مقالات قانونية

القاضي الإداري والنزاعات المتعلّقة برخص البناء

يعتبر حقّ الملكية حقا أساسيا لصيقا بذات الإنسان أفردته جلّ التشريعات بمكانة مميّزة. وعلى هذا الأساس خصّه دستور 25 جويلية 2022  بحماية مضاعفة حيث أكّد الفصل 29 منه أنّ “حق الملكية مضمون ولا يمكن النيل منه إلاّ في الحالات وبالضمانات التي يضبطها القانون”، كما اقتضى الفصل 55 منه على أنّه “لا توضع قيود على الحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور إلاّ بمقتضى قانون ولضرورة يقتضيها نظام ديمقراطي وبهدف حماية حقوق الغير أو لمقتضيات الأمن العام والدفاع الوطني والصحة العمومية. ويجب أن لا تمسّ هذه القيود بجوهر الحقوق والحريات المضمنة بهذا الدستور أن تكون مبرّرة بأهدافها متناسبة مع دواعيها. لا يجوز لأي تنقيح أن ينال من مكتسبات حقوق الإنسان وحرياته المضمونة في هذا الدستور”.

وقد إعتبرت المحكمة الإدارية في القضية التعقيبية عدد 312668 المؤرّخة في 15 جويلية 2013  أنّ “حقّ الملكيّة له مكانة خاصّة ترقى به لا إلى فئة الحقوق الدّستوريّة فحسب وإنّما أيضا إلى مرتبة الحقوق الأساسيّة اللّصيقة بذات الإنسان والتي لا تمنحها الدّساتير وإنّما تكتفي بالإعلان عنها” .

فالأصل هو أنّ للمالك الحرية في إستعمال ملكيته العقارية وإستغلالها والتصرّف فيها وكذلك ممارسة جميع الأنشطة العمرانية وأوّلها الحق في البناء، ويبقى التقييد منها هو الإستثناء. وعليه يجب أن يخضع هذا الإستثناء إلى ضوابط محدّدة بدقّه كي لا يتمّ النيل من هذا الحق الدستوري.

ويعتبر صدور القانون عدد 122 لسنة 1994 المؤرخ في 28 نوفمبر 1994 المتعلّق بمجلة التهيئة الترابية والتعمير نتيجة حتمية لتنامي الوعي بأهميّة التخطيط الترابي والعمراني وبهدف تنظيم حركة البناء من خلال التوفيق بين الحق في البناء والنظام العام العمراني والمظهر العام الجمالي للمدينة..

لم تتضمّن مجلة التهيئة الترابية والتعمير تعريفا لرخصة البناء وإنّما اكتفت بالتنصيص على أنّه يمنع القيام بالبناء دون الحصول على ترخيص في الغرض  )الفصل 68 من مجلة التهيئة الترابية والتعمير) وذلك بغضّ النظر عن طبيعة الشخص المطالب باستيفاء ذلك الإجراء أكان شخصا عموميّا أو من أشخاص القانون الخاص (الحكم الإبتدائي الصادر في القضية عدد 121881 بتاريخ 31 ديسمبر 2013) . وقد إعتبرت المحكمة الإدارية أنّ الحصول على رخصة البناء يعدّ إجراء وجوبيا وضروريا من المتعين استيفاؤه قبل الشروع في إقامة جميع الأبنية التي لم يستثنها القانون صراحة (الحكم الإستئنافي الصادر في القضية عدد 26904 بتاريخ 30 أكتوبر 2009).

تعدّ رخصة البناء وسيلة قانونية معتمدة من السلط الادارية المختصة  بهدف تنظيم عمليات البناء قبل الشروع في إقامة جميع الأبنية التي لم يستثنها القانون صراحة وهي ليست بقاعدة من قواعد التعمير بل هي تقنية تسمح بتطبيق هذه القواعد.

وقد مثّلت القرارات الصادرة في مجال رخص البناء موضوعا لعدة نزاعات بين الإدارة والأفراد. وبالنظر لصبغتها الإدارية، تخضع هذه النزاعات لرقابة القاضي الإداري.

     فما هي أوجه رقابة القاضي الإداري على  سلطة الإدارة في مجال رخص البناء؟

للإجابة عن هذه الإشكالية سنعرض جملة من القضايا التي تعهّد بها القضاء الإداري بمناسبة تفحّصه لشرعية القرارات المتّخذة في مجال رخص البناء والتي أصدرت فيها المحكمة الإدارية العديد من الأحكام وأصّلت بمقتضاها جملة من المبادئ، منها ما اتّصل بمراقبة شرعية القرارات الرافضة لإسناد رخص البناء (القسم الأول) ومنها ما إتّصل بمراقبة شرعية العقوبات المنطبقة في مجال التصدّي للبناءات المقامة بدون رخصة والبناءات المخالفة لرخص البناء (القسم الثاني).

القسم الأول: رقابة القاضي الإداري على شرعية القرارات الرافضة لإسناد رخص البناء

تقوم المحكمة الإدارية بتفحص شرعية قرار رفض إسناد رخصة البناء وتنتهي إمّا بإقرار شرعيته (أ) أو إلغائه إذا اتّسم باللاّشرعية (ب).

أ/ المحكمة تقرّ بشرعية القرارات الرافضة لإسناد رخص البناء

إنّ المتفحّص لفقه القضاء الإداري يلاحظ أنّ المحكمة الإدارية تستند في إقرار شرعية القرارات المتعلقة برفض إسناد رخص البناء إلى عدّة أسباب يتمثّل أهمّها في ما يلي:

  • في ضرورة الحصول على ترخيص للبناء في الغرض

تخضع رخصة البناء إلى إجراءات وشكليات دقيقة تكون بمقتضاها صريحة وواضحة بالكتابة فلا يفترض وجودها ضمنيا ولا تكتسب بالتقادم كما أنّ الحصول عليها يعتبر شرطا ضروريا للمبادرة بالبناء ولا تعفى منها إلاّ البنايات العسكريّة ذات الصبغة السريّة والأشغال التي جاء بها قرار وزير التجهيز والإسكان المؤرخ في 10 أوت 1995 والذي ضبط قائمة الأشغال الرامية إلى إدخال تغييرات أو إصلاحات عادية وضرورية على بناية مقامة والتي لا تخضع للترخيص في البناء ( الحكم الإبتدائي الصادر في القضية عدد 120335 بتاريخ 15 جويلية 2013 والحكم الإبتدائي الصادر في القضية عدد 120045 بتاريخ 15 جويلية 2013).

وفي هذا الإطار إعتبرت المحكمة الإدارية أنّ رفض البلدية الاستجابة لمطلب العارض الرامي إلى تمكينه من رخصة  بناء لا يخوّل له بأيّ حال مخالفة التراتيب العمرانيّة وذلك بالمبادرة بالبناء دون الحصول على الرخصة المطلوبة، فالشروع في البناء لا ينهض قرينة قاطعة على حصول القائم بالأشغال على ترخيص مسبّق في الغرض من الجهات الإدارية المخوّل لها إسنادها (الحكم الاستئنافي الصادر في القضية عدد 26332 بتاريخ 1 مارس 2011).

  • في وجوبية تقديم سند التملك

أكّدت المحكمة أنّه يتعيّن أن يكون سند الملكية واضحا في الدلالة على ملكية طالب الترخيص للعقار المزمع البناء فوقه بصورة ثابتة لا تؤول إلى هضم حقوق الغير على نحو لا يتيسّر تداركها لاحقا في حال ثبوت استحقاق هؤلاء للعقار المذكور أو لمنابات منه يمكن أن ترجع إليهم عند انقضاء حالة الملكية على الشياع مثلا (الحكم الاستئنافي الصادر في القضية عدد 27765 بتاريخ 30 أفريل 2011). واعتبرت، في سياق آخر، أنّ المالك على الشّياع غير محقّ في الحصول على رخصة بناء ما لم يدل بما يفيد تفرّده بمناب مفرز بذاته بعد القسمة أو بما يفيد موافقة باقي المالكين على البناء بالمكان المقرّرة فيه الأشغال (الحكم الإبتدائي الصادر تحت عدد 19248/1 بتاريخ 29 أكتوبر 2011). كما استقرّ أيضا فقه  قضاء هذه المحكمة على اعتبار أنّ وجود نزاع جدّي حول ملكية العقار يوجب على رئيس البلدية أو الوالي المختص حسب الحالة، الإمساك عن تسليم الرخص أو سحبها في صورة سبق تسليمها، وذلك إلى حين فضّ النزاع القائم بشأن الملكية نهائيا (الحكم الإبتدائي الصادر في القضيّة عدد 124457 بتاريخ 27 جوان 2016 والحكم الإبتدائي الصادر في القضيّة عدد 122746 بتاريخ 05 جوان 2014).

  • إتّفاقات الأجوار لا يمكن أن تكون سندا لمعارضة المنظومة التشريعية والترتيبية التي تسوس المادة العمرانية

إعتبرت المحكمة الإدارية أنّه بالرّجوع إلى مقتضيات قرار وزير التجهيز والإسكان والتهيئة الترابيّة المؤرّخ في 17 أفريل 2007 والمتعلّق بضبط الوثائق المكوّنة لملف رخصة البناء وأجل صلوحيتها والتمديد فيها وشروط تجديدها، لا نجد شرط الحصول على ترخيص الأجوار ضمن الوثائق المكوّنة لملف رخصة البناء المنصوص عليها بالفصل الأول من القرار المذكور، ومن ثمة فإنّه لا يمكن إلزام الغير بإجراء لم يوجبه القانون ضرورة أنّ الاتفاقات بين الأفراد لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تكون سندا لمعارضة المنظومة التشريعية والترتيبية التي تسوس المادة العمرانية حتى لا يؤول الأمر إلى إفراغها من مضمونها وإهدار الضمانات والضوابط المقرّرة بعنوانها (الحكم الإبتدائي الصادر في القضية عدد 121041 بتاريخ 31 ديسمبر 2013). إضافة إلى ذلك، انتهت المحكمة إلى أنّ التراخيص المسلّمة من الجيران والتي تفيد عدم اعتراضهم على تمكين أحدهم من البناء داخل مسافات التراجع لا تعفي بالمرّة القائم بالأشغال من ضرورة احترام قواعد البناء والتراتيب العمرانية وما تقتضيه من ضرورة الحصول على ترخيص من البلدية ذات النظر وإلاّ كان عرضة لاتخاذ قرار هدم في شأنه (الحكم الابتدائي الصادر في القضيّة عدد 13809/1 بتاريخ 30 ماي 2008).

  • في رفض إسناد رخصة بناء لوجود طريق مبرمجة

اعتبرت  المحكمة الإدارية أنّ القرار القاضي برفض طلب تسييج عقار على أساس برمجته كطريق عام بمثال التهيئة العمرانية المصادق عليه، في طريقه وقائما على أساس صحيح من حيث الواقع و القانون( الحكم الإبتدائي الصادر تحت عدد 19872/1 بتاريخ 31 أكتوبر 2011). كما أقرّت بشرعية قرار رئيس البلدية القاضي برفض الترخيص للمدعي في البناء طالما ثبت أنّ العقار المزمع البناء فوقه يقع في منطقة خضراء ضرورة أنّه يحجر البناء على العقارات الكائنة داخل المناطق المخصصة للطرقات والساحات العمومية والمساحات الخضراء والمساحات المخصصة للتجهيزات الجماعية (الحكم الابتدائي الصادر في القضية عدد 17625/1 بتاريخ 6 جانفي 2009) .

ب/  المحكمة تقرّ بعدم شرعية القرارات الرافضة لإسناد رخص البناء

إعتبرت المحكمة الإدارية أنّ ملكيّة عقار على الشّياع لا تحول دون الترخيص في البناء فوقه شرط أنْ تكون تلك الملكيّة محدّدة ومفرزة وأن لا يوجد نزاع جدّي حول الملكيّة( الحكم الإبتدائي الصّادر في القضية عدد 11455 / 1بتاريخ 29 جانفي 2010).  كما أكّدت المحكمة على أنّ مجرّد وجود العقّار داخل مدينة سوسة العتيقة ليس من شأنه أن يضفي عليه صبغة المعلم التاريخي التي لا تكون إلاّ باتّباع إجراءات حدّدتها أحكام الفصل 27 من مجلة حماية التراث الأثري والتاريخي والفنون التقليدية والتي لم يثبت انتهاجها في دعوى الحال، ذلك أنّه لا يوجد ما يفيد اتّخاذ قرار حماية من قبل الوزير المكلف بالتراث (الحكم الإبتدائي الصادر في القضيّة عدد 125352 بتاريخ 13 جانفي 2015 ) .

