هيرتزل سمع لأول مرة هتافات الفرنسيين: “الموت لليهود!” في بلد يزعم الحياد والعدالة. هذه التجربة أقنعته أنّ اضطهاد اليهود ليس استثناءً، بل ظاهرة عالمية.
من هنا بدأ هيرتزل يفكر بحل عملي، وانطلق في نشاط سياسي محموم: حاول مقابلة السلطان العثماني مستعينًا بأثرياء اليهود لسداد ديون الدولة العثمانية مقابل السماح لهم بالهجرة إلى فلسطين، وحضر اجتماعات مع قيصر ألمانيا، ثم سافر إلى لندن لمقابلة عائلة روتشيلد اليهودية الشهيرة.
لكن المفارقة أنّ هيرتزل نفسه لم يكن مقتنعًا أن فلسطين وحدها هي الخيار! في كتابه الشهير “دولة اليهود” كتب نصًا:
“لتمنح لنا السيادة على منطقة ما على وجه الأرض، وسنقوم نحن بتدبير ما تبقى بأنفسنا.”
ثم أضاف:
“هناك أماكن كثيرة يمكن لليهود الاستيطان بها كالأرجنتين أو فلسطين، وأنا لا أرجّح واحدة على حساب الأخرى.”
هذا اعتراف خطير يهدم الرواية الصهيونية التي تدّعي أنّ هيرتزل كان يرى فلسطين أرض الميعاد الوحيدة. فهيرتزل كان منفتحًا على أي أرض توفر لليهود الأمن والسيادة، حتى أن بريطانيا عرضت عليهم في 1903 توطينهم في سيناء (العريش تحديدًا)، لكن المشروع فشل لصعوبة توفير المياه.
التحول الأخطر في فكر هيرتزل جاء بعد لقائه بالقس الألماني ويليام هيخلر، الذي أقنعه بربط مشروعه السياسي بالتوراة ونبوءات “عودة اليهود إلى أرض الميعاد”، ولقّبه بـ”موسى العصر”. هنا وقع هيرتزل في فخّ الخلط بين الدين والسياسة، فأضفى بُعدًا دينيًا على مشروع كان يمكن أن يكون مجرد حل سياسي لمشكلة الاضطهاد الأوروبي لليهود.
الحقيقة أنّ الخطأ الذي وقع فيه هيرتزل هو نفسه الذي نقع فيه أحيانًا نحن المسلمين: ترك السياسة بلا عمق ديني أو قراءة واعية، أو العكس، ممارسة الدين دون إدراك أبعاد السياسة. الإسلام لا يفصل بين الدين والسياسة، والنبي ﷺ كان سياسيًا وعسكريًا من الطراز الأول، لكنه كان واعيًا بخطورة الخلط غير المنضبط بين المبدأ والغاية.
وفي النهاية، يجب أن نتعلم – نحن وأولادنا وأحفادنا – أنّ فلسطين عربية، وأن إسرائيل ليست إلا وهمًا زرعه الاستعمار في عقول الجهلاء. مشروع هيرتزل نفسه لم يكن يرى فلسطين قدرًا مقدسًا، بل مجرد خيار من بين خيارات عدة.
قصة هيرتزل تكشف لنا أن المشروع الصهيوني لم يولد من قدسية الدين بقدر ما ولد من رحم السياسة الأوروبية وموجات الاضطهاد. فلسطين لم تكن قدرًا محتومًا في فكر هيرتزل، بل مجرد خيار بين خيارات أخرى مثل الأرجنتين أو أوغندا أو سيناء. لذلك، واجبنا أن نعلّم أبناءنا أنّ فلسطين عربية، وأن إسرائيل كيان مصطنع لا وجود له إلا في أذهان من صدقوا الأكذوبة. الصراع ليس صراع أديان، بل صراع وعي وإرادة، ومن يقرأ التاريخ جيدًا يدرك أنّ الحق معنا وأن الأرض لنا.