نحو نهضة مصرفية عراقية

كتب رياض الفرطوسي
في قلب العاصمة البريطانية، وعلى منصة مؤتمر مجلس الأعمال العراقي البريطاني، أعلنت الحكومة العراقية انطلاقة عراقية غير مسبوقة: إعادة هيكلة شاملة لقطاع المصارف، يقودها فريق من الخبراء الماليين العالميين، يتقدمهم عمالقة بيوت الاستشارات المالية مثل “إرنست ويونغ” و”KPMG” و”Oliver Wyman”. لم يكن هذا الحدث مجرّد مراسم تقليدية أو مجاملة دبلوماسية، بل لحظة فاصلة، انتقال من الاقتصاد الورقي إلى مشروع سيادي يحمل رؤية نهضوية حقيقية للقطاع المصرفي، تبدأ من شوارع بغداد وتُعلن نفسها بفخر من شرفات لندن.
بهذا الإعلان، يدخل العراق مرحلة جديدة من الإصلاحات الهيكلية التي تجاوزت الشعارات وأقدمت على التعامل مع أعمق حلقات التخلف الاقتصادي، ألا وهو النظام المصرفي، الذي طالما ظل متحجراً عند أبواب البيروقراطية، غير مستجيب لمتغيرات العصر، ولا مؤهل للتفاعل مع متطلبات الاقتصاد العالمي. لم يعد ممكناً الاستمرار في إدارة المال العام بأدوات الخمسينيات، ولا أن تتعامل الدولة مع القطاع الخاص من خلال نوافذ مغلقة على الأوهام والتقارير الباهتة. ما حدث اليوم هو بدء مشروع تفكيك هذا الجمود، وإعادة بناء الثقة من جديد بين المواطن والدولة، بين المؤسسات والأسواق، بين الداخل والخارج.
العراق، الذي ظل لعقود يعاني من الحصار، والعزلة، وتجميد الأصول، والتدهور الهيكلي في أجهزته المصرفية، قرر أخيرًا أن يعيد فتح دفتره المالي، وأن يعيد تعريف العلاقة بين المصرف والدولة، بين البنك والمجتمع، بين المال والتنمية. فتم تعيين شركة “إرنست آند يونغ” لإعادة هيكلة ستة من البنوك الحكومية السبعة، من بينها البنك الصناعي، وبنك العقارات، وبنك الرافدين، وبنك الرشيد. هذه الخطوة لا تأتي كتجميل شكلي ولا كاستعراض خارجي، بل كجزء من جهد عميق يستهدف قلب المنظومة المالية، وإعادة ترتيب الدماء في شرايين الاقتصاد الوطني.
وفي خطوة أكثر جرأة، أعلن عن إعادة تأسيس بنك الرافدين، أكبر وأعرق البنوك العراقية، تحت اسم “بنك الرافدين الأول”، مع تقليص حصة الحكومة إلى أقل من 24%، وفتح المجال للبنوك الخاصة والمستثمرين الدوليين لتملك النسبة المتبقية. ليس هذا مجرد تغيير في الاسم أو تقليصًا للملكية فحسب، بل هو تحول جوهري في فلسفة إدارة المال العام، وانتقال تدريجي نحو الشراكة بدلاً من السيطرة، نحو التنافس بدلاً من الاحتكار، نحو الكفاءة بدلاً من الرتابة. ومن المنتظر أن تكتمل خطة إعادة الهيكلة بعد المصادقة عليها حكومياً، بما يفتح أفقًا جديداً أمام تمويل المشاريع، وتحريك عجلة الاقتصاد على أسس جديدة.
ولم يكن بنك التجارة العراقي (TBI) بعيداً عن هذا التحول، فقد استعان بدوره بشركتي “K2i” و”KPMG” لإعادة هيكلة عملياته، داخل العراق وخارجه، وجعلها متماشية مع المعايير العالمية في الامتثال، والمخاطر، والتقارير المالية، والحوكمة. إن هذا المسار، رغم صعوبته، يشكل عمق الإصلاح، لأنه لا يكتفي بمعالجة السطح، بل يذهب إلى داخل المؤسسات، فيفتش في بنيتها، في ثقافتها الإدارية، في فلسفة عملها، في علاقتها بالعميل، وفي قدرتها على المنافسة داخل سوق مصرفي عالمي لا يرحم ولا ينتظر أحداً.
أما القطاع المصرفي الخاص، فقد خضع هو الآخر إلى اختبار الإصلاح، بعد توقيع عقد بين البنك المركزي العراقي وشركة “أوليفر وايمان”، يمتد لسنتين أو ثلاث، ويهدف إلى تقييم واقع البنوك الخاصة وتقديم التوصيات الحاسمة بشأنها: إما الاندماج، أو الامتثال، أو الخروج من السوق. لا مجال بعد اليوم لبنوك شكلية، ترفع لافتة وتمارس أعمالًا لا علاقة لها بالمصرف الحديث، أو تلك التي وُلدت في ظل المحاصصة وأهملت مسؤوليتها في تنمية الاقتصاد أو خدمة المواطن. النظام المصرفي العراقي مقبل على غربلة حقيقية، تضع معيار الكفاءة في المقدمة، وتستبعد كل من لم يعد قادراً على مواكبة التحولات الكبرى.
وما يزيد من زخم هذه النقلة النوعية، هو التقدم الواضح في تبنّي أنظمة الدفع الإلكتروني، إذ ارتفعت نسبة الشمول المالي من أقل من 10% قبل أعوام قليلة إلى قرابة 40%، بينما تضاعف عدد الحسابات المصرفية ليصل إلى نحو 23 مليون حساب، وبلغ عدد بطاقات الخصم والائتمان قرابة 70 ألف بطاقة. هذه الأرقام، رغم أنها لا تزال متواضعة بالقياس إلى طموحات الدول الناهضة، إلا أنها تعبّر عن انتقال حقيقي من ثقافة “الكاش” إلى منطق الاقتصاد الرقمي، ومن “المحاسب اليدوي” إلى المعاملات الذكية التي تحفظ الكرامة وتقلص الفساد وتكشف العبث.
اعتباراً من يونيو 2025، لن تكون هناك مدفوعات نقدية في المؤسسات الحكومية، إذ سيتحوّل النظام المالي العام نحو الدفع الإلكتروني بالكامل. هذا القرار يمثل انقلاباً صامتاً، لكنه عميق الأثر، إذ إنه يعيد رسم العلاقة بين المواطن والدولة، ويفتح باباً كبيراً أمام الشفافية، ويقوّض منظومات الظل التي تغذت طويلًا على الثغرات النقدية. وقد أطلقت الحكومة حملات توعية، لا لتروّج مجرد نظام تقني، بل لتكرّس ثقافة جديدة، ترى في المعاملة المصرفية جزءاً من كرامة الفرد، وأداة من أدوات العدالة الاجتماعية، والحوكمة الرشيدة.
وفي موازاة هذه التحولات، جاء إطلاق برنامج “ريادة”، بالشراكة مع البنك المركزي، لتوفير التدريب والتمويل للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، كجسر آخر نحو اقتصاد أكثر مرونة وابتكاراً. يتيح البرنامج لمن يسجل فيه منصة تجمع بين التمكين المعرفي والدعم المالي، بما يجعل من فكرة “ريادة الأعمال” ثقافة لا حكرًا على النخبة، بل متاحة لكل من يمتلك حلماً ورؤية وخطة.
كل هذه الإصلاحات لا تعني فقط تحسين صورة العراق أمام المؤسسات الدولية أو كسب ثقة المستثمرين، بل تعني، قبل ذلك وبعده، ترسيخ قناعة داخلية بأن الدولة قادرة على التغيير، وأن الفوضى ليست قدراً، وأن التاريخ لا يُكتب فقط بالحروب والخراب، بل أيضاً ببناء المؤسسات القادرة على أن تعيد دورة الحياة إلى جسد الوطن. فالعراق، الذي عاد إلى النظام المالي العالمي من بوابة منصة البنك المركزي بالتعاون مع الاحتياطي الفيدرالي الأميركي منذ أواخر 2022، بات يتعامل اليوم مع نحو 30 بنكاً أجنبياً، رغم استمرار بعض التحديات في فتح علاقات مصرفية دولية مستقرة.
الطريق ليس مفروشاً بالورد، فالإصلاح الحقيقي مؤلم، ويصطدم بعقبات فنية وإدارية، وربما بممانعة من شبكات المصالح التي اعتادت على السباحة في المياه العكرة. لكن ما يبعث على الأمل أن هذه المرة لا يشبه الإصلاح فيها الوعود السابقة. هنالك خطوات ملموسة، هنالك إرادة سياسية، وهنالك شركاء دوليون لديهم من الكفاءة والنزاهة ما يكفي لجر العربة الثقيلة نحو المستقبل.
لقد كان البنك، في المخيال العراقي لعقود، مجرد طابور ورقي، ومعاملة بطيئة، وسلفة غامضة، وتوقيع معطل، وشباك مكسور. أما اليوم، فهو مشروع نهضة، مركز لتدوير الاقتصاد، منصة لخلق الوظائف، وعصب لدولة تريد أن تستعيد اسمها ومكانتها بين الأمم. وإذا كانت الدول تُقاس اليوم بقوة مؤسساتها المالية، فإن العراق يعلن من جديد، ومن بوابة مصارفه، أنه قادم على طريق الدولة الحديثة.
هذه ليست مجرد إصلاحات مصرفية، بل ملامح نهضة وطنية، تُكتب بلغة المال ولكن تنشد مستقبلًا أوسع: حيث لا اقتصاد بلا عدالة، ولا عدالة بلا مؤسسات، ولا مؤسسات بلا ثقة. إن العراق حين يعيد هيكلة بنوكه، فهو لا يعيد ترتيب الجدران فقط، بل يعيد بناء العمق، كي يتحول من اقتصاد الدولة الريعية إلى اقتصاد الفرص والتنمية والمساءلة.