كذلك كان الشأن بالنسبة إلى رفض إسناد ترخيص في البناء قائم على عدم احترام طالب الترخيص لقرار تصفيف بلدي لطريق عموميّة ثبت للمحكمة أنّها لم ترتّب طريقا عموميّة بمقتضى مثال التهيئة العمرانيّة و الذي له وحده، طبقا لأحكام الفصلين 12 و 67 من مجلة التهيئة الترابيّة والتعمير، أن يحدث الطرقات العموميّة (القضية عدد 14094/1 بتاريخ 17 نوفمبر 2007) .

وأشارت المحكمة أيضا إلى أنّ رفض البلدية  إسناد رخص البناء بالإستناد إلى عدم الإدلاء بوثيقة غير منصوص عليها بقرار وزير التجهيز والإسكان المتعلق بضبط الوثائق المكونة لرخص البناء مخالف للقانون لورود تلك الوثائق على سبيل الحصر (الحكم الإبتدائي الصادر في القضية عدد 121795 بتاريخ 25 أكتوبر 2013). كما خلصت المحكمة إلى أنّه طالما لم يوجب القانون على طالب الترخيص في البناء تضمين ملفّ رخصة البناء المقدّم إلى السلطة الإدارية المعنية ما يفيد وجود تقسيم مصادق عليه يشمل العقار موضوع مطلب الرخصة، فإنّ إشتراط رئيس البلديّة على طالب الرخصة تقديم ملف تقسيم وذلك لضبط المساحات التي تمّ التفويت فيها بالبيع والمساهمات المخصّصة للطّريق العام والمساحات المشتركة لمدّه بالرخصة المطلوبة ينطوي على انحراف بالإجراءات المقرّرة في مادّة رخص البناء (الحكم الابتدائي الصادر في القضية عدد 121795 بتاريخ 25 أكتوبر 2013 )  .

في نفس الإطار، إنتهت المحكمة الإدارية في  القضية عدد 132578 بتاريخ 6 ديسمبر 2013 إلى إلغاء قرار رئيس النيابة الخصوصية لبلدية قرطاج والقاضي برفض الترخيص لأحد المواطنين في بناء سياج بمقولة أنّ العقار موضوع الدعوى يوجد داخل المنطقة الأثرية المصنفة بمقتضى الأمر عدد 1246 لسنة 1985 المؤرخ في 7 أكتوبر 1985 والتي يحجر فيها كل أشكال الأشغال والبناء معتبرة ما يلي :

” وحيث يتبين بالرجوع إلى أوراق الملف وخاصة مراسلة المدير العام للمعهد الوطني للتراث والموجهة إلى رئيس النيابة الخصوصية لبلدية قرطاج  1985، أنّ العقار موضوع النزاع يوجد بمنطقة مصنفة ضمن المعالم التاريخية والأثرية طبقا لمقتضيات الأمر عدد 1246 لسنة 1985 المؤرخ في 7 أكتوبر 1985 المتعلق بتصنيف موقع قرطاج، وهو تبعا لذلك مشمول بتراتيب حماية وصيانة خاصة على معنى مقتضيات مجلة حماية التراث، وأنّ العقارات المحاذية لها مشمولة بدورها بمقتضيات خاصة تسن لحماية المواقع والمعالم التاريخية والأثرية.

وحيث اقتضى الفصل الثالث من الأمر عدد 1246 لسنة 1985 المؤرخ في 7 أكتوبر 1985 المتعلق بتصنيف موقع قرطاج  أنّه ” تمنع كل الأشغال وأعمال التهيئة والبناءات التي من شأنها أن تغير حالة الموقع المحمي…”.

وحيث اقتضى الفصل الرابع من ذات الأمر أنّه “بقطع النظر عن التراخيص المطلوبة في القوانين الجاري بها العمل تخضع الأشغال والأعمال اللازمة لمصالح عمومية وأشغال حماية وإحياء الموقع وأشغال التنقيب والتنقيش وكذلك كل التغييرات التي تمسّ بالبناءات الموجودة لترخيص مدير المعهد القومي للآثار والفنون وذلك بعد أخذ موافقة لجنة المواقع المبنية على تناسب الأشغال والأعمال مع حماية الموقع”.

وحيث يتبيّن استنادا إلى أحكام الفصل الرابع من الأمر عدد 1246 لسنة 1985 أنّ رفض الترخيص في البناء في المناطق المذكورة ليس آليا، فضلا عن أنّ الجهة المدعى عليها لم تقدم ما يفيد المساس بمقتضيات الفصلين 3 و4 المذكورين كتقديم رأي لجنة المواقع المبنية، الأمر الذي يغدو معه رفض الترخيص … في بناء سياج بعقاره الكائن بالمنطقة المذكورة غير مؤسس على ما له أصل ثابت في القانون، واتجه تبعا لذلك قبول الدعوى وإلغاء القرار المطعون فيه”.

القسم الثاني : رقابة القاضي الإداري على شرعية العقوبات المتعلّقة بالتصدي للبناءات المقامة بدون رخصة أو المخالفة لرخص البناء

عند تفحّصها للإخلالات العمرانية تتولى المحكمة الإدارية  التثبّت من مدى شرعيّة القرارات التي يتمّ اتخاذها للتصدي للبناء المخالف للرخصة من جهة، والبناء بدون رخصة من جهة أخرى، والتي تتجسّم أساسا من خلال اتخاذ قرارات إيقاف الأشغال (أ) ، إتخاذ قرار في هدم البناء المخالف(ب) والحرص على تنفيذه (ج) .

أ/ قرارات إيقاف أشغال البناء المخالف للرخصة

عملا بأحكام الفصول 80 و81 و82 من مجلّة التهيئة الترابية والتعمير يتعيّن على كلّ من رئيس البلديّة والوالي أو الوزير المكلّف بالتعمير كلّ حسب اختصاصه، أن يأذن بمقتضى قرار فوري بإيقاف الأشغال التي تنجز دون احترام مقتضيات رخصة البناء وأن يقع تبليغه إلى المخالف بواسطة عدل منفذ. و يمكن لمن امتثل لقرار إيقاف الأشغال في أجل الشهرين من تاريخ الاتصال به تقديم التماس إلى السّلطة الإدارية المعنيّة التي يمكن لها الإذن بعد استشارة اللجنة الفنية بتسوية الوضعية طبقا لمقتضيات التراتيب العمرانية النافذة.

وقد تعرّضت المحكمة لطريقة تبليغ قرارات إيقاف الأشغال معتبرة أنّ تبليغ الإدارة لقرارات إيقاف الأشغال بواسطة محاضر البحث المحرّرة بمراكز الحرس الوطني أو إعلام المعنيّين بها بواسطة أعوانها يعدّ سائغا ومكتسيا لجميع مقوّمات الإعلام القانوني (الحكم الإبتدائي الصادر في القضية عدد 137405   بتاريخ 18 فيفري 2016).

وبخصوص مدى إلزاميّة قرارات إيقاف الأشغال وما تتطلّبه من المخالف من ضرورة إحترامه والتقيّد به، اعتبرت المحكمة أنّ هذا الأخير يظلّ على الدوام مطالبا بالامتثال لذلك القرار وذلك بالتوقّف الفوري عن مواصلة أشغال البناء والتمادي فيها، وبتقديم التماس في تسوية الوضعيّة في غضون الشّهرين من تاريخ اتّصاله بالقرار إلى السّلطة التي أصدرته حينها يمكن له أن ينتفع بتسوية وضعيّته والحصول على رخصة بناء في الغرض. وفي المقابل، فإنّه إذا لم يقدّم المخالف الإلتماس في الأجل المذكور يكون الوالي أو رئيس البلديّة ملزما بإتّخاذ قرار في هدم البناء المخالف وتكون سلطته مقيّدة في ذلك حتّى وإن تمّ الإمتثال إلى قرار إيقاف الأشغال (الحكم الابتدائي الصادر في القضية عدد 124525 بتاريخ 31 ديسمبر 2012) .

ب/ في إلزامية إتخاذ قرار هدم في صورة تعمّد البناء بدون رخصة أو مخالفة مقتضيات الرخصة

تعدّ سلطة رئيس البلدية مقيّدة في حالة البناء بدون رخصة ضرورة أنّه لا يسعه سوى اتخاذ قرار يقضي بهدم البناء المخالف تطبيقا لمقتضيات الفصل 84 من مجلّة التهيئة الترابيّة والتعمير (اقتضت أحكام الفصل 84 من مجلة التهيئة الترابية والتعمير أنّه ” في كل الحالات التي يقع فيها إقامة بناء بدون رخصة أو إذا كانت البناية مقامة على أرض متأتية من تقسيم لم تقع المصادقة عليه وعلى المساحات اللازمة لإنجاز الطرقات أو مختلف الشبكات أو الساحات العمومية أو المساحات الخضراء، يتعين على الوالي أو رئيس البلدية، حسب الحال، دعوة المخالف لسماعه في أجل أقصاه ثلاثة أيام من توجيه استدعاء له بمكان الأشغال وبواسطة الأعوان المذكورين بالفصل 88 من هذه المجلة، يتم بعده اتخاذ قرار الهدم وتنفيذه بدون أجل. ولهما الحق في الاستعانة بالقوة العامة عند الاقتضاء وفي القيام بجميع الأشغال الضرورية على نفقة المخالف”). وقد أكّدت المحكمة على أنّ إحجام رئيس البلدية المدّعى عليها عن الاستجابة إلى مطلب المدعية الرّامي إلى اتخاذ الإجراءات اللاّزمة بخصوص الجدار الذي أقامته الشّركة المتداخلة على الطريق، ينطوي على تنكّر للاختصاص المقيّد والمعقود لفائدته في ميدان التراتيب الخاصّة بالجولان وحفظ الصحّة وأمن الطرقات بملك الدولة العمومي داخل المنطقة البلدية كما يقوم على تنكّر للحقوق الناشئة لفائدة العموم تبعا لتخصيص العقار كمسلك محلي بالمنطقة (الحكم الإبتدائي الصادر في القضيّة عدد 121373 بتاريخ 26 جوان) .

وقد استقر فقه قضاء المحكمة الإدارية على أنّ التتبّعات الإدارية والقضائية للمخالفات العمرانية تبقى قائمة طالما لم يقم المخالف بتسوية وضعيته إزاء القانون العمراني ممّا يحول دون التمسّك بسقوطها بمرور الزمن في غياب أحكام قانونية تنص على ذلك (الحكم الإبتدائي الصادر في القضية عدد 128539 بتاريخ 12 جانفي 2016). في هذا الإطار، لا يستقيم التمسّك بعدم إمكانية البلدية إتّخاذ قرار هدم بمقولة أنّ المخالفة قديمة، ذلك أنّ التصدي للمخالفات المتعلّقة بخرق التراتيب العمرانية لا تسقط بمرور الزمن أو تكسب صاحبها حقا في الانتفاع  بها لتعلّقها بالحفاظ على النظام العمراني (الحكم الإبتدائي  الصادر في القضية عدد 122039 بتاريخ 9 فيفري 2017).

كما إستقرّ فقه القضاء على أنّ مرور الزمن لا يضفي الشرعية على ما تمّت إقامته بصورة مخالفة للقانون، بما يخول للبلدية معاينة المخالفة واتّخاذ قرار هدم في شأنها ولو بعد مدة زمنية طويلة من إقامة العارض للبناء ولا يجوز أيضا التمسّك بوجود حق مكتسب في الإبقاء على بناء غير مرخص فيه أو مخالف للرخصة نتيجة عدم ممارسة البلدية لصلاحياتها في أجل معقول (الحكم الإبتدائي الصادر في القضيّة عدد 120716 بتاريخ 12 ديسمبر 2014). من جهة أخرى لا يسوغ لكلّ من صدر في شأنه قرار هدم على أساس مخالفته لمقتضيات رخصة البناء أن يعيب على الإدارة قصر الآجال المستغرقة بين معاينة المخالفة وإصدار قرار الهدم ضرورة أنّ الأحكام التشريعيّة المتعلّقة بالبناء المخالف للرخصة لم تنصّ على أجل محدّد تتولّى خلاله الإدارة إجراء معاينة المخالفة باعتبار أنّ العبرة تكون باستيفاء شرط القيام بها وإصدار قرار الهدم على أساسها لا غير (الحكم الابتدائي الصادر في القضيّة عدد 12766/1 بتاريخ 1 جوان 2007).

كما سايرت المحكمة فقه قضائها السابق المستقر على أنّه لا يسوغ للمخالفين للتراتيب العمرانية التمسّك بخرق البلدية لمبدأ المساواة أمام القانون بمقولة أنّ العديد من جيران العارض يوجدون في نفس وضعيته القانونية والذين لم تصدر في شأنهم البلدية قرارات هدم بخصوص البناءات التي أحدثوها دون الحصول على رخصة في ذلك من لدن نفس الجهة الإدارية ضرورة أنّه لا يستقيم قانونا التذرّع بوجوب احترام مبدأ المساواة الذي لا يكتسي صبغة مطلقة وبالتالي فإنّه ” لا يمكن التمسّك به إلاّ في حدود ما يجيزه مبدأ المشروعيّة، بمعنى أنّه لا مساواة في اللاّشرعيّة” (الحكم الابتدائي الصادر في القضيّة عدد 15891/1 بتاريخ 25 ديسمبر 2007).

وعند تفحّصها لشرعيّة قرارات الهدم، تعرّضت المحكمة إلى الضمانات التي كفلها الفصل 84 من مجلة التهيئة الترابية والتعمير للمخالف والذي يلزم الإدارة بدعوة المخالف لسماعه في أجل ثلاثة أيّام من اتخاذ قرار الهدم ضرورة أنّ ذلك يندرج ضمن دائرة الإجراءات الأساسيّة والجوهرية التي يؤدّي عدم احترامها إلى إبطال قرار الهدم لإهداره لضمانة أساسيّة كفلها المشرع لفائدة المخالف بغاية تمكينه من تسوية وضعيته قبل اتخاذ ذلك القرار وإتاحة الفرصة له لمواجهة البلديّة والإفصاح عن وجهة نظره وتقديم البيانات والمؤيدات التي من شأنها حملها على مراجعة موقفها متى كان ذلك ممكنا وجائزا في ظل القواعد العمرانيّة المنطبقة (الحكم الإبتدائي الصادر في القضيّة عدد 126351 بتاريخ 05 ديسمبر 2014 والحكم الإبتدائي الصادر في القضيّة عدد 126958 بتاريخ 30 ديسمبر 2014 والحكم الإبتدائي الصادر في القضيّة عدد 123811 بتاريخ 19 فيفري 2014). وحفاظا منها على متطلبات تلك الضمانة الأساسيّة والجوهرية، اعتبرت المحكمة أنّ تزامن حصول استدعاء المخالف لسماعه مع صدور قرار الهدم يعدّ إهدارا من جانب الإدارة للضمانة المذكورة ضرورة أنّ ذلك الأجل لا يكفي في كلّ الحالات لتمكين المعني بالأمر من تسوية وضعيّته وفقا لأحكام الفصل 84 من مجلة التهيئة الترابيّة والتعمير وذلك سيما في الحالات التي تثبت قابليتها للتسوية (الحكم الابتدائي الصادر في القضيّة عدد 13637/1 بتاريخ 23 نوفمبر 2007).

ج/ في تنفيذ قرارات الهدم

إقتضى الفصل 266 من القانون الأساسي عدد 29 لسنة 2018 المؤرخ في 9 ماي 2018 والمتعلق بإصدار مجلة  الجماعات المحلية أنّه “يعتبر عدم إتخاذ قرارات الهدم أو تنفيذها  من قبل من له النظر خطأ جسيما موجبا للمساءلة”. وعلى هذا الأساس يعتبر التصدّي للبناءات العمرانية المقامة دون ترخيص، واجبا محمولا على البلدية وهي مطالبة لذلك ببذل جميع الجهود اللازمة واتخاذ جميع الإجراءات القانونية قصد تنفيذ قرارات الهدم التي تصدر عنها (الحكم الإبتدائي الصّادر في القضية عدد 15623/ 1 بتاريخ 7 جوان 2010). فممارسة رئيس البلدية لاختصاصه المضمّن صلب الفصل 82 من مجلة التهيئة الترابية والتعمير لا يتوقّف عند حدّ اتخاذ قرار بإيقاف أشغال البناء المقام بصورة مخالفة للتراتيب العمرانية المعمول بها بل يتعدّاه وجوبا إلى السهر على اتخاذ قرار بالهدم و تنفيذه عند الاقتضاء بالقوة العامّة في صورة عدم تسوية الوضعية ضرورة أنّ سلطة البلدية مقيّدة بتنفيذ قرارات الهدم الصادرة عنها تنفيذا كليا وتاما وأنّ تخلّيها عن دورها ذاك يُمثّل إخلالا خطيرا بالواجب المحمول عليها لفرض احترام القانون وتسليما غير مبرّر من جانبها بعجز السلطة العمومية عن ردع المقاومة غير المشروعة لمقرراتها ومخالفة صريحة لإرادة المشرع الرامية إلى تمكين البلدية من سلطات هامة في المادة العمرانية بتخويلها امتياز التنفيذ الجبري لقراراتها (الأحكام الإبتدائية الصادرة في القضايا عدد 120024 وعدد 120566 وعدد 124007 بتاريخ 13 جويلية 2015) ، ولا يمكنها أن تتفصّى من ذلك الإلتزام المحمول عليها قانونا إلاّ لأسباب شرعيّة تتعلّق بالنّظام العام أو عند استحالة تطبيق الإجراء استحالة مطلقة رغم كلّ ما بذلته من جهد (  الحكم الابتدائي الصادر في القضيّة عدد 14210/1 بتاريخ 4 أفريل 2008).

ومن جهة أخرى شدّدت المحكمة على أنّ التتبعات الجزائية المنصوص عليها بمجلة التهيئة الترابية والتعمير لا تغني عن واجب استكمال إجراءات تنفيذ قرار الهدم طالما أنّ نيّة المشرّع اتّجهت إلى تمكين السلط المختصة من وسيلتين قانونيتين تحمل كل منهما آثارا مختلفة قصد ردع المخالفات العمرانية ( الحكم الإبتدائي الصّادر في القضية عدد 18431 /1 بتاريخ 2 جويلية 2010 ). كما خلصت المحكمة إلى أنّ التمسّك بتعذّر تنفيذ قرارات الهدم الصادرة بشأن البناء المخالف بالنظر إلى صعوبة التطرّق إلى الطوابق العلوية عند عملية التنفيذ إلى كون المحل آهلا بالسّكان، لا يستجيب لشروط تطبيق الاستثناءات المتمثلة في الإستحالة القصوى في التنفيذ ضرورة أنّها لم تستوف جميع الإمكانيات والامتيازات المخوّلة لها قانونا لضمان التنفيذ الجبري للقرارات الصادرة عنها في المادة العمرانية، كإلزام المخالف بإخلاء الطوابق موضوع قرار الهدم والتصدّي لمقاومته عند الإقتضاء وذلك بتتبعه جزائيا على معنى أحكام الفصل 315 من المجلة الجزائية الذي نصّ على أنّه” يعاقب بالسجن مدّة خمسة عشر يوما وبخطية مالية : الأشخاص الذين لا يمتثلون لما أمرت به القوانين والقرارات الصادرة ممن له النظر…”  (الحكم الابتدائي الصادر في القضيّة عدد 14210/1 بتاريخ 4 أفريل 2008)  .

كما أكّدت المحكمة الإدارية في هذا السياق على أنّ واجب تنفيذ قرارات الهدم لا يحول دون مراعاة البلدية لحقوق الأجوار والاستعانة بأهل الخبرة لتحديد وتطبيق الطرق الكفيلة بإجراء عملية الهدم ورفع الأضرار الناجمة عنها سيما وأنّ مجلة التهيئة الترابية والتعمير تنصّ صراحة على أن تتمّ عملية الهدم على نفقة المخالف (الحكم الإبتدائي الصادر في القضيّة عدد 122342 بتاريخ  4 ديسمبر 2015) .

وجدير بالذكر هنا أنّ تنفيذ قرار الهدم يخضع إلى مجموعة من المبادئ التي يفترض أن تلتزم بها الإدارة كأن لا تتجاوز ما يقتضيه منطوقه وأن لا تلحق ضررا بالمخالف من شأنه أن يشكّل خطأ معمرا لذمّتها ويخوّل للمتضرر تبعا لذلك المطالبة بالتعويض عمّا لحقه من جرّائه (الحكم الإبتدائي الصادر في القضية عدد 120872 بتاريخ 28 أكتوبر 2013)./.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى