
*بقلم: ناجي علي أمهز*
من حقّ قداسة البابا “لاون الرابع عشر” أن يغتبط.
من حقّه أن يذرف دمعةً دافئة، تلامس تراب لبنان بخشوع، وأن ينحني بمهابةِ العارفين أمام مذبح مار شربل؛ تلك الركعة التي تختزل الشكر والعرفان لقديسٍ سيّج الوجود المسيحي بلحظة الحقيقة العارية.
من حقّه أن يرى أبناءه — الموارنة خاصة والمسيحيين عامة — يتحلّقون حوله في كسروان، كما تتحلّق الكواكب حول مركز النور حين يُسدل المساء ستائره. دموعٌ تشعّ كاللؤلؤ، وتراتيلُ تعانق السماء، ووجوهٌ تماهت مع السيد المسيح في نقائها، متجاوزةً ملامح هذا الشرق الغارق في أوجاعه.
ليس حسداً ما يعتريني… حاشا.
إنه ذاك الشعور الذي يلامس “الغبطة الوجودية” حين ترى جماعةً تدرك كينونتها: تعرف من أيّ رحمٍ تاريخيٍ وُلدت، وإلى أيّ أفقٍ حضاريٍ ومستقبل مشرق تمضي. شعبٌ يُهندس الفرح كما يُهندس طقوس الصلاة، ويُجيد الوقوف أمام مرآة العالم بكرامةٍ مشذّبة، ومنطقٍ عصيّ على التآكل.
حضور البابا في جبيل وعنايا لم يكن زيارةً عابرة، بل استعادةً لسردية المسيحية المشرقية في مشهديةٍ واحدة: رجلٌ يبتسم والدمع في عينيه، يُبارك أرضاً حمت الإيمان بالحرف، وصانت الحرف بالإيمان. في تلك البرهة، تجلّى لبنان كما نشتهيه: وطناً يمنح زائريه ما تعجز المعاهد عن تلقينه… صلابةً نحتتها التجارب على صخور الذاكرة، لترسم ملامح المستقبل إلى أبد الآبدين.
ومن هنا… من حقّي، أنا الشيعي، أن أبكي.
أن أصرخ في دهاليز روحي دون أن أخدش مسامع الآخرين.
أن أراقب بأسى كيف تحوّلت تضحياتنا نحن الشيعة إلى “قدرٍ مؤلم” يلاحقنا منذ واقعة الطفّ، وكأننا ما زلنا نتحلّق حول جسد الإمام الحسين (ع) نبكيه بحرقة لا تنتهي، متناسين أن الإمام الحسين استشهد ليحررنا، تماماً كما فدى المسيح أتباعه ليكملوا طريقهم نحو كمال الإنسان.
من حقي البكاء بصمتٍ حتى تكاد نواجذي تتحطّم من شدّة العضّ عليها، وأنا أرى شيعة الجنوب دون سقف او من يحمي ابنائهم من الطائرات الحربية والمسيرات الإسرائيلية، وعلى الحدود السورية من يبطن العداء لنا وربما بيننا انغماسيين وتكفيريين، وفي الكواليس السياسية مسدسٌ أمريكي ودوليٌ مصوّبٌ نحو الصدغ، وفي الداخل شروخٌ وخلافاتٌ هشّمت ما عجزت الحرب الأهلية عن تهشيمه.
والموجع أكثر، أن “الغالبية الشيعية” ترفض دوري لاجل التقارب، وتريدني صدىً؛ فإن لم أكن بوقاً يضجّ بلا حكمة وادمر كل ما يبنيه الشيعة كما حصل بالامس بعد ان دمر البعض لحظة عيش “بسكتش اعلامي مقزز منفر، اظهر الشيعة انهم متغولون، بينما كان البابا يستمع الى فتاة مسيحية تتحدث كيف احتضنت اخوتها المسلمين.
“ان لم اصرخ واعبس واعيط واركب نظريات”، فلا مكان لي في صفوفهم الأمامية ولا على منابرهم الإعلامية. يريدونني أن أمتطي صهوة نظرياتٍ بائدة:
أن أكون قومياً عربياً، أشجب وأندد كالببغاء ليلا نهارا، مردداً شعاراتٍ لم تُغيّر حرفاً في متن الواقع السياسي المتردي.
يريدونني بعثياً، متناسين أنه حين اشتعلت النار في الهشيم السوري، لم يجدوا بعثياً سوريا واحداً يخاطب السوريين، فاستعاروا من لبنان “تجار الكلام” وإعلاميي الفراغ، فسقط الفكر، وسقطت سوريا والبعث، وسقطت معها الأقليات في المجهول.
يريدونني أن أرجم؟
أأرجم “القوات اللبنانية” التي تدعوني عاماً تلو عام إلى قداس شهدائها ومناسباتها بقلبٍ مفتوح، بلا عقدِ نقصٍ أو استعلاء؟
أم “الكتائب” الذين يحاورونني في نصوصي كما يحاور اللاهوتي نصاً مقدساً، بأدبٍ جمّ وعقلٍ بارد؟ ام بقية التيارات المسيحية.
أم أرجم الكنيسة؟ تلك الأم الرؤوم التي علّمتني أبجديات الحياة، ولم تتردد يوماً في قول كلمة حقٍ تُنصفني أمام كبار طائفتي؟
أم أولئك المسيحيين الذين حين قُصفت “المعيصرة”، لم يخرج منهم من يتاجر بالدم أو يزايد في سوق السياسة على حساب العيش المشترك؟
كيف أهاجم جماعةً لم تتنكر لإنسانيتنا حين ضاقت بنا الأرض بسبب العدوان الاسرائيلي؟
لقد شرّعوا بيوتهم وقلوبهم، وتقاسموا معنا رغيف الخوف كما يتقاسم الأهل القربان.
حتى حين حَمِيَ وطيس الانتخابات البلدية، بقيت كسروان وجبيل واحةً خارج جحيم المزايدات، احتراماً لعيشٍ صاغه الناس. واليوم، لا يتدخل المسيحيون همزاً أو لمزاً في خيارات الشيعة النيابية، تاركين لهم حرية الاختيار، حتى أن أحداً لم يميّز بين نائب جبيل عن “حزب الله” وبين النواب المسيحيين بكلمةِ او مناسبة او اعتراضٍ.
هذا هو جوهر “العقل المسيحي”:
عقلٌ لا يزنُ الناس بميزان الديموغرافيا، بل بميزان “مسؤولية الوجود،”.
لا يقولون: “الشيعة اقلية في جبيل، لنحاصرهم”.
بل لسان حالهم يقول: “هم المئة، فلنحتضنهم كي نكتمل ونبقى جميعاً مئة بالمئة”.
لأنهم يدركون أن التاريخ ذاكرة لا تشيخ، وأن مشهدية الفاتيكان المقدسة هي برهانٌ ساطع على أن الكنيسة ترعى بأشفار عيونها كل من يحيط بفيئها. لذا، يرى المسيحي اليوم في شيعة جبيل تكامل تعكس الحكمة والاحترام، اللذين هما جوهر الهوية المسيحية قبل الطقوس.
بالختام
لنتنافس من أجل لبنان، لا عليه.
ليس المطلوب من المسيحيين أن يُخفّفوا من بريقهم أو تألقهم، بل المطلوب منا أن نلمّع مرآتنا لنتألق.
ليس المطلوب أن يعتذروا عن نظامهم وترتيبهم، بل أن نعيد نحن ترتيب فوضانا.
ليس المطلوب أن يكون حالهم كحالنا، بل أن نغير حالنا لأننا نستحق كل خير.
إنّ قوة الشيعة في لبنان — إن أدركوا جوهرها — هي ذخرٌ لكل شيعة العالم،
كما أن قوة مسيحيي لبنان كانت وستبقى الحصن لكل مسيحيي المشرق.
فلنربح التعايش، قبل أن نخسر تعايش الوطن.










