
بقلم: الدكتور جابر غنيمي
المساعد الأول لوكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد
مدرس جامعي
تشتمل كل محكمة استئناف على دائرة اتهام على الأقلّ. وتتألف دائرة الاتّهام من رئيس دائرة ومن مستشارين وعند التعذر يمكن تعويض الرئيس بمستشار لدى محكمة الاستئناف والمستشارين بحاكمين من المحكمة الابتّدائية. وتجمع دائرة الاتّهام بطلب من الوكيل العام كلما كان الاجتماع لازما.
ويباشر وظائف قلم الإدعاء العمومي بدائرة الاتّهام الوكيل العام أو أحد مساعديه.
ودائرة الاتهام محكمة استئناف لقرارات السيد قاضي التحقيق)المبحث الأول( و سلطة اتهام وتحقيق من درجة ثانية ) المبحث الثاني(
المبحث الأول: دائرة الاتهام محكمة استئناف لقرارات السيد قاضي التحقيق:
تنظر بوصفها محكمة استئناف في القرارات التي يصدرها السيد قاضي التحقيق والتي يقع استئنافها من احد أطراف القضية فمن له حق الاستئناف (الفقرة الأولى) وما هي القرارات التي يمكن الطعن فيها بالاستئناف (الفقرة الثانية) وما هي آجال ذلك الاستئناف (الفقرة الثالثة)
الفقرة الأولى: حق ممارسة الاستئناف:
أ ـ وكيل الجمهورية: قد خول الفصل 109 فقرة أولى من مجلة الإجراءات الجزائية للسيد وكيل الجمهورية استئناف قرارات السيد قاضي التحقيق بعد تمكينه من الاطلاع على ذلك من طرف المحقق.
ب ـ المظنون فيه: يمكن للمتهم استئناف قرارات السيد قاضي التحقيق التي يراها مجحفة بحقوقه وماسة بحريته.
ج ـ القائم بالحق الشخصي: إن قيام المتضرر بالحق الشخصي يجعله طرفا في القضية الأمر الذي جعل المشرع يجعله كالنيابة العمومية والمظنون فيه ومكنه من استئناف كل ما يراه ماسا بحقوقه المدنية.
الفقرة الثانية: القرارات التي يمكن الطعن فيها بالاستئناف:
ان هذه القرارات تختلف من طرف إلى آخر وذلك أمر طبيعي إذ هو نتيجة حتمية لاختلاف وتباين المصالح التي توجد بين الأطراف.
فبالنسبة للسيد وكيل الجمهورية جاء الفصل 109 فقرة 1 من مجلة الإجراءات الجزائية ناصا على أن قرارات السيد حاكم التحقيق تحال فورا على السيد وكيل الجمهورية للاطلاع عليها وله حق استئنافها في جميع الأحوال، الأمر الذي يجعل المجال واسعا شاسعا للسيد وكيل الجمهورية لان هذا الفصل لم يحدد ما هي القرارات التي يمكن للنيابة العمومية استئنافها وترك الأمر مطلق موحيا أن كل القرارات قابلة للاستئناف.
أما بالنسبة للمظنون فيه فان المشرع حدد القرارات التي يمكنه استئنافها حسب الفصول 38 و75 و187 من مجلة الإجراءات الجزائية فمكنه من استئناف القرار القاضي بقبول مطلب القيام بالحق الشخصي والقرار القاضي برفض مطلب التخلي عن القضية المقدم من طرف المتهم وقرار رفض مطلب السراح المقدم من طرفه كما يمكنه كذلك استئناف قرار السيد قاضي التحقيق القاضي بإحالته على دائرة الاتهام من اجل جريمة معينة.
اما بالنسبة للقائم بالحق الشخصي فإن الدارس يجده في علاقة تقابلية مع المتهم فلقد مكنه المشرع من استئناف قرار السيد قاضي التحقيق القاضي برفض مطلبه كقائم بالحق المدني وفق أحكام الفصل 38 من مجلة الإجراءات الجزائية واستئناف قرار رفض التخلي عن القضية الذي يتخذه السيد قاضي التحقيق بناء على مطلب مقدم من طرف القائم بالحق كاستئناف قرار الإفراج المؤقت عن المتهم.
الفقرة الثالثة: آجال الطعن:
إن آجال الطعن في قرارات السيد قاضي التحقيق بالاستئناف هي نفسها إلا أن بداية سريانها يختلف حسب الأطراف.
أ ـ بالنسبة للسيد وكيل الجمهورية: يمكن للسيد وكيل الجمهورية الطعن في قرارات السيد قاضي التحقيق بالاستئناف في اجل أقصاه أربعة أيام من تاريخ اطلاعه عليها.
ب ـ بالنسبة للمظنون فيه والقائم بالحق الشخصي: يمكن لكل منهما استئناف قرارات السيد قاضي التحقيق السالفة البيان في اجل أقصاه أربعة أيام من تاريخ إعلامهما بالقرار.
وهكذا يتجلى وجه الاختلاف في خصوص سريان هذا الأجل بالنسبة للسيد وكيل الجمهورية فان مفعول الأجل يبتدئ من تاريخ الاطلاع على القرار في حين أن الأجل لا يبتدئ مفعوله بالنسبة إلى المظنون فيه والقائم بالحق الشخصي إلا من تاريخ اعلامهما من طرف السيد قاضي التحقيق بذلك.
هكذا يتبين لنا أن دائرة الاتهام لها دور استئنافي وهي محكمة استئناف لقرارات السيد قاضي التحقيق وهي بذلك محكمة فكيف إذن تكون سلطة اتهام وتحقيق من درجة ثانية.
المبحث الثاني: دائرة الاتهام سلطة اتهام وتحقيق من درجة ثانية
دائرة الاتهام سلطة اتهام و تحقيق من درجة ثانية )الفقرة الأولى( و تخضع قراراتها للطعن ) الفقرة الثانية(
الفقرة الأولى: دائرة الاتهام سلطة اتهام و تحقيق من درجة ثانية :
تمارس دائرة الاتهام صلاحياتها كسلطة مراقبة أو تحقيق من درجة ثانية في المرحلة الختامية للابحاث، فبانتهاء السيد قاضي التحقيق من مباشرة الأبحاث وإصداره قرارا في ختم الابحاث قاض بإحالة المظنون فيه من اجل جناية تحال القضية على دائرة الاتهام لمباشرة هذه السلطة.
أما إذا انتهى السيد قاضي التحقيق بعد إتمام أبحاثه بأن الأفعال المنسوبة للمتهم تتشكل منها مجرد جنحة أو مخالفة فإنه يتولى احالة القضية على المحكمة المختصة للمحاكمة.
وتبدو هذه الصفة الثانية لدائرة الاتهام خاصة من خلال ما أعطاها المشرع من صلاحيات ونفوذ وسلطة شأنها في ذلك شأن السيد قاضي التحقيق إلا إن وجودها في الدرجة الثانية مراقبة لأعمال هذ الأخير يجعلها في مكانة قانونية اقوى.
ففي خصوص هذه الصلاحيات والنفوذ فقد نص الفصل 116 من مجلة الإجراءات الجزائية انه بإمكان دائرة الاتهام إحالة القضية على المحكمة المختصة اذا كانت القرائن كافية لثبوت إدانة المظنون فيه او ان تحفظ القضية اذا لم تكن الأدلة والحجج كافية على ثبوت إدانة المتهم ولها في هذه الصورة ان تفرج عن المتهم الموقوف وان ترجع الاشياء المحجوزة لاصحابها.
كما انه بإمكان دائرة الاتهام في صورة وجود نقص في الابحاث ان تأذن باجراء ابحاث تكميلية بواسطة احد مستشاريها او ان تقرر ارجاع القضية للسيد قاضي التحقيق المكلف بالاستقراء فيها لاتمام ما تراه من استنطاقات وسماع شهود واجراء معاينات واختبارات ومكافحات وعرض للمتهمين على القيس الى غير ذلك من الاعمال الاستقرائية.
ولدائرة الاتهام ايضا ان تأذن باجراء تتبع جديد كتوجيه تهمة جديدة لمتهم شمله البحث او توجيه تهمة ما على شخص لم يقع تتبعه كمتهم وذلك بعد اخذ رأي النيابة العمومية في الموضوع.
هذا ويمكن لدائرة الاتهام ان تأذن بالافراج المؤقت عن المتهم اذا كان موقوفا او ان تصدر بطاقة ايداع ضد المتهم المحال عليها بحالة سراح والتي ترى ان الافعال المقترفة منه خطيرة على الامن العام وتستوجب الايقاف ويكون ذلك دائما وأبدا بعد اخذ رأي النيابة العمومية.
الفقرة الثانية: الطعن في قرارات دائرة الاتهام
يقع الطعن في القرارات الصادرة عن دائرة الاتهام في ظرف اربعة ابام بداية من تاريخ الاعلام أو حصول العلم بها .
ومثلت مسألة قابلية القرارات الوقتية الصادرة عن دائرة الاتهام للطعن بالتعقيب محل تذبذب على مستوى فقه قضاء الدوائر المجتمعة؛ ذلك أن السلط التحقيقية سواء كانت قاضي التحقيق أو دائرة الاتهام تصدر نوعين من القرارات الجزائية وهي القرارات النهائية و القرارات الوقتية، و إذا كان تعقيب النوع الأول من القرارات أمرا غير مثير لأي إشكال فإن تعقيب القرارات الوقتية ظل و لا يزال محل اختلاف فقهي و تضارب قضائي.
ومعيار التمييز بين القرار الوقتي و القرار النهائي هو مدى بت القرار في أصل التهمة؛ فإذا كان القرار قاضيا في التهمة سواء بثبوتها و إحالتها إلى المحكمة المختصة أو بعدم ثبوتها و الحكم بأنه لا وجه للتبع أو القضاء بالتخلي لعدم الاختصاص كان القرار نهائيا قابلا للطعن بالتعقيب وفقا للفصل 258 من م.إ.ج، أما إذا كان القرار أو بالأحرى التدبير la mesure وقتيا كأن يتم إصدار بطاقة إيداع بالسجن أو إلغاء مفعولها أو الإفراج عن المتهم من سجن إيقافه أو تحجير السفر أو تجميد الأموال أو إلغاء مفعولهما كان القرار وقتيا، وهو ما مثل محل اختلاف قضائي بين موقف أقلي يقول بقابلية القرارات الوقتية الصادرة عن دائرة الاتهام للتعقيب و موقف أغلبي رافض لذلك.
و قد تبنت الدوائر المجتمعة لمحكمة التعقيب منذ سنة 1966 الموقف الأول القابل للطعن فيها بالتعقيب و ذلك بمقتضى قرارها عدد 5088 المؤرخ في 3 ديسمبر 1966 قبل صدور المجلة الحالية للإجراءات الجزائية ، غير أن هذا التوجه ظل مهجورا و لم تلتفت إليه الكثير، من الدوائر التعقيبية التي تمسكت بعدم قابلية القرارات الوقتية التي تصدرها دائرة الاتهام للطعن بالتعقيب كما يتجلى ذلك في رفضها شكلا لكل مطالب تعقيب القرارات المذكورة، فضلا عن عدم تدخل الدوائر المجتمعة في مرة ثانية لتضع حدا للجدل زاد من تعميق التذبذب بين مختلف الدوائر بما لا يخدم الأمن القضائي و يفتح الباب لعدم المساواة بين المتقاضين المتواجدين بنفس الوضعية القانونية، و هو ما يدعو إلى مراجعة طبيعة قرارات الدوائر المجتمعة و قوتها الإلزامية قانونيا أو معنويا حتى يتم إضفاء نجاعة و جدوى على دورها التوحيدي .
و لعل القرار الذي تصدره دائرة الاتهام و المتعلق بحالة المتهم إيقافا أو إفراجا و خاصة الإيقاف بمقتضى بطاقة إيداع تصدرها دائرة الاتهام على معنى الفصل 80 من م.إ.ج أي عند استئناف النيابة العمومية لقرار قاضي التحقيق القاضي بالإبقاء بحالة سراح، مثل أهم تطبيق لمسألة قابلية القرارات الوقتية للطعن بالتعقيب و ذلك لغياب نص يبيح استئناف قرار الإيقاف أو بطاقة الإيداع خلافا لقرار رفض مطلب الإفراج الذي تمكن الفصول 86 و 87 من م.ا.ج من تعقيبه طبق الآجال و قد توزعت بشأنه المواقف و توزعت معها حجج كل موقف
فأما الموقف الأول الرافض و الطاغي على قرارات الدوائر المنفردة لمحكمة التعقيب فضلا عن مواقف قلم الادعاء العمومي بمحكمة التعقيب و الذي يقترحه البعض في إطار الإصلاحات القضائية فيتأسس على حجج قانونية وهي:
أولا: لئن أباح الفصل 120 من م.ا.ج تعقيب قرارات دائرة الاتهام فإنه يمثل نصا عاما يخصصه الفصل 258 من ذات المجلة الذي وعلاوة على تعداده لأسباب التعقيب، فقد حدد نطاقه من خلال اشتراط شرطان و هما أن يكون القرار نهائيا و صادرا في الأصل، و دائرة الاتهام تصدر ثلاثة أنواع من القرارات وهي قرارات تمهيدية و تحضيرية كالسماعات و الاستنطاقات و الأذون بإجراء الاختبارات، و قرارات وقتية و استثنائية أو تدابير احترازية كتحجير السفر و تجميد أموال و إصدار بطاقة إيداع في حق المتهم، و قرار الإيقاف الذي تجسمه بطاقة الإيداع هو قرار وقتي غير صادر في الأصل؛ فبطاقة الإيداع إجراء وقتي استثنائي يلتجأ اليها عند توفر شرطي الفصل 85 من م.ا.ج و هما التلبس و ظهور قرائن قوية و آية ذلك بأنه قابل للرجوع فيه بقرار في الرجوع فيه بما ينفي عليه صفة النهائي و الأصلي و يتعذر معه القول بقابليتها للتعقيب. أما الصنف الثالث فهي القرارات الصادرة في الأصل أي الباتة في أصل التهمة و المنهية للنزاع كقرار الإحالة إلى المحكمة الجنائية أو الجناحية أو قرار الحفظ و هي الوحيدة القابلة للطعن بالتعقيب حسب هذا الرأي
ثانيا : يعتبر الطعن من الإجراءات الأساسية بما فيه الطعن بالتعقيب على معنى الفصل 258 من م.إ.ج الذي لا يجوز التوسع فيه أو الاجتهاد في تأويله لخضوعه لمبدأ التأويل الضيق
ثالثا: و في رد على حجة قرار الدوائر المجتمعة اليتيم المتعلقة بأن المشرع أوجب واجب تعليل قرارات الإيقاف التحفظي ولا معنى لواجب تعليلها إذا لم تشفع برقابة من جهة قضائية أعلى يرى أصحاب هذا الموقف أن المشرع و لئن أوجب التعليل في بطاقة الإيداع فإن هذا التعليل قد فرضته الصبغة الاستثنائية لهذا القرار سبيلا لصونه من التعسف و الإفراط في السلطة، و هو إلى ذلك يمكن من المراقبة عندما تتعهد محكمة التعقيب في الحكم النهائي لا في البطاقة.
رابعا: إن عدم التنصيص على الطعن لا يؤوَّل إلا في اتجاه المنع و ليس الجواز، ضرورة أنه لا طعن بدون نص، و قد استأنس أصحاب هذا الرأي بالقرار عدد 1130 الصادر في 31 أكتوبر 2002 الذي أوَّل في إطار الفصل 532 من م.ا.ع الفقرة 3 من الفصل 2 من قانون 1977 عبارة “عقارات بها مؤسسات تعليم خاص ” تأويلا لغويا باعتبار أن صيغة النكرة تحيل إلى التعميم لا التخصيص، و تأويلا منطقيا مستندا على قاعدة المطلق يؤخذ على إطلاقه حتى يقيد و العام يبقى على عمومه حتى يخصص و المجمل يبقى على إجماله حتى يفصل.
أما الاتجاه الثاني الذي لا يرى أي مانع من قابلية القرارات الوقتية للطعن بالتعقيب و خاصة منها تلك المتعلقة بالإيقاف فيستند على عدة حجج منها:
أولا: علوية قيمة الحرية و دستوريتها ودولية مصادرها و الخطورة القانونية لسلبها قبل حكم قضائي بات ، فالإيقاف التحفظي هو استثناء قانوني يرد على قرينة البراءة ذات المكانة الدستورية (الفصل 27 من الدستور). لذلك أحاطه المشرع بحالات و شروط و هي حالات و شروط لم تكن محترمة دوما و في قرار تاريخي صدر مؤخرا كرست الدوائر المجتمعة لمحكمة التعقيب مبدأ إعلاء الحريات الفردية بمقتضى قرارها الصادر في 11 أفريل 2019 لما تصدت للموضوع و قضت ببطلان الإجراءات جزاء لعدم اختصاص القضاء العسكري على معنى الفصلين 30 و 31 من م.م.ع.ع و في هذا القرار انتصبت الدوائر المجتمعة كمحكمة أصل و أفرجت على المتهمين.
ثانيا: الفصل 120 واضح في تخويله حق الطعن و المطلق يؤخذ على إطلاقه.
ثالثا: الطعن بالتعقيب في قرارات دائرة الاتهام يفترضه الحق في التقاضي كما كرسه الفصل 108 من الدستور و قرار الدوائر المجتمعة عدد 10927 المؤرخ في 25 أكتوبر 2001.
ثالثا : الفصل 120 استعمل عبارة : “المحكوم عليه” و المشرع منذ اصدار م.ا.ج إلى 2011 تاريخ تنقيح م.م.ع.ع يقصد بعبارة المحكوم عليه المتهم الصادر في شأنه قرار عن دائرة الاتهام، فعبارة “المحكوم عليه” إذن لا تنصب فقط على الحكم بل على المتهم المشمول بقرار صادر عن دائرة اتهام بما يعني معه أن قراراتها تعتبر أحكاما.
رابعا: تتحدث الفقرة الثانية من الفصل 83 من م.إ.ج عن الاختصاص الحصري للقضاء العدلي بفض النزاع المتولد عن بطاقة الإيداع، ومحكمة التعقيب تحتل قمة القضاء العدلي و الدوائر المجتمعة لها تحتل قمة هذه القمة.
خامسا: يجب تنسيب مفهوم ” نهائي ” فكل قرارات دائرة الاتهام نهائية لأنها محكمة تحقيق درجة ثانية، و دائرة الاتهام لا تصف أحكامها فوصف الحكم لا يؤخذ من منطوقه و إنما من الهيئة التي أصدرته وهو مبدأ فقه قضائي راسخ و متواتر مدنيا أم جزائيا. ثم من جهة أخرى فإن الفصل 121 من م.ا.ج مكن من استناف التحقيق لظهور أدلة جديدة، فلو كانت قراراتها نهائية لما كان ثمة استئناف.
سادسا: يجب تنسيب مفهوم عبارة “الأصل” الواردة بالفصل 258 من م.ا.ج ضرورة أن دائرة الاتهام لا تصدر أحكاما في الأصل و إنما تقضي فقط مدى توفر الحجج الكافية لتوجيه التهمة، ثم لا شك في رسوخ مبدأ استقلالية التكييف و عدم تقييده للمحكمة.
سابعا: وجب ربط عبارة في الأصل بمفهوم الحرية و بمبدئها الأصيل فالأصل هو الحرية و الحرية هي الأصل وبذلك فإن قرارا يتعلق ببطاقة إيداع ليس مجرد تدبير وقتي و هو ما ذهب فيهمثلا القرار التعقيبي عدد 90917 المؤرخ في 25 أفريل 2012 لما نص على أن “عبارة “في الأصل” مطلقة لا مجال لحصرها في صور الإحالة أو الحفظ وإنما الأصل هو أصل مبدأ الحرية و ذات الموقف اتخذه القرار التعقيبي عدد 96778 المؤرخ في 9 أكتوبر 2019 و كذلك القرارات التعقيبية عدد 40002 و 40047 المؤرخة في 29 جانفي 2020 و “القرارات المتعلقة بالحرية سلبا أو ردا هي متعلقة بالأصل، فضلا عن مساس هذه القرارات بالنظام العام بمساسها بالحريات التي أوكل القانون، بل الدستور للقضاء مهمة حمايتها طبق الفصل 102 من الدستور.
ثامنا: الإقرار بإمكانية الطعن في القرارات الصادرة عن دائرة الاتهام يستند إلى مبدئي الإباحة الاصلية و عدم المنع إلا بالنص على معنى الفصلين 540 و 534 تباعا من م.ا.ع؛ فكلما رغب المشرع في منع تعقيب قرار دائرة الاتهام نجده قد نص على ذلك على غرار الفصل 259 من م.إ.ج المتعلق بقرار الإحالة على محكمة الناحية أو المجلس الجناحي، الفصل 260 المتعلق بمعاضدة النيابة العامة للقائم بالحق الشخصي، الفصول 323، 326 و328 من م.ا.ج المتعلقة بقرارات تسليم المجرمين الأجانب، والفصل 342 مكرر من م.ا.ج المتعلق بقرارات قاضي تنفيذ العقوبات الصادرة بمنح السراح الشرطي التي تراقبها دائرة الاتهام التي لا تقبل قراراتها الطعن باأي وجه، وذلك خلافا للفصول من 112 إلى 120 من م.ا.ج التي لم تمنع تعقيب القرارات الصادرة عن دائرة الاتهام، فلو أراد المشرع خلاف ذلك لنص عليه مثل منعه لبعض القرارات الصادرة عن دائرة الاتهام، و هذه الحجج وردت في عدة قرارات تعقيبية منها القرار عدد 96778 المؤرخ في 9 اكتوبر 2019 و كذلك القرار عدد 90917 المؤرخ في 25 أفريل 2011 اللذان بينا أن المشرع قد حصرا قرارات دائرة الاتهام التي لا يمكن تعقيبها، أما ما خرج عن دائرة المنع فيبقى جائزا.
تاسعا : الفصل 120 من م.اج يجيز صراحة تعقيب قرارات دائرة الاتهام أما إحالته إلى الفصل 258 من م.إ.ج فهي إحالة إلى أسباب الطعن لا إلى نطاقه و هو الرأي الذي تبناه القرار عدد 96778 المؤرخ في 9 أكتوبر 2019 والقرار عدد 40002 المؤرخ في 29 جانفي 2020 حيث أولا عبارة “بالشروط” الواردة بالفصل 120 على أنها تعني بالأسباب أي الحالات من عدم اختصاص و إفراط في السلطة و خرق قانون و خطأ في تطبيقه أو تأويله…
عاشرا: المشرع أوجب تعليل قرارات الايقاف التحفظي وقرارات التمديد فيها، ولا معنى لواجب التعليل اذا لم يشفع برقابة قضائية أعلى؛ فالفصل 85 من م.إ.ج منذ سنة 2008 يوجب تعليل قرار الايقاف التحفظي بتضمن الأسانيد الواقعية و القانونية، فما هدف التعليل إذا لم تكن المراقبة ؟ فكما أن قرارات حاكم التحقيق تراقبها دائرة الاتهام فإن قرارات هذه الأخيرة تراقبها محكمة لتعقيب. و هي الحجة التي قام عليها قرار الدوائر المجتمعة المذكور
أحد عشر: ثمة قرارات تذهب في هذا الاتجاه المتبني لخضوع قرارات دائرة الاتهام الوقتية للطعن بالتعقيب خاصة تلك الصادرة عن الدائرة التاسعة منها القرار عدد 86586 المؤرخ في 9 أوت 2019 و الذي نص مستندا على قرار الدوائر المجتمعة المذكور على أن فقه قضاء هذه المحكمة أجمع على أن القرارات الصادرة عن قلم التحقيق أو دائرة اتهام هي قضائية خاضعة لقواعد تراقبها محكمة التعقيب، و كذلك القرار عدد 3912 الصادر في 4 جوان 1969 والقرار عدد 2354 الصادر في 23 ماي 2012 والقرار عدد 5499 الصادر في 13 نوفمبر 2012 والقرار عدد 18529الصادر في 9 جويلية 2014 والقرار عدد 77913 الصادر في 14 سبتمبر 2018.
و تبقى الحجة الأهم على هذا الاتجاه متمثلة في أن الدوائر المجتمعة ذاتها و التي لم تجتمع في هذا الموضوع إلا مرة واحدة تبنت هذا الموقف. دون أن تساندها في ذلك العديد من دوائر محكمة التعقيب. وهو ما يؤشر على محدودية دور الدوائر المجتمعة في توحيد الآراء القانونية، و منذ هذا التدخل اليتيم للدوائر المجتمعة الذي يعود لأكثر من نصف قرن و السابق لصدور مجلة الإجراءات الجزائية الحالية، و رغم توفر حالة اجتماع الدوائر على معنى الفصل 273 من م.ا.ج باعتبار حصول طعن ثان لنفس السبب الذي وقع من أجل الطعن الأول الذي انتهى إلى قبول الطعن شكلا في نفس القضية التي ضمت نفس المتهمين غير أن الرئيس الأول لمحكمة التعقيب لم يأذن للدوائر المجتمعة بالالتئام لتتعهد بالطعن الثاني دائرة منفردة أصدرت القرار عدد 15475 المؤرخ في 3 نوفمبر 2020 لتبقى هذه الإشكالية عالقة كوجه من أوجه المحدودية التي وسمت دور الدوائر المجتمعة في توحيد الآراء القانونية والتي كانت وليدة العديد من العوامل.