أخبار العالم العربي

تونس العاصمة تختنق: إمّا قرار جريء… أو فوضى بلا نهاية

لم تعد أزمة تونس العاصمة مسألة جمالية أو عمرانية فحسب، بل تحوّلت إلى عنوان واضح لفشل الخيارات الحضرية وغياب الحسم. فالعاصمة اليوم تعاني اختناقًا حقيقيًا بفعل الفوضى، والعشوائية، وانتشار الأسواق الموازية، بينما تظل مقوماتها الاقتصادية والثقافية غير مستغلة بالشكل الأمثل. غير أنّ هذه الصورة القاتمة لا تلغي حقيقة أساسية: تونس العاصمة قادرة على التحوّل إلى مدينة ذكية بمعايير عالمية إذا توفرت الإرادة السياسية والتخطيط الذكي.

إعادة المباني القديمة: من عبء مهمل إلى ثروة وطنية
تزخر العاصمة بمبانٍ تاريخية وإدارية قديمة تحوّلت مع الزمن إلى فضاءات مهترئة تُغذّي الفوضى بدل أن تصنع القيمة. إعادة تأهيل هذه المباني، وتنظيفها، وتنظيم محيطها، يجب أن يكون منطلق الإصلاح الحضري، عبر تحويلها إلى مراكز أعمال، ثقافة، سياحة، وخدمات، تحفظ الذاكرة وتخلق الثروة. وفي السياق ذاته، بات من غير المقبول استمرار تمركز الوزارات والمحاكم والمؤسسات الثقيلة داخل قلب العاصمة، حيث تجتمع في مناخ خانق من الازدحام والتلوث والتعطيل اليومي لحياة المواطنين. إخراج هذه المرافق نحو أقطاب إدارية حديثة ليس ترفًا تنظيميًا، بل ضرورة حضرية واقتصادية عاجلة.

المدينة العميقة: كرامة الإنسان أولًا
الأحياء العتيقة والعميقة مثل باب جديد، الحفصية، وسيدي البشير، تحتاج إلى مشروع وطني يعيد الاعتبار للإنسان قبل الحجر. القضاء على مظاهر الفقر، والقطع مع العشوائية، يمرّ عبر مشاريع سكنية وتجارية مدمجة تُعيد هذه المناطق إلى الدورة الاقتصادية للمدينة. أما أسواق “الفريب” العشوائية، فقد آن الأوان لتحويلها إلى أسواق منظمة وعصرية، تحافظ على النشاط التجاري الشعبي ضمن إطار قانوني وصحي وجمالي.

تنظيم الشوارع والحيّز التجاري
تعاني العاصمة من فوضى في توزيع الأنشطة التجارية، حيث تختلط الحرف وتتناقض الوظائف وتشوّه الفضاء العام. الحل يبدأ بالتثبّت الدقيق من مكونات كل شارع، وتحديد طابعه ووظيفته، والقطع النهائي مع الرسائل العشوائية والاحتلال غير القانوني للأرصفة. في المقابل، فإن إحداث مراكز تجارية كبرى بمعايير عالمية في مناطق مدروسة سيخفّف الضغط عن وسط العاصمة، ويخلق ديناميكية اقتصادية وسياحية حقيقية.

الأمن الاقتصادي: الحسم بدل التعايش مع الفوضى
لا يمكن بناء مدينة حديثة في ظل اقتصاد موازٍ منفلت. تكثيف المراقبة الأمنية والاقتصادية وحسم ملف الفوضى التجارية شرط أساسي لأي إصلاح. الدولة مطالبة بالانتقال من سياسة التعايش مع الفوضى إلى سياسة الحسم العادل، حمايةً للاقتصاد المنظم وإنصافًا للتجار والمستثمرين.

البلديات: فاعل محوري في الإصلاح الحضري
يبقى تفعيل أدوار البلديات عنصرًا حاسمًا في نجاح أي مشروع حضري. المطلوب خطط جديدة، كفاءات مؤهلة، وأدوات ذكية في التسيير، تقوم على البيانات، والشفافية، وإشراك المواطن في القرار المحلي. بلدية قوية تعني مدينة منضبطة.

رسالة مباشرة إلى السلطة التنفيذية
الوضع الراهن يفرض على رئاسة الحكومة والسلطة التنفيذية التعامل مع العاصمة كأولوية وطنية لا تحتمل التأجيل. تنظيم الفضاء العام، وإعادة توزيع الوظائف الإدارية، والقطع مع العشوائية، وتفعيل دور البلديات، ليست إجراءات تقنية معزولة، بل خيارات استراتيجية تعكس قدرة الدولة على التخطيط والتنفيذ. المطلوب اليوم رؤية واضحة، برنامج عمل محدّد، وآجال زمنية قابلة للقياس، ليُستعاد الثقة للمواطن ويُثبت أن العاصمة ما تزال في قلب الاهتمام الحكومي، لا على هامش القرار.

تونس العاصمة اليوم عند مفترق حاسم بين استمرار الفوضى ورهان الإصلاح الجذري. السياسات الواضحة والتنفيذ المنضبط ليست رفاهية، بل ضرورة استراتيجية. العاصمة لا تحتاج إلى وعود جديدة، بل إلى برامج قابلة للتنفيذ، لأن قوة الدولة تبدأ من انتظام عاصمتها، ومن احترام المواطن لمدينته، واحترام الدولة لالتزاماتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى