جريمة استغلال النفوذ

إعداد: جابر غنيمي دكتور في القانون المساعد الأول لوكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد مدرس جامعي

سعى المشرع التونسي منذ إصدار المجلة الجزائية سنة 1913 إلى محاولة التصدي لجرائم الرشوة من خلال الفصول 82 إلى 94 المتعلقة بجرائم الإرشاء و الإرتشاء الواردة ضمن القسم الثاني من الباب الثالث المتعلق بالجرائم الواقعة من الموظفين العموميين أو المتشبهين بهم حال مباشرة أو بمناسبة مباشرة وظائفهم , و قد تم تنقيح معظم هذه الفصول من خلال القانون عدد 33 لسنة 1998 المؤرخ في 23 ماي 1998 بما في ذلك الفصل 87 المتعلق بجريمة استغلال النفوذ، أو ما يسمى أيضا الاتجار بالجاه، فلقد مرت هذه الجريمة من جنحة قبل 1998 إلى جناية بعد 1998 تاريخ تنقيح العجلة الجنائية وذلك إذا كان مستغل النفوذ له بصفة الموظف العمومي أو شبهه بالفقرة الأولى من هذا الفصل التي تضمنت عقابا ثلاث سنوات سجنا إذا كان مرتكب الجريمة من غير الموظفين العموميين وهنا نلاحظ مرة أخرى الصبغة المشددة للعقاب المرتبط بصفة الموظف العمومي نظر للمكانة الاجتماعية والعمومية لموظف الدولة وخطورة الضرر الذي تحدثه أعماله الإجرامية على الإدارة العامة وعلى المجتمع ككل.
واِسْتِغْلالُ النُّفُوذِ لغة هو: استعمال النفوذ مَطِيَّةً لِتَحْقِيقِ مَآرِبَ شَخْصِيَّةٍ. ويُقْصَد بِلَفْظ النُفوذ هُو ما يُعَبِر عَن كُل إمْكانِيَة لَها تأثِير لَدى السُلْطَة العامَة مِما يَجْعَلَها تَسْتَجِيب لِما هُو مَطْلُوب سَواء كان مَرْجِعَهَا مَكانَة رِئاسِيَة أو اجتماعية أو سِياسيَة، إذ يأخذ استغلال النفوذ أشكالا كثيرة، منها تلقي الرشاوى واستغلال المؤسّسات ومواردها للمصالح الخاصة، ومنها، أيضًا، توظيف المقربين من دون الكفاءات، أي وباختصار- ما نسمّيه فسادًا. وتتفق هذه الجريمة مع معظم جرائم الوظيفة العامة فيما يتعلق بالمقابل الذي يحصل عليه المستغل لنفوذه، ولهذا نجد أن هذه الجريمة متداخلة مع جرائم الرشوة. فاستغلال النفوذ يؤدي إلى الإثراء غير المشروع لصاحب النفوذ إذا ما اتخذ نفوذه سلعة يتاجر فيها، وتلك هي نفسها علة تجريم الرشوة بالنسبة للموظف .” إن ظاهرة الرشوة والفساد انتشرت واكتسحت المجال الاقتصادي وتغلغلت في أجهزة الدولة بدرجات مختلفة حتى أن الاعتقاد أصبح سائدا لدى العموم أن الحصول على قرارات أو خدمات إدارية أو تبوء مسؤوليات أو انتداب في وظيفة بالإدارة أو المنشآت العمومية بات يخضع لدفع رشاوى يختلف حجمها باختلاف الامتيازات التي يحصل عليها المنتفعين بها”. لهذا فإن الأﺳﺎس اﻟﺬي تقوم ﻋﻠﯿﮫ جرائم الرشوة عموما، وﺗﺠﺮﯾﻢ اﺳﺘﻐﻼل اﻟﻨﻔﻮذ خاصة، ھﻮ ﺗﺤﻘﯿﻖ ﻣﺒﺪا اﻟﻤﺴﺎواة واﻟﻌﺪاﻟﺔ.
فاﻟﻤﺴﺎواة ﺗﻌﻨﻲ ﻣﺤﻮ اﻻﻣﺘﯿﺎزات اﻟﺨﺎﺻﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻌﻞ ﻟﻠﺒﻌﺾ ﻧﻔﻮذا يرﺟﺢ ﻛﻔﺘﮭﻢ ﻋﻠﻰ ﻛﻔﺔ الأﻛﺜﺮﯾﺔ ، ذﻟﻚ اﻟﻨﻔﻮذ اﻟﺬي يعطي أﺻﺤﺎﺑﮫ ﺣﺮﯾﺔ ﻓﻲ اﻟﻌﻤﻞ أﻛﺜﺮ ﻣﻤﺎ ﯾﺴﺘﺤﻘﻮن. واﺳﺘﻐﻼل اﻟﻨﻔﻮذ ﻗﺪ ﯾﻜﻮن ﺳﯿﺎﺳﻲ أو اﺟﺘﻤﺎﻋﻲ او اﻗﺘﺼﺎدي أو إداري واﻟﺬي ﯾﺆدي ﺑﺪوره إﻟﻰ اﻧﺘﻔﺎء اﻟﻤﺴﺎواة ﺑﯿﻦ أﻓﺮاد اﻟﻤﺠﺘﻤﻊ وﺑﺬﻟﻚ ﯾﺸﻌﺮ أﻏﻠﺒﯿﺘﮭﻢ ﺑﺎﻟﻐﺒﻦ واﻟﻈﻠﻢ، وﻣﻦ ھﺬا اﻟﻤﻨﻄﻠﻖ ﯾﺒﺮز ﻣﺒﺪأ اﻟﻤﺴﺎواة ﻛأﺳﺎس ﻟﺘﺠﺮﯾﻢ ﻇﺎھﺮة اﺳﺘﻐﻼل اﻟﻨﻔﻮذ وﻓﺮض اﻟﻌﻘﻮﺑﺔ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﻣﻦ ﯾﺮﺗﻜﺒﮭﺎ ﻣﻦ أﻓﺮاد اﻟﻤﺠﺘﻤﻊ أاﯾﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺻﻔﺘﮫ.
أما ﻣﺒﺪأ اﻟﻌﺪاﻟﺔ فإنه ﯾﻌﺘﺒﺮ أﺳﺎس ﻟﻠﻌﻘﺎب اﻟﺬي ﯾﮭﺪف إﻟﻰ ﺗﺤﻘﯿﻖ اﻟﻤﺼﻠﺤﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ وﺣﯿﺚ أن اﺳﺘﻐﻼل اﻟﻨﻔﻮذ ﯾﺘﺤﻘﻖ ﻋﻨﺪﻣﺎ يوجد ﻇﻠﻢ ﺑﺤﻖ ﺑﻌﺾ اﻻﺷﺨﺎص دون ﻏﯿﺮھﻢ وﻋﺪم وﺟﻮد ﺗﻌﺎﻣﻞ ﻣﻨﺼﻒ ﺑﺤﯿﺚ ﯾﻜﻮن ھﻨﺎﻟﻚ ﻃﺮف ﻗﻮي وﻣﺘﻨﻔﺬ وآﺧﺮ ﺿﻌﯿﻒ ﻣﻨﻔﺬ ﻋﻠﯿﮫ، وﻟﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻇﺎھﺮة اﺳﺘﻐﻼل اﻟﻨﻔﻮذ ﺟﺰء ﻣﻦ ﻇﺎھﺮة اﻻﺳﺘﻐﻼل ﺑﺸﺘﻰ أﻧﻮاﻋﮫ ﻓﻲ اﻟﻤﺠﺘﻤﻊ لذا كان اﻟﻘﻀﺎء ﻋﻠيه يحقق ﻣﺒﺪأ اﻟﻌﺪاﻟﺔ ﻓﻲ اﻟﻤﺠﺘﻤﻊ.
و قد نص الفصل 87 مكرر م ج” يعاقب بالسجن مدة خمسة أعوام وبخطية قدرها خمسة آلاف دينار كل موظف عمومي أو شبهه يقبل لنفسه أو لغيره بدون حق سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة عطايا أو وعودا بالعطايا أو هدايا أو منافع كيفما كانت طبيعتها لمنح الغير امتيازا لا حق له فيه وذلك بمقتضى عمل مخالف للأحكام التشريعية والترتيبية الضامنة لحرية المشاركة ولتكافؤ الفرص في الصفقات التي تبرمها المؤسسات العمومية والمنشآت العمومية والدواوين والجماعات المحلية والشركات التي تساهم الدولة أو الجماعات المحلية في رأس مالها بصفة مباشرة أو غير مباشرة.”
وفي سياق ما سبق يعرف الفصل الثاني من المرسوم الاطاري عدد 120 لسنة 2011 مؤرخ في 14 نوفمبر 2011 المتعلــق بمكافحـة الفســاد، الفساد بأنه: “سوء استخدام السلطة أو النفوذ أو الوظيفة للحصول على منفعة شخصية. ويشمل الفساد خاصة جرائم الرشوة بجميع أشكالها في القطاعين العام والخاص والاستيلاء على الأموال العمومية أو سوء التصرف فيها أو تبديدها واستغلال النفوذ وتجاوز السلطة أو سوء استعمالها والإثراء غير المشروع وخيانة الأمانة وسوء استخدام أموال الذوات المعنوية وغسل الأموال”. فسوء استخدام السلطة أو النفوذ هو جوهر الفساد. ومن هنا تتبين أهمية تجريم استغلال النفوذ، فما هي أركان هذه الجريمة؟
وسبق لمحكمة التعقيب أن بينت في عدة قرارات أركان جريمة استغلال النفوذ.
تتمثل أركان جريمة استغلال النفوذ في الاركان الأولية (الفقرة الأولى)، والأركان الجوهرية (الفقرة الثانية).
الفقرة الاولى: الاركان الأولية لجريمة استغلال النفوذ
وتتعلق هذه الأركان بأشخاص الجريمة (أ)، والنفوذ الحقيقي أو المزعوم (ب).
أ- الاشخاص:
يفترض لقيام جريمة الفصل 87 م ج وجود ثلاثة أشخاص وهم:
الأول: مرتكب الفعل أي مستغل النفوذ أو الروابط، القابل للعطايا أو الوعود بها أو الهدايا او المنافع كيفما كانت طبيعتها، وهذا قد يكون موظفا عموميا وقد يكون شخصا عاديا، والفرق بين الحالتين هو في وصف الجريمة والعقاب المقرر لها فقط، فإذا ارتكبت من موظف فهي جناية وعقوبتها ست سنوات سجن، وان ارتكبت من شخص عادي فهي جنحة وعقوبتها ثلاث سنوات سجن.
الثاني: الموظف العمومي أوشبهه الواقع تحت نفوذ الشخص الأول (أو له روابط معه)،
الثالث: الغير مقدم المنافع والمستفيد من استغلال النفوذ أو الروابط.
ومن الثابت أن الثاني والذي يفترض دائما أنه موظف عمومي هو شخص خارج نطاق التجريم والعقاب فهو ضحية نفوذ الأول الذي من الممكن أن يكون موظفا عموميا أيضا. ويثبت عدم دخول الشخص الثاني في دائرة التجريم بصفة لا لبس فيها عندما يكون الأول هو رئيسه المباشر وصاحب نفوذ وسلطة قانونية عليه من جهة، ومن جهة ثانية بأن الموظف العمومي أو شبهه لو كان مستفيدا من المنافع لانقلبت الجريمة الى رشوة، وبغير هذا التأويل يفقد النص علته.
وفي هذا الاتجاه تبنت محكمة التعقيب في قرارها عدد 680/733 الصادر بتاريخ 4/6/2013 ما جاء في اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد حول تعريف جريمة استغلال النفوذ: “وحيث أن المفهوم القانوني لجريمة استغلال النفوذ يتمثل حسب مقتضيات المادة 18 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد المؤرخة في 31 أكتوبر 2003 والمصادق عليها من الجمهورية التونسية بمقتضى القانون عدد16 لسنة 2008 مؤرخ في 25 فيفري 2008 في قيام الموظف أو أي شخص آخر باستغلال نفوذه الفعلي أو المفترض للحصول من الإدارة أو السلطة العامة تابعة للدولة على مزية غير مستحقة وذلك مقابل أي مزية لصالحه أو لصالح شخص آخر وتتكون عناصر هذه الجريمة بتوفر ثلاثة أركان : الشرط الأول المتمثل في الموظف العمومي الذي يمكن أن يكون شخص آخر لا تتوفر فيه تلك الصفة وأن يقوم باستغلال ما قد يكون له من نفوذ ييسر له الحصول على مزايا غير مستحقة من السلط العمومية…”.
ومن الملاحظ ان محكمة التعقيب وفي حالة نادر تعتمد اتفاقية دولية لبيان اركان جريمة منصوص عليها في القانون الداخلي، والجيد في الأمر انها اعتمدت احكام اتفاقية مكافحة الفساد في ظل تنامي وتفشي مظاهر الفساد الاداري والمالي داخل الادارة والمجتمع.
وبالرجوع الى اشخاص الجريمة يلاحظ ان المشرع استخدم عبارة “موظف عمومي أو شبهه” دون مزيد من التفصيل وهو ما يعني عمليا اعتماد التعريف الوارد في الفصل 82 م ج وهو: “يعتبر موظفا عموميا تنطبق عليه أحكام هذا القانون كل شخص تعهد إليه صلاحيات السلطة العمومية أو يعمل لدى مصلحة من مصالح الدولة أو جماعة محلية أو ديوان أو مؤسسة عمومية أو منشأة عمومية أو غيرها من الذوات التي تساهم في تسيير مرفق عمومي. ويشبه بالموظف العمومي كل من له صفة المأمور العمومي ومن انتخب لنيابة مصلحة عمومية أو من تعينه العدالة للقيام بمأمورية قضائية”.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا لم يتوسع المشرع في الفصل 87 م ج في مفهوم الموظف كما فعل في الفصل 96 م ج إذ وقع التوسع في صفة الموظف بموجب تنقيح سنة 1985 (القانون عدد 85 لسنة 1985 المؤرخ في 11 أوت1985) بإضافة ” وكل مدير أو عضو أو مستخدم بإحدى الجماعات العمومية المحلية أو الجمعيات ذات المصلحة القومية أو بإحدى المؤسسات العمومية ذات الصبغة الصناعية والتجارية أو الشركات التي تساهم الدولة في رأس مالها بصفة مباشرة أو غير مباشرة بنصيب ما أو الشركات التابعة إلى الجماعات العمومية المحلية”. ولقد اعتبر الأستاذ الطيب اللومي أن المشرع يرمي من وراء ذلك إلى “معاملتهم كما يعامل هذا الموظف العمومي وشبهه نظرا للدور الذي تلعبه مؤسساتهم في الاقتصاد الوطني.”[3] فمن المستغرب ان يكون هذا التوسع خاص بفصلين فقط من الفصول المخصصة لجرائم الاستيلاء على الاموال العمومية و دون أن يشمل أيضا بقية ” الجرائم الواقعة من الموظفين العموميين أو المشبهين بهم حال مباشرة أو بمناسبة مباشرة وظائفهم”. الواردة ضمن نفس الباب الثالث من المجلة الجزائية، فمفهوم الموظف وشبهه في الفصلين 96 و99 يتجاوز بكثير مفهوم الموظف وشبهه الوارد بالفصل 82 م ج وبقية الفصول.
فكل من لم يشملهم تعريف الموظف وشبهه يمكن ان تتوفر في حقهم اركان الجريمة ولكن بوصف الجنحة لا الجناية، ولو انه لا فرق بينهم وبين الموظف من حيث درجة خطورة استغلالهم لنفوذهم الحقيقي أو المزعوم، فالعبرة في هذه الجريمة هي في استغلال النفوذ في حد ذاته لا في شخص المستغل.
ب- النفوذ الحقيقي أو المزعوم:
يتطلب قيام اركان جريمة الفصل 87 م ج أن يكون الجاني متمتعاً بنفوذ فعلي أو مزعوم لدى الجهات العامة أو إحدى الجهات الخاضعة لرقابتها الإدارية. و لا يُشْتَرَط أن يَكُون الجانِي لَهُ نُفوذ يَسْتَمِد مِن القانُون كَالمُوظَف العام مَثَلاً و إنَما قَد يَكُون هَذا النُفوذ سَبَب عَلاقَتُهُ الشَخْصِيَة بِالمُوظَف المُخْتَص أو كُون الجانِي لَهُ وَضَع إجْتِماعي مُعَيَن يَسْمَح لَهُ بِالتأثِير عَلى المُوظَف العام و لا يُشْتَرَط أيضاً أن يَكُون نُفوذ الجانِي نُفوذ حَقِيقي فَقَد يَكُون مُجَرَد نُفوذ مَزْعُوم بِإدِعاء كاذِب أن لَهُ نُفوذ عَلى المُوَظَف فَيَقَعَ بِكَذِبُهُ و إدِعائُهُ المَزعُوم جَرِيَمة استعمال النُفوذ و يَكْفِي في ذَلِكَ الكَذِب المُجَرَد غَير المُدَعَم بِمَظاهِر خارِجِيَة، فإذا دَعَم الجانِي الكاذِب النُفوذ بِمَظاهِر خارِجِيَة فَيَقَع بِفِعْلُهُ جَرِيمَتَي التحيل واستعمال النُفوذ و فِي هَذه الحالَة تُوَقَع عَلِيهِ عُقوبَة الجَرِيمَة الأشَد. والمقصود بالنفوذ أن يكون للشخص نوع من التقدير لدى رجال السلطة الذين بيدهم تحقيق مصلحة ذي الشأن، مما يمكن له من حملهم على قضائها، و قد يكون ذلك راجعاً إلى مركزه في المجتمع، و قد يكون بسبب صلة تربطه ببعض رجال السلطة كالقرابة أو الصداقة أو ما شابه. و يستوي أن يكون الشخص المتجر بنفوذه يتمتع بنفوذ فعلي أو نفوذ مزعوم و يتحقق الأخير بمطلق القول دون اشتراط اقترانه بعناصر أخرى أو وسائل احتيالية. وهو ما بينته المادة 18 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد المؤرخة في 31 أكتوبر 2003 عند الاشارة الى ضرورة: “أن يقوم باستغلال ما قد يكون له من نفوذ ييسر له الحصول على مزايا غير مستحقة من السلط العمومية وأن يكون النفوذ فعليا أو مفترضا”.
وفي هذا الاتجاه أكدت محكمة التعقيب في قرارها عدد 680/733 الصادر بتاريخ 4/6/2013 أنه: “وحيث يؤخذ من الفصل 87 م ج أن جريمة استغلال النفوذ تتمثل في الاستفادة من السلطة أو القدرة التأثير بصورة غير قانونية أو غير مشروعة عليها بالسعي لدى السلطات العامة لتحقيق منافع أو الوصول إلى غايات لا تقع في دائرة أعمال وظيفة صاحب النفوذ الذي يستغل نفوذه الحقيقي أو المزعوم ، بأخذه أو طلبه وقبوله مقابل تتمثل في عطايا أو عودا بالعطايا أو هدايا أو منافع كيفها كانت طبيعتها من صاحب المصلحة، نظير حصوله أو محاولة حصوله على حقوق وامتيازات معينة من السلطة العامة لفائدة الأخير باستخدام هذا النفوذ. وحيث يستخلص مما سبق بيانه أنه لقيام جريمة الفصل 87 م ج فإن الأمر يفترض توفر ركن استعمال النفوذ من الموظف العام، نظرا لكون هذا الفعل ينطوي على معنى استغلال الجاني لنفوذه، عندما يستغل حاجة الغير للحصول منه على عطية أو فائدة ما نظير سعيه لدى السلطات العامة لتلبية مطلبه وبالتالي فإن هذه الجريمة لا يمكن ان تقوم دون وجود ركن النفوذ الحقيقي أو المزعوم”.
وحيث أضافت محكمة التعقيب في نفس القرار أنه: “وحيث يتضح من خلال مستندات القرار المطعون فيه وأن دائرة الإتمام انتهت إلى اعتبار وجود تدخل واستغلال نفوذ من قبل الرئيس السابق دون بيان ماهية طبيعة ذلك وابراز نوعية الضغوط أو التأثيرات التي قام بها للتأثر على مجرى عملية تصفية الشركة… خاصة وأن الأمر يتعلق بقرار قضائي ولا يتعلق بالعلاقة التي تربطه بالوزير باعتبارها الساهر على تنفيذ القوانين وممارسة السلطة الترتيبية العامة طبقا لأحكام الفصل 53 من دستور 1959 الملغى، وجريمة الفصل 87 من م ج تستوجب ثبوت استعمال الضغط على الجهة المختصة بإصدار القرار لتنفيذ مشيئة الجاني وهو ما لم تتعرض إليه دائرة القرار المتقد وتبرزه، فضل على ثبوت عدم صدور أي ضغوطات أو تعليمات غير مشروعة للأطراف المتداخلة في موضوع تصفية الشركة… الأمر الذي أكده المصفي بنفيه أن يكون قد تلقى أي تعليمات أو توجيهات بخصوص الأعمال التي قام بها وأنه قام بها تحت إشراف القاضي المراقب… وحيث إضافة إلى ما ذكر… لم يثبت من خلال الأبحاث المجراة في القضية وجود أي اخلالات أو خرق للنصوص القانونية الخاصة بتصفية التركات أو الشركات فضلا على عدم ثبوت خصوصا أي اعتراض من قبل أطراف موضوع تصفية الشركة…”.
الفقرة الثانية: الأركان الجوهرية لجريمة استغلال النفوذ :
يلزم لقيام جريمة استغلال النفوذ توافر ركنين هما :الركن المادي (أ)، والركن المعنوي (ب).
أ- الركن المادي :
الركن المادي المكون لجريمة استغلال النفوذ هو نفس الركن المادي المكون لجريمة الرشوة تقريبا، إذ ينحصر في القبول أو طلب الفائدة أو الوعد بها طبقاً لما نص عليه الفصل 87 م ج بغاية الحصول أو محاولة الحصول من أيه سلطة عامة على شيء مما ذكره النص. ولا يشترط أن يستلم المتجر بنفوذه العطية بالفعل، إذ مجرد طلب العطية أو مجرد قبولها يحقق الركن المادي و لو لم تؤخذ بالفعل .فالركن المادي يتمثل إذا في:
· استغلال النفوذ.
·قبول عطايا أو وعودا بالعطايا أو هدايا أو منافع كيفما كانت طبيعتها مباشرة أو بواسطة بدعوى الحصول على حقوق أو امتيازات لفائدة الغير ولو كانت حقا.
- العلاقة السببية بين استغلال النفوذ والمقابل، إذ لا بد من ان يكون الحصول على الامتيازات مرتبطا برابط السببية المباشر مع ما قدمه الشخص المستفيد من وعد أو عرض بحيث يكون الاستغلال ناتجا عن قبول هذا الوعد أو العرض.
ويشترط المشرع صراحة في الفصل 87 م ج أن يقع قبول هدايا أو عطايا لا أن يقع التفكير فيها. والمنفعة التي ذكرها الفصل 87 م ج أن تكون حاصلة وثابتة لا مفترضة ومحتملة. فأحكام الفصل 87 م ج ولئن كانت تشير إلى منافع كيفما كانت طبيعتها فإنه لا بد من إثبات قبول المتهم لتلك المنافع نتيجة ارتكابه للفعل وبناء على حجج واقعية مقبولة لا عن طريق الاستنتاج والافتراض، أي أن يثبتا العلاقة السببية بين استغلال النفوذ والمقابل.
ويفترض حسب الفصل 87 في الفاعل أن “يقبل” منفعة، أي أن قبول المنفعة يجب أن يكون مرتبطا باستغلال النفوذ. والاشارة الى عنصر القبول تقتضي بطبيعتها ان يكون هناك تقديم من الغير. فعبارة “يقبل” التي يفترض معها تلقي شيء ليس متوفرا لدى الموظف وقد أكدت محكمة التعقيب في قرارها عدد 680/733 المذكور أنه من الواجب ابراز العلاقة السببية بين أخذ العطايا أو قبول الوعد بها واستغلال النفوذ، إذ اعتبرت: ” وحيث أنه وخلافا لما جاء بمستندات القرار المطعون فيه فإنه لتكون جريمة الفصل 87 قائمة فإنه لا بد أن يثبت أخذ الفاعل الأصلي عطايا أو يقبل وعدا بها أو يطلب شيئا من ذلك سواء لنفسه أو لغيره، مقابل الحصول أو محاولة أو محاولة الحصول من السلطة المختصة على قرار لمصلحة المنتفع من الصفقة الذي سلم العطايا أو وعد بها ويعتبر هذا العنصر ركن أساسي لا يمكن إهماله وتغافله ذلك أنه لا تكون جريمة استغلال نفوذ قائمة في غيابه الأمر الذي انتفى في قضية الحال وهو ما أكده الاختبار المأذون به المجرى في قضية الحال وبالتالي يكون استبعادا هذا الاختبار من محكمة القرار المطعون فيه بتعليل مجمل وعام ودون الاستناد على ما له أصل ثابت بأوراق القضية فاقد السند الواقعي والقانوني”.
وبالرجوع إلى فقه قضاء محكمة التعقيب حول الرشوة نجده تعرفها على أنها : “إتفاق يقع بين شخصين يعرض فيه أحدهما على الآخر جعلا أو فائدة ما فيقبلها لأداء عمل أو الامتناع عن عمل يدخل في وظيفته أو في مأموريته، فهي في الأصل اتجار بالوظيفة العمومية أو ما شاكلها”
كما ذهبت محكمة التعقيب في قرارها عدد 639 المؤرخ في 04/07/2012 إلى القول: “أن ركن المقابل هو الركن الجوهري لجريمة استغلال النفوذ ولا بد من إقامة الدليل على وجود معاملات بين الطرفين وهو ما لم تثبته دائرة القرار المطعون فيه وما بررت به قضائها من إن استغراب رئيس الدول من الثمن المعروض وتوجيهه لعملية البيع دليل على وجود المنفعة المادية في جانبه غير وجيه وهي مجرد استنتاجات وتأويلات لا ترقي إلى القرائن القوية المتضافرة التي يمكن أن ترتب عليها النتائج القانونية السليمة…. فضلا على ان دائرة الاتهام لم تبين كيفية استغلال النفوذ من قبل رئيس الدولة السابق وكيفية ممارسته لضغوطات على الجهة القضائية المتعهدة بالقضية سواء بصفة مباشرة أو بواسطة… وصدور أوامر منه تبرز ممارسته لنفوذه بصفة واضحة وجلية بإعطاء الأوامر وفرض إتباعها على الجهة القضائية المختصة والتي لا يمكن أن تنبني على مجرد استنتاجات وتخمينات دون وجود قرائن قوية ومتضافرة تفيد ذلك علاوة على أنه وبالنسبة للمقابل فإن مجرد وضع علامة استفهام بجانب الثمن الملاحظة بإحدى المكاتبات الواردة على مؤسسة الرئاسة لا يرتقي الى مرتبة الحجة القوية للحصول قناعتها بتوفر ركن الحصول على عطايا أو هدايا أو الوعد بها فضل على أن نتيجة الاختبار المأذون به قضائيا أثبت عدم وجود أية معاملات بين المتهم والرئيس السابق أو بإحدى المؤسسات الأخرى…”.
ب- الركن المعنوي:
حيث نص الفصل 37 م ج على أنه: “لا يعاقب أحد إلا بفعل ارتكب قصدا…”. وعليه فإنّ أصل الجريمة هي عمدية إلا إذا نصّ المشرّع على غير ذلك صراحة. وبالتالي تندرج جريمة استغلال النفوذ ضمن الجرائم العمدية التي تشترط لقيامها توافر القصد الجنائي لدى الجاني، رغم ان المشرع لم ينص صراحة على هذا الركن، ولكن طبيعة الجريمة والافعال اللازمة لقيامها تقتضي بالضرورة ان تكون جريمة قصدية، وقد أكدت محكمة التعقيب في القرارين التعقيبين عدد 639 بتاريخ 4/7/2012 وعدد 680/733 بتاريخ 4/6/2013، أن: “الجريمة المنصوص عليها بالفصل 87 من المجلة الجزائية تتطلب توفر… ركنها المعنوي يتمثل بالقصد الجنائي”.
و يتوفر القصد الجنائي بتوفر عنصري الإرادة و العلم، أي اتجار ارادة الفاعل إلى جميع عناصر الفعل المادي المكون لجريمة استغلال النفوذ كما وصفها القانون ، مع العلم بأن ما يتلقاه من عطية أو وعد بها هو مقابل استعمال نفوذه لمصلحة المعطي . و يتوفر قصد المعطي إذا كان غرضه من تقديم العطية حمل صاحب النفوذ على الإتجار به أي السعي لدى سلطة ما من اجل تحقيق العمل المطلوب.
وفي الختام يمكن القول إن انتشار الفساد عموما و لدى أصحاب المناصب العليا خاصة، يؤدي إلى نزع الثقة بين المواطنين والدولة فتختل ثقة هؤلاء في القائمين على الأموال العمومية فتكون المضرة معنوية في المقام الثاني خاصة وأن تبادل الثقة بين الدولة والمواطن يعد عماد التوازن في كل مجتمع وحيثما توفر على نزعة تقدمية في أخلاق المجتمع وحس سياسي مرهف. إلى جانب أن جرائم الفساد والرشوة واستغلال النفوذ تؤدي إلى الإخلال بالثقة التي وضعتها الدولة في ذلك الموظف. فلا تساوي الدولة إلا ما يساويه الموظف العام تلك حقيقة أصبحت في مصاف البديهيات في الوقت الحاضر، فالدولة كشخص معنوي لا تتصرف إلا عن طريق الموظفين العموميين فهم يدها المنفذة ورأسها المفكر وإذا كانت حقيقة أزلية فإنها أظهر ما يكون في الوقت الحاضر. كما يؤدي الفساد إلى عدم المهنية وفقدان قيمة العمل والتقبل النفسي لفكرة التفريط في معايير أداء الواجب الوظيفي والرقابي مما يؤدي إلى عجز المسؤولين عن تطوير سياسة الدولة أو النهوض بها نظرا لعدم الكفاءة ونقص في المؤهلات خاصة بالنسبة للأشخاص الذين يتقلدون مناصب عن طريق الرشاوى والمحسوبية دون اجتياز مناظرات بشكل شفاف. ويؤدي الفساد أيضا إلى تراجع الاهتمام بالصالح العام والشعور بالظلم لدى الغالبية مما يؤدي إلى الاحتقان الاجتماعي وانتشار الحقد بين شرائح المجتمع.
