مقالات
“عُشّاق بعد السِتّين”

بقلم الكاتب الإماراتي أحمد إبراهيم
(روز اليوسف ) كلمتان على الشّفاه يوماً بصوت طفلٍ في السادس من عمره متجوّلا في حارته القديمة على درّاجة هوائية ذهابا إيابا على عجوزٍ عراقي كان يفترش رصيف الخور (دبي القديمة-الشندغة) بصُحف ومجلاّت للبيع، وكنا نسمّيه (العمّو بو جرايد).
والعمّو البيّاع السبعيني العراقي كان مرِحاً خلوقا لايزعل من الأطفال المتصفّحين لمعلّقات كشكه من المطبوعات، وهو يعلم أنهم لن يشتروها .. بل كان يبتسم في وجوهنا ابتسامة بشوشة بنظراتٍ تقول ما تقول لكل منا (ألعب بابني ألعب، أعرفك أنك لا تحمل ثمن ما تتلاعب به من الأوراق، مهما كان زهيدا ثمنه ومغريا غلافه..)! وبين المتطفّلين على كشك العجوز والمتصفّحين لتلك المعلّقات والمصفّفات، كنت أنا(بوسيكل) راكب الدرّاجة الهوائية المتسلّل خِلسةً لقراءة العناوين بالمجّان، ولازلت أتذكر ما نطقت يوم ذاك بصوتَ طفلٍ جهوري استعراضي .
واليوم وبعد55 عاما، وجدت نفسي منكبّا مرّةً أخرى على كلمتي”روز ليوسف”، خاصة وبعدما علمت أن قبل شهر من اليوم بالذات 10 ابريل، كان يوم وفاة (فاطمة اليوسف) في 10 إبريل 1958. ولكنّي وفي التاسعة من عمري، أي قبل 51 سنة من الآن، كنت قد وقفت من جديد على نفس الطلسم لأفكّك رموزهما “روز اليوسف” بعد أن علمت أنّ كلمة “روز” ترجمتها “الورد” ثم اقتبست من أسم (يوسف) قصّةَ جمالَ يوسفَ وعاشقته زليخه مُرحَّلاً إيّاه من قصور عزيز مصر إلى أسوار سجون بضع سنين بكيدهن العظيم.!
وعاشق اليوم، وتجدون الكثير عنه بجوجل سيرج عن أسمه (الكاتب الإماراتي أحمد إبراهيم) هو رجل أعمال (إماراتيٌّ) بالوراثة، وعاشق القرطاس والقلم (مصريٌّ) بالهواية، وممّا قيل فيه أنه (إماراتيُّ الهوية ومصريُّ الهوى.!). وبفارق بسيط أنه لم يعد اليوم بحاجة الى تلك الدراجة الهوائية ليقرأ عناوين الصحف والمجلات على الأرصفة بالمجّان .. بل كلما خرج من بيته وجد أمامه 12 سيارة من أحدث الموديلات لأبنائه وبناته وهم دكاترة ومهندسون ليقود من تلك السيارات ما يقودها بنفسه او يقود عنه السوقين والأبناء.!
والبيت القصيد هنا ليس في رفاهية عدد السيارات واستعراضها، وإنما أنّ هذا الرجل وهو يقود سيارته هناك في داخله من يوقفه فجأة دون إنذار وسط أى شارعٍ مزدحم، أوفي نفق مظلم، او حتى على قمّة جسر شاهق، لا لشيء إلا لأن فكرةً ساخنةً راودته ويراها تستحق النشر فيتوقفا القدمان وتتحرك الأنامل.
ولست مبالغا إذا قلت أني قد الغي أي مشوار يقودني إلى التوقيع على عقود بالملايين، باستبدالها على الخروج من السيارة والجلوس على الرصيف المغبّر تحت شجرة، وبين أناملي القرطاس والقلم.! ذلك لأني أؤمن أن فكرةً تستحق النشر والتوزيع من(القاهرة) على أبناء عمومتي من الناطقين بلغة الضاد في الوطن الكبير، هي أشبه بناسكٍ في صومعته بالمناجاة، او راهب في كنيسته بالقلادة والناقوس، أو أنّه الفرعون ذاته على العرش بالصولجان، او حتّى لعلّه هو الإمام والخطيب المتنقّل بين المنبر والمحراب..!
والفكرة ذاتها أسرتني الليلة أسيراً بين غرفتين، غرفةُ نومي تسلّلت منها خلسةً عن زوجتي وأطفالي إلى غرفة مجاورة ظلماء إلا بشمعةً أكبس على ضوئها أزرار موقع “روز اليوسف” الرقمي، السنوي، الفصلي، الشهري‘ اليومي .. والآني..! وازداد عشقي غوصاً وسِباحةً على تلك الصفحات، بعد ما اكتشفت انها بقاعات المحاكم بالقضاة والمحامين, وبردّهات الفنادق للحفلات والأعراس, وبالمأذون والمطربين والمطربات للمعرس والعروس.!
فلا أخفي عليكم إني أنا العاشق الستّيني اليوم، أحببتها تلك الصفحات بل وعشقتها، وقررت أن أبقى عليها فيما تبقّى من عمري كاتباً مجرّداً من كل الشهوات، لا يحب ولا يكره، لا يسلّم لا يستسلم، لا يقبل بعض الأديان ويؤمن بكل الأديان، يصدّق أسطورة كورونا ويكذّبه في آنٍ واحد، يعتقد ان الصاروخ الصيني قد ينفجر في الهواء ثم يشكّك اعتقاده باعتقاد أن الكورونا نفسها لعلّه انتقل من الأرض إلى الفضاء في جلباب الصاروخ..!
وأخيرا شاورت نفسي الأمّارة بالسوء، ثم ناديت قلمي المتواضع المطيع المتمرّد (يا قلم..! إذا قُدّر لك المسيرة على تلك الصفحات الذهبية البيضاء *(لبوّابة روز اليوسف)* فعليك مراعاة (الذوق والوقار).