بمناسبة يوم المعلم جوهرة القحطاني: عندما يتحول القيادة إلى قصيدة إنسانية.

“في رواية ‘مجتمع الشعراء الأموات’، يقول الأستاذ كيتنغ لتلاميذه: ‘نحن لا نقرأ الشعراء ولا نكتب الشعر لأنها هواية لطيفة، بل لأننا أفراد من الجنس البشري’.
هذه الكلمات تعبر عن جوهر التعليم الحقيقي الذي لا يقتصر على نقل المعرفة، بل يلامس شغاف القلب ويضيء جوانب الروح.
وهذا بالضبط ما جسّدته الأستاذة جوهرة القحطاني في مسيرتها القيادية، حيث حولت مكتبها إلى مساحة إنسانية، وجعلت من منصبها وسيلة لخدمة الآخرين، وتركت في كل من قابلتها أثراً لا يمحى.
أتذكر ذلك اليوم الذي دخلت فيه عليها أحمل بين جوانحي همًا ثقيلاً.
لم أجد بابًا مغلقًا، ولا سكرتيرًا يحجب الطريق، ولا موعدًا يجب انتظاره.
كان الدخول إليها كالدخول إلى بيت العائلة، حيث الأبواب مفتوحة والقلوب أوسع.
ولكن المفاجأة الحقيقية كانت في ما وراء الباب.
لم تبق جالسة خلف مكتبها كما يفعل معظم المسؤولين، بل نهضت ببساطة وتركت كرسي السلطة وجلست على الكرسي المقابل لي. في تلك اللحظة، لم يكن الأمر مجرد تغيير مكان، بل كان تحولاً كاملاً في فلسفة القيادة.
لقد أسقطت بكل بساطة كل الحواجز الرسمية، وجعلت من جلستنا حوارًا بين إنسانين، لا لقاءً بين مسؤولة ومراجعة.
ما حدث في تلك الجلسة كان درسًا عميقًا في معنى القيادة الإنسانية.
بقدرتها الفطرية على الإصغاء، وبعينين تفيضان بالتعاطف، استمعت إلي كما لم يستمع لي أحد من قبل. لم تكن تنتظر دورها للكلام، بل كانت تنصت بكل كيانها لفهم ما وراء الكلمات. ثم جاءت كلماتها كالبلسم على الجرح: ‘من حقك أن تبحثي عن كل حل ممكن ما دام الأمر يزعجك.
هذه الكلمات البسيطة كانت بمثابة إطلاق سراح لروح كانت مقيدة بالقلق.
لقد منحتني الشرعية لمشاعري، والأهم من ذلك، منحتني الثقة بنفسي مرة أخرى. في تلك اللحظة فهمت معنى أن تكون القيادة إنسانية، وفهمت لماذا كانت الأستاذة جوهرة مختلفة عن غيرها.
كم من قائد يدرك أن أبسط الحركات قد تكون أعظم الدروس؟ كم من مسؤول يفهم أن ترك الكرسي قد يكون بداية لبناء جسر من الثقة؟ الأستاذة جوهرة علمتني أن القيادة الحقيقية تبدأ عندما نترك مواقعنا لنكون في مواقع القلوب.
لقد شغلت الأستاذة جوهرة عدة مناصب قيادية في تعليم الأحساء، من إدارة التوجيه والإرشاد إلى مساعدة الشؤون التعليمية، لكنها في كل موقع حافظت على نفس النهج الإنساني. كانت تدرك أن العمل القيادي ليس مجرد توقيع أوراق وإصدار قرارات، بل هو أساسًا بناء علاقات إنسانية صادقة.
أما الأكثر إنسانية في مسيرتها، فكان متابعتها الشخصية لكل حالة.
لم تكن تنتهي جلسات الاستماع بمجرد مغادرة الزائر لمكتبها، بل كانت تتابع بنفسها حتى تتأكد من انتهاء المشكلة.
كانت ترى في كل مراجع إنسانًا يستحق الاهتمام، وكل مشكلة تستحق الحل.
اليوم، وبعد تقاعدها، أتذكرها بشعور عميق بالامتنان. أتذكر كيف جعلت من القيادة فنًا، ومن الإدارة أخلاقًا، ومن المسؤولية رسالة. لقد كانت بحق النموذج الحي للقائدة التي جمعت بين حكمة المعلم وقلب الأم وروح القائد.
ولكي أكون صادقة مع نفسي أولاً ومعكم ثانياً، فإنني أعتذر عن كسر قاعدة التزمتها طوال عمري: ألا أثني على مسؤول! نعم، لطالما آمنت أن صمت النزيه خير من ثناء المتملق، وأن قلمي يجب أن يظل حراً بعيداً عن موائد المسؤولين.
خشيت أن يُختزل ثنائي في سجل المطبلين، أو أن يُفسّر إعجابي على أنه بحث عن مصلحة.
لكنني اليوم أمام استثناء لا أملك معه إلا أن أقول كلمتي بكل شجاعة وصدق.
فالأستاذة جوهرة لم تعد في منصب يمكن أن تمنحني منه شيئاً، ولم أعد أنا ذلك الشخص الذي يمكن أن يطلب منها حاجة.
لقد تحررنا معاً من كل ما يمكن أن يشوب الكلمة ويشكك في النية.
إنها شهادة أقف أمامها بكل ثقة واطمئنان، وأضعها بين أيديكم كما وضعتها بين يدي ضميري: نادرة هي الشخصيات التي تستحق أن نكسر من أجلها القواعد، ونخرق من أجلها الصمت.
في يوم المعلم، أتوجه بالشكر للأستاذة جوهرة القحطاني، ولكل معلم ومعلمة وقائد وقائدة حملوا رسالتهم بصدق وتركوا أثرًا إنسانيًا في حياة من حولهم. فالتعليم والقيادة ليسا مجرد وظيفة، بل هما رسالة سامية، والكلمة الصادقة والموقف الإنساني هما أعظم ما يمكن أن يقدمه المعلم والقائد.
في الختام، أقول إن الدروس الحقيقية في الحياة لا توجد في الكتب والمناهج فقط، بل توجد في القلوب الكبيرة التي تفتح أبوابها للآخرين، وفي النفوس الشفافة التي تلمس القلوب قبل العقول.
والأستاذة جوهرة القحطاني كانت – ولا تزال – من تلك القلوب الكبيرة التي تترك أثرها في كل من تقابلهم.
بقلم:
أمل مطلق الحربي”