مقالات

سفارتنا وسفاراتهم

بقلم ناصر السلاموني
في عالم العلاقات الدبلوماسية تمثل السفارات عنوان الدولة وهيبتها في الخارج، وهي محمية بموجب القوانين والاتفاقيات الدولية، وعلى رأسها (اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961) التي تنص على: احترام حرمة مقار البعثات الدبلوماسية وعدم التعرض لها بأي شكل. لكن الواقع يكشف أحيانًا عن فجوة واضحة بين ما تتعرض له السفارات المصرية في الخارج وما تقدمه مصر من حماية للسفارات على أرضها.
ولعل الذاكرة لا تنسى أحداث( الرسومات المسيئة) التي استهدفت الإساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وما تبعها من موجات غضب عارمة وتظاهرات أمام السفارات الفرنسية في أنحاء العالم، ورغم ذلك لم تمس تلك المقرات أو موظفوها بسوء، وكذلك الأمر مع السفارات الأمريكية والإسرائيلية وغيرها من بعثات دول تتبنى سياسات عدائية تجاه قضايا العرب. كان المشهد يعكس حسًا وطنيًا راقيًا يتجسد في حماية كل ما هو أجنبي على أرضنا رغم الخلافات السياسية، في حين شهدت الأيام الأخيرة سلسلة من الانتهاكات ضد السفارات المصرية في عدد من العواصم، على خلفية ما يروجه الإخوان المسلمون وبعض المعادين للوطن من ادعاءات بأن مصر سبب معاناة غزة، متجاهلين أن العدو هو إسرائيل، وأن مصر ما زالت تفتح معبر رفح بينما يغلقه الاحتلال من جانبه. وقد شاهد العالم ذلك بوضوح عندما وقف وزير الخارجية المصري مع رئيس الوزراء الفلسطيني أمام المعبر، في مشهد يؤكد أن مصر تقوم بدورها.
ورغم ذلك، تعرضت سفاراتنا لاحتجاجات متكررة وتجمعات عدائية، خاصة من عناصر الجماعة المحظورة في تل أبيب، وصلت إلى محاولة تعطيل العمل القنصلي وإغلاق الأبواب على الموظفين، في انتهاك صارخ لأبسط قواعد العمل الدبلوماسي، وبحماية سلطات الاحتلال. كما امتدت موجة الاحتجاجات إلى عواصم أوروبية مثل لندن وبرلين وأوسلو، وأمام سفارتنا في بيروت حيث اضطرت السلطات اللبنانية لوضع حواجز وأسلاك شائكة، وحتى في هولندا حيث أقدم أحد المحتجين على إغلاق أبواب السفارة بشكل رمزي. الأخطر أن بعض الدول تعاملت مع هذه الممارسات بتساهل أو تواطؤ أدى إلى تجاوزات وإهانات لموظفينا وتعطيل مهامهم. وقد عبّرت وزارة الخارجية المصرية مرارًا عن رفضها لهذه الانتهاكات، وأكدت أن سلامة البعثات الدبلوماسية خط أحمر، محمّلة الدول المضيفة كامل المسؤولية عن أي ضرر، ولوّحت باتخاذ إجراءات دبلوماسية ومعاملة بالمثل إذا لزم الأمر.
وعلى الجانب الآخر، لم تتخلَّ مصر يومًا عن مسؤولياتها تجاه حماية جميع السفارات والبعثات الأجنبية على أراضيها، من القاهرة إلى المحافظات. فقد وضعت الدولة حماية السفارات في مقدمة أولوياتها، بمشاركة قوات الأمن المركزي والشرطة الوطنية. تنتشر الحواجز الأمنية والدوريات أمام المقار الدبلوماسية، خاصة في مناطق مثل جاردن سيتي والمعادي وغيرها، وتُشدد الإجراءات كلما اقتضت الظروف. ولعل أبرز الأمثلة ما حدث في سبتمبر 2011 حين حاولت مجموعات غاضبة اقتحام مقر السفارة الإسرائيلية بالقاهرة، ورغم مشاعر الغضب الشعبي تدخلت قوات الأمن الخاصة لإنقاذ الدبلوماسيين وإجلائهم بسلام، في تأكيد واضح على أن مصر تفصل بين التزاماتها الدولية وأي اعتبارات سياسية أو شعبية.
إن حماية البعثات الأجنبية ليست مجرد التزام قانوني بالنسبة لمصر، بل تعبير عن احترامها للعلاقات الدولية. وفي الوقت نفسه، شددت الخارجية المصرية على أن أي تقصير في حماية بعثاتها بالخارج لن يمر دون رد، وأن كرامة مصر لا تقل عن أي دولة أخرى، وأن المعاملة بالمثل خيار قائم متى تطلب الأمر. لذلك، فإن هذه المفارقة بين سفارتنا وسفاراتهم تستدعي وقفة حقيقية من العواصم التي سمحت بالتجاوزات ضد بعثاتنا، فحق التظاهر لا يعني الاعتداء أو الإهانة، والحماية واجب لا يسقط تحت أي ظرف. وإذا كانت مصر تلتزم بالقانون الدولي وتحترم كل بعثة على أرضها، فمن حقها أن تطالب بالمعاملة نفسها في الخارج وباحترام مكانتها ودورها في دعم قضايا العدل، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى