مقالات

صدأ العُزلة

بقلم : قياتى عاشور
دراسة حديثة تكشف أن التفاعل مع الآخرين ليس مجرد رفاهية، بل ضرورة لصحة أدمغتنا.. فكيف نحمي كبارنا من هذا العدو الخفي؟
إنه الصمت الذي يخيم على المنزل بعد رحيل الأبناء والأحفاد، وصوت التلفاز الذي أصبح الصديق الوحيد، ورنين الهاتف الذي لم يعد يأتي. هذا هو المشهد اليومي في حياة الكثير من آبائنا وأمهاتنا، مشهد هادئ في ظاهره، لكنه يخفي في طياته عدواً شَرِساً ينهش في الذاكرة ببطء وثبات، وهو ما يمكن أن نسميه “صدأ العزلة”.
لطالما نظرنا إلى الوحدة كحالة نفسية، كشعور بالحزن يمكن التغلب عليه بكلمات المواساة. لكن العلم اليوم يقرع ناقوس الخطر ليخبرنا أنها أعمق من ذلك بكثير؛ إنها حالة “بيولوجية” تؤثر بشكل مباشر على خلايا الدماغ. فالعقل البشري، تماماً مثل عضلات الجسد، يحتاج إلى تمرين مستمر ليحافظ على لياقته. وتمرين العقل لا يقتصر على حل الكلمات المتقاطعة، بل يكمن في أبسط صور التواصل الإنساني: حوار صباحي مع الجار، نقاش عفوي حول مباراة الأمس، استعادة ذكرى قديمة مع صديق. كل هذه التفاعلات هي شرارات كهربائية تبقي دوائر الدماغ نشطة ومتوهجة.
في مجتمعنا المصري، الذي طالما تغنى بالترابط الأسري و”العزوة”، يبدو الحديث عن عزلة كبار السن أمراً متناقضاً. لكن الحقيقة أن إيقاع الحياة السريع، والمدن المترامية الأطراف التي تباعد بين أفراد الأسرة الواحدة، قد فرضا واقعاً جديداً. لم تعد “لمّة العائلة” حدثاً يومياً، بل أصبحت مناسبة أسبوعية في أفضل الأحوال. وتحولت الزيارات إلى مكالمات فيديو سريعة، لا تحمل دفء اللقاء ولا غنى الحوار المباشر.
وهكذا، يتحول الأب الذي كان مركز العائلة ومصدر الحكمة، أو الأم التي كانت شعلة البيت، إلى مجرد متفرج صامت يراقب الحياة من شرفة منزله. هذا التحول من “الفاعل” إلى “المتفرج” هو بداية التآكل، وبداية الصدأ.
إذن، كيف نخوض هذه المعركة؟
المسؤولية هنا ليست مسؤولية الأبناء وحدهم، بل هي مسؤولية مجتمعية متكاملة تبدأ من داخل كل أسرة وحي.
على المستوى الأسري: يجب أن ندرك أن “الزيارة” ليست واجباً نؤديه على عجل، بل هي “علاج” نقدمه لمن نحب. لا يكفي أن نسأل “كيف حالك؟”، بل يجب أن نخلق حواراً حقيقياً، أن نستمع لقصصهم المكررة بنفس الشغف، ففي هذا التكرار تمرين لذاكرتهم وتقدير لتاريخهم.
على المستوى المجتمعي: هنا يجب أن نبتكر حلولاً تجمع الأجيال. يمكن للمراكز الثقافية والمكتبات العامة أن تشجع كبار السن على أن يكونوا مشاركين فاعلين ينقلون خبراتهم. والأهم من ذلك، يمكننا تبني الاقتراح العملي بإطلاق مبادرات “رفيق السن” في جامعاتنا. وهي برامج تربط بين طلاب علم الاجتماع وعلم النفس والإعلام بكبار السن في مناطقهم، حيث يقضون معهم ساعة أسبوعياً في تسجيل قصصهم وتوثيق ذكرياتهم. بهذا، يستفيد الطالب تدريباً عملياً لا يقدر بثمن، ويشعر كبير السن بقيمته وأهميته، ونكون قد بنينا جسراً حقيقياً بين جيلين يكاد يفقد لغة الحوار المشتركة.
دور المؤسسات الدينية والمجتمعية: يمكن للمساجد والكنائس والجمعيات الأهلية أن تلعب دوراً محورياً يتجاوز الطقوس الدينية، بتنظيم لقاءات دورية وأنشطة اجتماعية وثقافية بسيطة تستهدف كبار السن في محيطها، مما يعيد دمجهم في نسيج المجتمع.
المعركة ضد “صدأ العزلة” هي في جوهرها معركة ضد النسيان؛ ليس فقط نسيان الذكريات، بل نسيان قيمة من بنوا حياتنا. إنها استثمار ذكي في ذاكرة مجتمعنا وحكمته. فكل عقل يشيخ في صمت، هو مكتبة تحترق دون أن يقرأها أحد.
فلنتحرك الآن، بكلمة طيبة، بزيارة قصيرة، أو بفكرة مبتكرة، قبل أن يسرق الصمت أفضل ما فينا.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى