الأخبارسياسةمقالات قانونية

المناظرات الإعلامية بين المترشحين


بقلم: الدكتور جابر غنيمي
المساعد الأول لوكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد
مدرس جامعي

المقدمة:
تشهد المعارك الانتخابية بين المرشحين للانتخابات التشريعية أو الرئاسية في دول العالم الديمقراطية مناظرات سياسية تعرض على الهواء مباشرة، وعادةً ما تكون بين خصمين سياسيين أو أكثر بهدف إقناع أكبر قدر ممكن من الناخبين والحصول على أصواتهم، خصوصاً الفئة الشعبية غير المنحازة لطرف معين.
والمناظرة في اللغة مأخوذة من النظير أو من النظر بمعنى الإبصار أو الانتظار، وفي الاصطلاح هي النظر بالبصيرة من الجانبين المعلل والسائل بغرض إظهار الصواب.  وعلم المناظرة علم عربي أصيل يختص بدراسة الفعالية التناظرية الحوارية من خلال تقعيد قواعدها المنطقية وشروطها الأخلاقية بقصد تطوير أسلوب المباحثة التي تتم بين طرفين يسعيان إلى إصابة الحق في ميدان من ميادين المعرفة، حيث يواجه كل طرف الطرف الآخر بدعوى يدعيها ويسندها بجملة من الأدلة المناسبة، يواجهها في ذلك اعتراضات الخصم.
فالمناظرة هي فن من فنون الأدب العربي، معروفة منذ القدم، وتقوم على أساس تصادم وجهتي نظر من خلال حاملي هاتين الفكرتين أمام جمع من الناس قلّ أو كثر.
 
وقد عرف في التاريخ صور من هذا الخطاب الإعلامي من خلال مناظرة العرب القدماء في قصائد الشعر، والتباري في التباهي في النفس وذم الآخر، والصورة المعاصرة لهذه المناظرات لم تتغير كثيراً، اللهم إلا أن تكون هذه المناظرات أخذت صبغة التغطية الإعلامية المعاصرة، وتوزعت موضوعاتها لتشمل جوانب الحياة جميعاً.
ومنذ زمن بعيد عرفت الأنظمة الديمقراطية المناظرة السياسية، ورغم أن الريادة في العصر الحديث تعود إلى الولايات المتحدة فإن دولاً أوروبية كثيرة شهدت ولادة ما تسمى مناظرات القادة منذ أكثر من قرن من الزمن. و هو ما عرفته بعض الدول العربية مثل تونس و مصر
وتكتسي المناظرة شعبيتها الواسعة من خلال نقلها عبر التلفزيونات او الفيسبوك او اوتوبتر، كما أنها تسمح عند نهايتها بقياس الرأي العام واتجاهاته لمصلحة شخصية مقابل أخرى.
وغدت المناظرات الإعلامية أحد أكثر الأمثلة المذهلة للتغطية الإعلامية المعاصرة للسياسة، حيث أصبحت تقليدًا إلزاميًّا في الحملات الانتخابية في العديد من الدول ، وباعتبارها أيضًا واحدة من أدوات السياسة المعاصرة الأكثر إثارة على مستوى الممارسات التواصلية للديمقراطية. وهذا ما يعزز إلى حدٍّ كبير الفكرة القائلة: إن كل الانتخابات غدت تحركها وسائل الإعلام؛ إذ إن الجزء الأساسي من أية حملة سياسية/انتخابية يحدث في وسائل الإعلام، فقد انتقلت هذه الأخيرة تدريجيًّا من القيام بدور الإبلاغ عن السياسة وما يدور في مجالها إلى لعب دور المشارك النشط في العملية السياسية والانتخابية؛ حيث أصبح السياسيون والمنتخبون يعتمدون بشكل متزايد على وسائل الإعلام في التواصل مع الناخبين، وفي نفس الوقت يتلقى الناخبون معظم معلوماتهم المتعلقة بالمرشحين من خلال وسائل الإعلام، مما منح المناظرات الإعلامية زخمًا كبيرًا من الأهمية أثناء الحملات الانتخابية.
ولقد تم الاعتراف بحرية المناظرة السياسية كحق أساس من قبل المحاكم الدولية وغيرها من الهيئات الدولية الأخرى، والمحاكم الوطنية.
ولقد أشارت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في عام 1978 إلى أن: “حرية المناظرة السياسية هي من صميم مفهوم المجتمع الديمقراطي”.  وحرية المناظرة السياسية تعني القدرة على بمناقشة الشؤون السياسية بإنفتاح أمام الشعب أو الإعلام، اعتماداً على الإمكانية القصوى في الوصول الى المعلومات حول القضايا السياسية. وهي تعبير عن نطاق من الحريات الأساسية.
وقد اشتغلت المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان في العام 1992 في حرية المناظرة السياسية، مشيرةً الى انها لاتعبر فقط عن التعبيرعن حرية الاراء وتلقي المعلومات المهمة، بل وكذلك الاعلام بإعتباره منتدى للتفاعل بين السياسييين والشعب
وأول مناظرة في التاريخ الحديث تمت في عام 1860 في الولايات المتحدة، بين مرشحي الرئاسة: الجمهوري إبراهام لينكولن، والديمقراطي ستيفن دوغلاس.
وأول مناظرة مرئية في العالم أيضاً كانت في الولايات المتحدة التي أعطت للمناظرات السياسية بين مرشحيها دوراً بارزاً في نجاحه.
ففي عام 1960 كان التلفزيون وسيلة إعلامية جديدة نسبياً، وكان نحو 70 مليون أمريكي تابعوا المناظرة مباشرةً بين السيناتور جون كيندي عن الحزب الديمقراطي، والنائب ريتشاد نيكسون.
وشهدت مصر في عام 2012 أول مناظرة عربية سياسية على الهواء مباشرة بين مرشحي الرئاسة المصرية، الأمين العام الأسبق للجامعة العربية عمرو موسى، ورئيس حزب مصر القوية عبد المنعم أبو الفتوح.
و في تونس اجريت مناظرة تلفزيونية بين المرشحين للانتخابات الرئاسية التي جرت في 15 سبتمبر2019 لاختيار رئيس من أصل 26 مرشحا، في ما يشكل مبادرة نادرة في العالم العربي.
وتكمن المناظرة الإعلامية في أهميتها )الفقرة الأولى( و تتعدد أساليبها )الفقرة الثانية(
الفقرة الأولى: أهمية المناظرات الإعلامية
إن اعتماد المناظرات الإعلامية في الانتخابات من شأنه أن يزيد من اهتمامات المواطنين ومعرفتهم السياسية، بحكم أنها تؤدي إلى تغيير محتمل في المواقف تجاه النظام السياسي أو التأثير على صورة السياسي في حد ذاته؛ مما سيدعم ويعزز أكثر مسار الانتقال الديمقراطي. كما تُيَسِّر (المناظرات التليفزيونية) عملية الحصول على المعلومات حول مختلف القضايا المثارة للنقاش، والتأثير أيضًا على تصورات الناخبين حول سمات المرشح؛ ذلك أنها تحفز المواطنين للبحث عن معلومات إضافية، والتحدث مع الآخرين حول البرامج والمشكلات والسياسات والأفكار التي تثار داخلها، وهي تجربة معزِّزة للشعور بالثقة في تحصيل هذه المعرفة السياسية وتغذية قدرتهم على المشاركة في العمل السياسي. وقد تؤدي مشاهدة المناظرات وتتبعها إلى تنشيط عدد من الميول المدنية والديمقراطية الكامنة؛ وتعزيز شعور المواطنين بالفعالية السياسية، بما في ذلك فعالية المعلومات السياسية، وتقلِّل في نفس الوقت من السخرية السياسية، وتعزز دعم المؤسسات السياسية، والاهتمام بالحملات الانتخابية الجارية وتحفيز المواطنين على التصويت.
وهذا يبرهن على أن تعرض الجمهور للجدل السياسي على مستوى المناظرات الانتخابية الإعلامية يسهم في إنتاج آثار معرفية وسلوكية لها قيمة كبيرة للعملية الانتخابية.
وعليه، يمكن القول: إن المناظرات الإعلامية حول الانتخابات يمكن أن تؤدي وظيفة ديمقراطية قيِّمة، من خلال تمكين الناخبين من تقييم الرؤساء المحتملين وسياساتهم؛ لأنها تساعد على تبسيط اختيارات الناخبين، أو تحفزهم ليصبحوا مواطنين أكثر وعيًا وثقة وإشراكًا. فهي قد تسهم إلى حد كبير في تشكيل الآراء المستنيرة حول المرشحين والسياسات. وإلى جانب التأثير المباشر على تفضيلات تصويت المواطنين، فهي قد تفرز نوعًا من الخيار العقلاني لدى الناخب ، وتؤدي إلى خلق مزيد من الناخبين المطلعين، ويمكن أن تكون مصدرًا مهمًّا لإقناع الناخبين في الأمور المتعلقة بالسياسة بصفة عامة والانتخابات بصفة خاصة، بحكم أنها تصل إلى أكبر عدد من الجمهور، وعلى اعتبار أن هذه المناظرات الاعلامية استطاعت عبر تاريخ اعتمادها وتطورها وفق نماذج الديمقراطيات الغربية توليد أكبر “جمهور مشاهدة” أثناء الحملات الانتخابية خصوصًا الإعلامية منها؛ ذلك أن المناظرات التليفزيونية تشكِّل دائمًا الحدث السياسي الأبرز والقادر على جذب انتباه المواطن الذي قد يكون منشغلًا بآليات تواصلية انتخابية أخرى، أو قد يكون على الهامش منغمسًا في حالات اللامبالاة السياسية والانتخابية.
وعليه، فالمناظرات الإعلامية تنتج عنها تأثيرات إيجابية وعلى مستويات مختلفة:

  • التأثير على المستوى المعرفي: تؤثِّر المناظرات الإعلامية بشكل إيجابي في التكوين المعرفي لدى المواطنين/الناخبين من خلال اجتثاث أصول معرفية قديمة معيبة، وإحلال محلها معلومات ومعارف جديدة تهم العملية السياسية والانتخابية، وتوفر فرصًا أكبر للتفاعل والمشاركة والتتبع والمراقبة، والتي تترتب عليها سلوكيات انتخابية جيدة تؤثر بشكل إيجابي على العملية الديمقراطية والاستحقاقات الانتخابية، فهي تشمل تغيرات على مستوى المعلومات التي تتشكل لدى الفرد بخصوص العملية الانتخابية، وخصوصًا مجمل الآراء والاعتقادات والمواقف والسلوك، فيما يتعلق بجانب الحملات والبرامج الانتخابية وتكوين معرفة شاملة حول المرشحين، وكون المناظرات دائمًا ما تفرض الاحتفاظ بآراء سياسية أكثر ثباتًا ورزانة وعقلانية ومعرفة المزيد عن المرشحين والأرجح التصويت بشكل صحيح.
  • التأثير الوجداني/العاطفي: إن من بين الإشكالات التي يعاني منها المواطن في علاقته مع العملية السياسية والانتخابية هي تشكيل ما يُعبَّر عنه في أدبيات التحليل الماركسي بالاغتراب السياسي، وهي حالة نفسية تعبِّر عن فقدان الفرد للثقة في النظام السياسي ومؤسساته وفاعليه، وما يترتب عليها من إحباط وسخط سياسيين، مما يتسبب في ارتفاع مستويات العزوف السياسي والانتخابي.
    وعلى هذا الأساس، وبحكم الارتباط المفصلي بين الجانب المعرفي المرتبط بالجانب العقلي والجوانب النفسية، فإن تأثير المناظرات الاعلامية مسألة واردة إلى حدٍّ كبير، فهي قادرة على إحداث محفزات وجدانية عاطفية إيجابية، بحكم المعارف السياسية والانتخابية التي تتشكِّل لدى المواطن/الناخب، داعمة بذلك مسلكيات إعادة الأمل السياسي، وترسيم إحداثيات التفاؤل السياسي لدى المواطنين، وهي كلها أمور قد تُحدث قطائع مع حالات الشعور باللامعيارية واللامعنى واللاقدرة التي تلازم الجانب الوجداني/العاطفي لدى الناخب، والتي تقوِّض ميولاته الانتخابية الإيجابية.
  • التأثير السلوكي: من خلال التأثير في مختلف أشكال التصرف والأفعال وردود الأفعال التي يظهرها المواطن أثناء اللحظة الانتخابية نتيجة تأثره بالمناظرات التليفزيونية، فهذه الأخيرة تعتبر بمنزلة محفز إيجابي للسلوك الانتخابي بدرجة أولى، عبرها يمكن تبلور سلوك انتخابي شفاف ونزيه يعتمد في أصوله على المنافسة الحرة بين البرامج، وعبرها يحترم المرشحون مدارك ومعارف المواطنين/الناخبين، وعن طريقها يحسِّن المواطن اختياره بعد نقاشات مستفيضة قائمة على التناظر والحجاج، حيث يسعى كل طرف مترشح إلى إقناع الناخبين بوجاهة مقترحاته وآرائه وبرامجه وخططه في مواجهة مختلف القضايا التي تؤرِّق المجتمع.
    إن قيم الحوار الديمقراطي التي تؤسسها وتفرزها المناظرات التليفزيونية يمكن أن تسهم في تقويم مختلف اعوجاجات السلوك الانتخابي التي تراكمت خلال حقبة من الزمن الاستبدادي الذي كانت تؤطره فروض السلطوية الانتخابية والوصاية الانتخابية وغياب أي إمكانية لحرية الاختيار في انتخاب الرئيس، بالإضافة إلى النفوذ الذي تمارسه سلطة المال في العملية الانتخابية برمتها.
    ويبقى الدور الأمثل أيضًا الذي ستقوم به هو أنها ستسهم في فك وتكسير أغلال تابوهات كانت محظورة وهي قدسية ورمزية رئيس الدولة. وفي هذا الصدد، تقول زينب التوجاني: “رمزيًّا، ستلعب المناظرة بالشكل العمودي الذي كانت عليه تأثيرًا حاسمًا في اللاوعي النفسي الجماعي للتونسيين خاصة صغار السن، فهم يتدربون على عدم تقديس الحكام، بمعنى أن الرئيس المقبل ليس ذلك الأب الذي يحدد القواعد ويفرضها ويضعها. لقد انقلبت العلاقة من أبوية والشعب في موضع القاصر إلى علاقة فيها الشعب ممثَّلًا في موقع الصحفيين يُسائل هذا الواقف أمامه طالبًا أن يحكمه لا بوصفه يملك سيادة من ذاته أو خارج عقد العلاقة بينه وبين المواطنين، بل هو في موقع يطلب الشعب أن يختاره وشرعيته الوحيدة حُسن إجابته وتواصله وإقناعه، مما يؤكد السقوط الرمزي لأبوية موقع الرئيس وانتهاء سلطة المستبد الرمزية النفسية”.
    وفي نفس السياق، يرى محمد الجويلي أن ميزة هذه المناظرات كونها “تضع مكانة الرئيس موضع تساؤل وامتحان؛ وهذا من شأنه أن ينزع عنه صفة القداسة وصورة الرئيس الذي لا يخطئ مثلما هي موجودة في بيئتنا العربية الإسلامية وذهنيتنا السياسية. لذلك، تضع هذه المناظرة الرئيس في موضع سخرية وتردد عندما لا يجيب بشكل جيد، وهذا كسر للعلاقة بين السلطة المطلقة والحقيقة المطلقة، وهو أهم إنجاز في اعتقادي تحققه المناظرة وكل ما بقي وما زاد على ذلك تفاصيل لا قيمة لها؛ فالقداسة هي التربة التي ينبت فيها الاستبداد”.
  • دور المناظرات التليفزيونية في حسم نتائج الانتخابات: 
    إن المبرر الذي يتم الاستشهاد به في كثير من الأحيان للاهتمام الكبير الذي يُمنح لمناظرات الحملات الانتخابية الرئاسية أنها تصل إلى جمهور كبير.
    وعلى سبيل المثال، ما يقرب من 80% من السكان البالغين في الولايات المتحدة شاهدوا أو استمعوا إلى واحدة على الأقل من مناظرات كينيدي-نيكسون لعام 1960، ويظل عدد المشاهدين في المناظرات الرئاسية للانتخابات العامة التليفزيونية قويًّا، عادة في حدود 50 إلى 60 مليون.
    ففي الواقع، سجل نقاش كلينتون-ترامب الأول، لعام 2016، رقمًا قياسيًّا في عدد المشاهدين حيث بلغ حوالي 84 مليون مشاهد، ذلك أن المناقشات الرئاسية تستمر دائمًا في توليد أكبر جمهور مشاهدة لأي حدث مرتبط بحملة انتخابية تليفزيونية.
    وعلى قدر هذه المزايا التي تنتجها المناظرات التليفزيونية نجد ما يقرب من ستة عقود من الأبحاث المنشورة، كان موضوع التحليل الأكثر متابعة في أدبيات النقاش السياسي قد سعى إلى الإجابة على السؤال التالي: “هل تعتبر المناظرات مسألة مهمة في الاستحقاقات الانتخابية الرئاسية على الخصوص؟” هذا السؤال، الذي يركز على طبيعة تأثير النقاش، ركز بشكل أساسي على متغيرات النتائج الرئيسية لتفضيل المرشح واختيار الأصوات على وجه التحديد، بمعنى يبقى السؤال المطروح دائمًا: هل تؤثر المناظرات على نتائج الانتخابات الرئاسية بشكل حاسم؟
    وللإشارة، فقد أثبت الكثير من الأبحاث والدراسات أن المناظرات الرئاسية تؤثر على تقييمات المرشحين ونوايا التصويت، وقد أظهرت النتائج أن تقييمات أجهزة الاستقبال لأداء المرشح في المناقشات التليفزيونية تؤثر بشكل كبير على نية التصويت بعد النشر. حيث يؤثر عرض المناظرات على تقييمات الناخبين للمرشحين، بما في ذلك تصورات حول درجة اهتمامهم بالمرشحين، وتقييم صفات القيادة والقدرات الخطابية والتواصلية والبرامج ومختلف التصورات والآراء. وهكذا، يمكن اعتبار أن المناظرات التليفزيونية “تلعب في كثير من الأحيان دورًا مهمًّا ومقنعًا في عملية الحملة”، وهي “ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتغييرات في تفضيلات الناخبين”.
    إن المناظرات الرئاسية في الحملات الانتخابية تؤثر على تصورات الناخبين حول شخصية المرشحين وتؤثر بشكل كبير على تفضيل التصويت، وهو التأثير الأكثر وضوحًا؛ ذلك أن التواصل عن طريق المناظرات التليفزيونية يمارس أكبر تأثير على قرارات التصويت خصوصًا عندما نجد “أحد المرشحين غير معروف جيدًا، والكثير من الناخبين لم يحسموا أمرهم بعد، أو في حالة ما إذا كانت تبدو المنافسة متقاربة، والولاءات الحزبية ضعيفة”، فعندما يكون عدد أكبر من الناخبين الذين لم يحسموا أمرهم، فإن تأثيرات المناظرات ستزيد حتمًا إلى أقصى حد.
    وقد أثبت كل من ميتشيل ماكني (Mitchell McKinney)، وديانا كارلين (Diana Carlin)، هذا المعطى في عملهم البحثي من خلال إجراء تحليل للمناظرات على المستوى الرئاسي، حيث قدَّما بعض بيانات استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسة غالوب بعد الدعاية والحملات الانتخابية التسع التي شملت مناقشات الانتخابات العامة، يشير إلى أن المناظرات التليفزيونية لعبت دورًا حاسمًا في نتائج أكثر من نصف تلك الانتخابات، بما في ذلك سنوات 1960 و1976 و1980 و2000 و2004.
    وهذا لا ينفي أن هناك دراسات أخرى فنَّدت هذه النتائج المحصل عليها، واعتبرت أن الحسم في نتيجة الانتخابات مرتبط بمتغيرات وسياقات أخرى لا علاقة لها بالمناظرات التليفزيونية.

الفقرة الثانية:أساليب المناظرات الإعلامية
و تتمثل في:

  • المناظرة التنافسية:
    في المناظرات التنافسية، يتنافس المترشحون ضد بعضهم ويُقيّم الفائز من خلال قائمة من المعايير التي تستند عادةً إلى مفاهيم “المحتوى والأسلوب والاستراتيجية”.
    و تتخذ المناظرة التنافسية أشكالا متعددة:
    الخطاب الارتجالي:
    الخطاب الارتجالي هو أسلوب لا يتضمن أي تخطيط مسبقًا، وفريقين لكل منهما متحدث أول وثاني. في حين أن غالبية الحكّام سوف يسمحون للمناظرين بالاستشهاد بالأحداث الجارية والإحصائيات المختلفة (التي قد يشك الخصم في مصداقيتها)، فإن البحث الوحيد المسموح به هو مقال أو أكثر من المقالات المقدمة للمناظرين إلى جانب القرار قبل المناظرة بفترة وجيزة.
    تبدأ هذه المناظرة بخطاب إيجابي بنّاء من المتحدث الأول، متبوعة بخطاب سلبي؛ ثم خطاب إيجابي ثم سلبي للمتحدث الثاني على التوالي.
    مدة كل خطاب سابق ست دقائق، وتليها دقيقتان من الاستجواب الشامل. ثم، هناك دحض لإيجابي وسلبي المتحدث الأول، ودحض للمتكلم الثاني السلبي والإيجابي، على التوالي. هذه الخطب تستغرق كل منها أربع دقائق. لا يمكن طرح أي نقاط جديدة في الجدال خلال عمليات النقض.
    ويركز نمط المناظرة هذه عمومًا على ثلاثة ادعاءات رئيسية، رغم أن الفريق يمكنه أحيانًا استخدام اثنين أو أربعة من أجل أن يفوز الجانب الإيجابي، يجب هزيمة جميع الادعاءات السلبية، ويجب ترك جميع الادعاءات الإيجابية قائمة. يجب ربط معظم المعلومات المقدمة في النقاش لدعم أحد هذه الادعاءات أو «وضع إشارة». يتشابه الخطاب الارتجالي كثيرًا مع الأشكال المعروفة باسم مناظرة السياسة العامة ومناظرة الكونغرس. ومع ذلك، فإن أحد الاختلافات الرئيسية بين الاثنين هو أن الخطاب الارتجالي يركز بشكل أقل على تنفيذ القرار. أيضًا، يُنظر إلى الخطاب الارتجالي في المزيد من المجالات، خاصة في الولايات المتحدة، كشكل من أشكال الخطاب، والذي يعتبر منفصلًا عن المناظرة، أو في حد ذاته شكلًا من أشكال المناظرة مع عدة أنواع من الأحداث.
    المناظرة بأسلوب أكسفورد:
    المناظرة بأسلوب أكسفورد، المستمد من مجتمع المناظرة لاتحاد أكسفورد في جامعة أكسفورد، هي شكل من أشكال المناظرة التنافسية يتميز باقتراح محدد بشكل واضح يقترحه أحد الأطراف ويعارضه الطرف الآخر. يُعلن عن الفائز في المناظرة بأسلوب أكسفورد إما بتصويت الأغلبية أو أي فريق استطاع التأثير بشكل أكبر على الجمهور بين التصويتين.
    تتبع المناظرات حسب أسلوب أكسفورد هيكلية رسمية تبدأ بالجمهور الذين يدلون بأصواتهم قبل المناظرة على اقتراح إما مؤيد أو معارَض أو لم يقررون بعد. يقدم كل مشارك كلمة افتتاحية مدتها سبع دقائق، وبعدها يأخذ المشرف أسئلة من الجمهور مع تحديات بين الفريقين. أخيرًا، يقدم كل مشارك حجة ختامية مدتها دقيقتان، ويقدم الجمهور تصويتهم الثاني (والأخير) للمقارنة مع الأول
  • أشكال أخرى للمناظرة: المناظرة على الانترنت “أونلاين”
    مع تزايد شعبية الإنترنت وتوافره، تبرز الآراء المختلفة بشكل متكرر، غالبًا ما يُعبّر عنها عبر المضايقة والأشكال الأخرى من الجدال، والتي تتكون أساسًا من التأكيدات، إلا أن مواقع المناظرة الرسمية موجودة. يختلف أسلوب المناظرة من موقع إلى آخر، مع تطور المجتمعات والثقافات المحلية.
    تعمل بعض المواقع على الترويج لإثارة الخلاف والذي يمكن أن يشابه «المضايقة» (الإهانة الشخصية لخصمك، والمعروفة أيضًا بنوع من مغالطة الشخصنة)، بينما تقوم مواقع أخرى بضبط هذه الأنشطة بشكل صارم وتشجع بقوة على البحث المستقل والحجج الأكثر تنظيمًا.
    وتعمل مجموعات القواعد على مواقع مختلفة عادةً على تنفيذ أو إنشاء الثقافة التي يتصورها مالك الموقع، أو في بعض المجتمعات الأكثر انفتاحًا، المجتمع نفسه. وتُضبط عبر محتوى المنشور وأسلوبه وبنيته إلى جانب الاستخدام المتكرر لأنظمة «المكافآت» (مثل السمعة والألقاب وأذونات المنتدى) للترويج للأنشطة التي يُنظر إليها على أنها مثمرة مع عدم تشجيع الإجراءات غير المرحب بها.
    وتختلف هذه الثقافات بما فيه الكفاية بحيث يمكن لمعظم الأنماط العثور على مكانة.
    وتمارس بعض مجتمعات ومنتديات المناظرة عبر الإنترنت مناقشة السياسة عبر رفع الخطابات وعدد الكلمات المحددة مسبقًا لتمثيل الحدود الزمنية الموجودة في المناظرة الواقعية. تتميز هذه المناظرات الافتراضية عادة بفترات طويلة من الوقت التحضيري النظري، بالإضافة إلى القدرة على البحث أثناء الجولة.
    وفي الأصل كانت معظم مواقع المناظرة أكثر بقليل من لوحات نشرات أونلاين، منذ ذلك الحين أصبح التطوير الخاص بالموقع شائعًا بشكل متزايد في تيسير أساليب المناظرة المختلفة.
    الخاتمة:
    لقد غدت المناظرات التليفزيونية عنصرًا أساسيًّا في التواصل على مستوى الحملات السياسية المعاصرة، أي أضحت عبارة عن “جزء مؤسسي من مشهد الحملة”، فهي تجذب جماهير أكبر، وأكثر تنوعًا من أي شكل آخر من أشكال التواصل أثناء الحملات الانتخابية، ويجد الناخبون المؤيدون أن مناقشات المرشح مفيدة.

كما أن المناظرات التليفزيونية من أكثر مصادر المعلومات قيمة في عملية اتخاذ القرار بخصوص التصويت النهائي. وهذا الأمر قائم في الدول التي خبرت اعتماد هذه المناظرات بطريقة احترافية،
وعلى الرغم من التأكيد دائمًا على تأثير المتغير الحزبي والأيديولوجي والعائلي والقبلي وباقي المؤثرات الأخرى على السلوك الانتخابي، فالمناظرات التليفزيونية تضع النقاش السياسي على المرشحين أنفسهم خلال فترة الحملة الانتخابية، أي إذكاء منسوب “السياسة التي تركز على المرشح”، والتي تشجع المرشحين على أن يصبحوا “صرحاء” مع الناخبين، بمعنى أن تغدو المناظرات بمنزلة كرسي اعتراف، كما تخضع الخلفيات الشخصية للمرشحين وسمات الشخصية للتدقيق من قبل النقاد السياسيين والإعلام أيضًا، وهذا يجب ألا يحجب حقيقة أن يكون تقييم المرشحين على أساس ما يقولون أيضًا، وكذلك على كيفية تصرفهم، وتحركاتهم، وأنماط تفاعلاتهم مع مختلف القضايا المطروحة. وعليه، فعملية صنع القرار لدى الناخبين أصبحت بحاجة إلى أن تسهم المناظرات التليفزيونية في تشكيل وبناء تصورات الناخبين للخصائص الشخصية للمرشحين التي يمكن أن تؤثر على اختيارات السلوك التصويتي للناخبين.
إن المناظرات التليفزيونية تجعل السمات الشخصية عنصرًا أساسيًّا في التقييم السياسي الانتخابي، على الرغم من أن العديد من الناخبين قد يقاومون الإقناع، إلا أن المعايير التي يستخدمونها في إصدار الأحكام السياسية تبدو أكثر مرونة؛ ذلك أن المناظرات تجعل الانتباه إلى السمات الشخصية للمرشح في متناول الناخبين بشكل أكبر، مما يجعل الفرد يزن سمات المرشح بشكل أكبر عند إصدار حكم سياسي/انتخابي، مثل تقييم المرشحين أو اختيار التصويت.
في النهاية، فإن الحكم على المرشحين هو انعكاس للمعايير التي كان الوصول إليها أكثر إدراكًا، وليس إحصاءً للمعلومات التي حصل عليها الناخب أثناء الحملة الانتخابية. وعليه، يمكن القول: إن المناظرات التليفزيونية قد تسهِّل وتشجِّع خيارات التصويت على أساس جودة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى