مقالات

العودة من جديد نحو البعد الروحي!!!!!

” إن جسدك هو قيثارة روحك ، والأمر عائد إليك في أن تعزف عليها موسيقى عذبة أو أصواتاً مضطربة “

جبران خليل جبران

لقد بقي لغز الحياة الروحية للإنسان فاتناً وممتعاً بالنسبة للكثير من العلماء والفلاسفة والحكماء عبر التاريخ ، إذ كانوا يستمتعون في البحث بتلك الأسئلة التي لا جواب عليها ، وكان أبرزها بلا ريب ، البعد الروحي عند الإنسان . وفي هذا لخص الشاعر ” روبرت برنز ” هذا المعنى في قصيدته ” رأس السنة الجديدة ” التي كتبها عام 1791 م :

ينادي صوت الطبيعة عالياً

وهناك الكثير من رسائل السماوات

أن شيئاً في داخلنا لا يموت أبداً ..

يعود هذا المعنى من جديد ، ولكن في العام 2010 م ، أي بعد مضي أكثر من مئتي عام . عند ” د. داين واير ” أحد أشهر الكتاب بتنمية الوعي الروحي في العصر الراهن ، والتي فاقت مؤلفاته في هذا الشأن عن الأربعين كتاباً، فيقول :

” إن ذاك الذي لا صورة له في دواخلنا ، لا يمكن تدميره . يعيش الجانب الروحي من جميع الموجودات في الأبدية ، لا يتأثر بالبدايات والنهايات ، يبدو أن الحقيقة هي أن جوهرنا أبدي ، وأن الجسد المادي يأتي ويذهب فقط في دورة الحياة والموت “

وفي أغلب الأحيان لا يتصف عالمنا المادي بالروحانية على الرغم من أننا نشأنا من جوهر روحاني، عبر ” هنري لونغفيلو ” عن هذه المعضلة في قصيدته ” الترنيمة المقدسة للحياة ” :

الحياة حقيقية ، الحياة جدية

والقبر ليس غايتها

خلقت من التراب ، وإلى التراب تعود

قول لا ينطبق على الروح

حيث يتحدث الشاعر عن البعد الذي يتجاوز الجسد المادي ، والذي يصفه بالتراب ، نحن جميعا ً عبارة عن شيء مختلف عما ندركه بحواسنا . وفي ذات السياق يؤكد الفيلسوف الألماني الحائز على جائزة نوبل للسلام ” ألبرت شفايتزر “:

” السبيل الوحيد الممكن كي يضفي المرء معنى لوجوده ، يكمن في الارتقاء بعلاقته الفطرية بالعالم ، وجعلها روحانية ” .

لقد عادت هذه المعاني بقوة مع نهايات القرن العشرين ، وجرى التنقيب من جديد عن المعاني الروحية في الأديان والحضارات القديمة ، وعادت أقوال الحكماء والفلاسفة تأخذ مكانها في كثير من مؤلفات التنمية الإنسانية اليوم ، وهذه العودة التي تعقب الانقطاع أو الانحسار يبدو أنها طبيعة بشرية من جهة، ويبدو من جهة أخرى أنها نقلات نوعية في الفكر الإنساني ؛ أحيانا تعوم فيها الإنسانية في الماديات ، وأحياناً تعود للسطح نحو البعد الروحي مرة أخرى . تكاد تكون الرحلة البشرية في صورة جسد أشبه بكلمة معترضة قياساً مع أبدية ذاتنا الحقيقية ، ويمكن الاقتباس من قصيدة الشاعر الانجليزي الشهير ” تي إس إليوت ” :

يجب ألا نتوقف عن البحث

بينما غاية بحثنا بأكمله

سوف تكون الوصول إلى حيث بدأنا

كي نعرف المكان للمرة الأولى!

ويصور لنا أيضا ؛ شاعر آخر اسمه ” ايمانويل ” هذه العودة بخطواتها المتسلسلة حيث تبقى الروح دائما في انتظارنا متى ما أردنا العودة لحقيقتنا :

لا يعرف تفكيرنا الطريق

بيد أن قلبنا كان هناك ذات مرة

أما أرواحنا فلم تبرحه قط

أهلا في البيت !

ولقصة العودة هذه حكاية مع ما اصطلح عليه ( عصر الحداثة ) لا بد أن نمر عليها ؛ فمرحلة الحداثة على حد وصف ” د. عبدالله الغذامي ” – أستاذ النقد الشهير على مستوى الوطن العربي – قد وصلت إلى حالة تكشف عن انكسار معرفي ، ومن ثم يأتي مصلح ( ما بعد الحداثة ) كحالة انتقال وبحث عن إجابات جديدة لأسئلة جديدة وقديمة لم تعد الحداثة كافية للإجابة عليها . وبدت العلوم الحديثة مع بداية أفول القرن العشرين وكأنها عاجزة عن إحداث النتائج الدراماتيكية التي ظل العلماء المحدثون يعدوننا بها ، وأوقعت الحداثة نفسها في مأزق الإيمان الذي يدعي أن العلم قادر على حل كل المشاكل ، بينما كانت بحالة إخفاق واضح ،وعجز تام عن حل المعضلات العويصة ، وماذا بيد هذا العلم لمواجهة خطر الحروب النووية والجرثومية ؟ وماذا سيقول عن الفقر والجوع والصراعات القائمة على الكراهية ؟ وماذا سيعمل تجاه التفسخ البيئي وما تتعرض الأرض له من تدمير مشهود ؟ ناهيك أن الحداثة لم تعر اهتماماً حقيقياً بالأبعاد الروحية والغيبية للوجود الإنساني . بل لقد أظهرت هذه الأمور وكأنها أمور تافهة لا تستحق التأمل . بل إن هناك من علماء الاجتماع من ذهب إلى القول بأن الحداثة لم تعد قوة للتحرير وإعلاء مكانة الإنسان ، ولكنها صارت مصدراً للاستعباد والاضطهاد والقمع ! لقد وصلت الحداثة إلى نقطة التشبع والانسداد وكان لا بد من الانتقال إلى مرحلة ( الما بعد ) أي عصر ما بعد الحداثة .

إن القناعات والمعتقدات والفكر والثقافات البشرية في كل عصر ليست سوى طبخة عريقة في القدم تمر بها التجارب الإنسانية ، وكل جديد للوعي الإنساني يتهيأ على مهل خلال عقود من الزمن ، وكل عصر لا يساهم سوى بالشروط المثلى للتقييم والمعالجة والخروج بالنتائج في محصلة الرحلة الفكرية . لكن الانتقالات الفكرية والمعرفية والوجدانية للأجيال والمجتمعات مثلها مثل الطقس هي أمور تقع وتتحدى النبوءات ، وتتحدى قدرة البشر على التغيير . فإننا كبشر نأخذ جهدا ً ووقتا ً طويلا ً إذا أردنا تعديل وجهة أو حدة أو قوة هبوب الأفكار والثقافات، وعلى الأرجح إنها تملك مهارة الاكتساح لتجعلنا ندخل مضمار وميادين جديدة في التاريخ .

إذن عجزت الحداثة – أو بتعبير أدق – أهملت مخاطبة الروح ، أو البحث عن ماهيتها ، أو التعرف على احتياجاتها ، ومدى تأثيرها على حياتنا الفردية والاجتماعية . وكان ذلك أحد أهم أسباب العودة من جديد للبعد الروحي في الخطاب ما بعد الحداثي . فالناس وجدت أنفسها في مأزق مع التعبير المادي السطحي للإنسان ، وجدوا أنهم يملكون بدواخلهم شيء أعظمى وأسمى من الجسد ، وأن لديهم قدرات تفوق إمكانات الجسد المادية ، فظهرت الممارسات التأملية بكافة أشكالها ، وأصبح الطرح الروحي هو الطرح الأكثر رواجا ً وشعبية على المستوى العالمي ، وبدأت أشكال من الدراسات العلمية تصنع نوع من التوائم بين المعرفة النفسية والسيكولوجية والروحية للإنسان ، بل جرى تنفيذ تطبيقات للممارسات الروحية في التشافي الجسدي، وإدراج الممارسات الروحية كنوع من أنواع الطب البديل ، وعادت دور العبادة والطقوس الدينية في كل الأديان تأخذ اعتباراتها القديمة ، بل وتهذب نفسها لتجعل القيم الروحية كالمحبة والسلام والنقاء والصدق واتباع توجيهات الأنبياء والصالحين والحكماء كعلامة إنسانية مشتركة بين جميع الأديان . وهكذا عادت الروح لتأخذ مكانها من جديد في أطروحات أكثر تنويراً ، وأكثر تعمقا ً ، وبمزيد من التقصي والمناقشة والتأمل .

إن قدرات الروح تكمن في إيجازها وتحررها من قيود المادي والمكاني والزماني ، وما لا ندركه عن أرواحنا هو أكثر أهمية مما ندركه ، وبالتالي فإن مناهج البحث العلمي القائمة على الإشارات المحسوسة ، تصبح طفولية أمام كل حيثيات البعد الروحي للإنسان ، إن ماهو مطروح عن الأبعاد الروحية ليس حديثاً عن الممارسات الروحية للإنسان فحسب . إنما إلى اتجاهات حديثة من الطرح ترى أننا لسنا مخلوقات بشرية تعيش تجربة روحية في الحياة ، بل إلى أننا كائنات روحية تعيش تجربة مادية محدودة وبسيطة و عليها أن تعي قدرتها الروحية اللامحدودة في أبعاد أخرى مختلفة . وتكمن أكبر مشكلاتنا في فهم الروح ، ببحثنا في السابق على إيجاد تعريف مادي محسوس لها . فهي إن كانت طاقة أو موجه أو نفس أو ذات متسامية أو سيكولوجية . كل هذا يصنع لنا توهم خادع يأخذ هيئة التيقن والتحقق ويجعل كل واحد منا على يقين ذاتي وخاص بأنه يعرف الروح ، ويملك صورة راسخة لما يمكن أن يطلق عليه وصف ( روحي ) .

في هذا الصدد يشير (الباراماناندا) إلى أن علاقة ضمنية بين الإيمان وبين الروح : ” لا يمكن تخيل أن أحدا ً لديه إيمان قوي بالإله ، ما لم يكن لديه إيمان بروحه ” . وفي القول الفصل للحق عز وجل ” ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا” إشارة تتضمنها الآية الكريمة بأن شأن الروح عظيم جداً ، وأن مصدرها من أمر الله وحده ، وأن معرفتها ليست بالأمر السهل على الإطلاق ، ولن يصل الإنسان إلى المعرفة التامة بها – إذا شاء الله – إلا بتعاقب أجيال وأمم وثقافات ومناهج علمية في سلم التطور المعرفي التاريخي للإنسان، حتى يتجاوز الإنسان مرحلة العلم القليل الذي لا يسعه لإدراك مفاهيم الروح ، إلى مرحلة أعلى من العلم تمكنه من الاقتراب لمعانيه ولو بشيء يسير ، بل إن هذا السؤال الذي وجهه اليهود للرسول صلى الله عليه وسلم كان نتيجة قدراتهم المعرفية، ومالهم من سبق علمي آنذاك والصعوبة التي وجدوها لتوفير الإجابات الحاسمة حولها ، فكانوا يعتقدون أنهم يسألون عن السؤال الذي لا إجابة له . هل كان ذلك تحدياً للرسول ؟ أو بحثا عن حقيقة؟ فهذا ما لا أعلمه ، وبالتالي لا أستطيع تأكيده .

وهذا يقودني لملاحظة الشاعر ” جلال الدين الرومي ” والتي أعشقها بلا ريب ، حين تكشف عن الحاجة الروحية في التأثير على حياة الإنسان ، وأن طريق الفهم الروحي يحتاج إلى غزارة من الجهد والبحث :

” إن الدرب الروحي يضني الجسد

لكنه فيما بعد يرد عليه عافيته

إنه يهدم البيت كي يكشف الكنز

وبذلك الكنز يبني البيت أفضل مما كان سابقا “

إن إهمالنا لمعرفة أرواحنا لهي معاناة بكل ما تعنيه الكلمة ، وأكثر أشكال إهمال الروح انتشاراً ، هو فقد الاتصال معها ، وبالتالي فقد الاتصال مع مصدرها ، في الواقع ، نمر جميعا بهذا الحال الشائع خلال فترات مختلفة من حياتنا عندما نختار تسليم دفة الحياة إلى أنفسنا المادية . أحب الطريقة التي ذكر فيها (د.واين داير ) حول مايفضي إليه اتصالنا بأرواحنا : ” إذا كان جوهرنا الحقيقي هو الروح ، وأنها من مصدر عظيم ، تبدو لي إعادة الاتصال بذلك المصدر العظيم ، عملية مهمة جدا ، وسهلة في الوقت ذاته ، بما أننا أرواح فالاتصال مع الله هو قدرنا”.

لقد أخبرونا كثير من الحكماء والعلماء والفلاسفة القدامى ، في مجمل آرائهم عن السعادة ، أن السعادة لسبب ما ، هي شكل من أشكال البؤس فحسب ، لأن السبب قد يؤخذ منا في أي وقت ، أن نكون سعداء بلا سبب هو السعادة التي ننشد اختبارها . وحتى نصل لمرحلة السعادة بلا سبب ، والتي لن تؤخذ منا تحت أي وسيلة مادية ممكنة ، علينا أن نعرف أرواحنا باعتبارها لا تهتم كوننا أغنياء أو فقراء ، أصحاب مناصب رفيعة أو نعمل في أعمال بسيطة وبدائية . إن روحك لن تجعلك مضطرا لشيء مادي ، وعدم فعلك شيء مهم في الحياة ليس له علاقة بفشل روحك لأنه وببساطة الروح لا تفشل ، الروح فقط تبتعد عمن لا يعيرها اهتمامه ، وبالمناسبة جوهرنا الحقيقي أكثر راحة مع عدم وجود شيء ، علينا أن نبذل قصار جهدنا في خلق تجارب مع اللاشيء ( اللا أفكار -اللا ارتباط – اللا تعلق ..)

هناك اندماج بين الروح وبين والسعادة ، الروح لا تعرف غير السعادة ، لأنها متسامية ، وهي محكوم عليها بالأبدية ، بينما الجسد المادي محكوم عليه بالفناء ، وما هو أبدي سعيد ، وما هو فاني يظل الخوف يتسلل معكراً صفو سعادته ، في ذات الصدد يبرز تعليق (د. ديباك تشوبرا ) أحد أشهر الكتاب في التنمية البشرية ، والذي ترجمت أعماله لأكثر من 50 لغة حول العالم . يقول تشوبرا عن مفهوم السعادة ” السعادة هي حالة وعي توجد بالفعل في داخلنا ، لكنها غالبا ً ما يغشاها جميع أنواع مصادر الإلهاء ، فسعادتنا الداخلية ، مخفية وراء مشاغلنا اليومية ، والتكييف الاجتماعي ، والوعي المقيد يمنعاننا من رؤية ملكوت السماوات والأرض المخفي في أعماق قلوبنا ، في أرواحنا ” .

يقتضي الاهتمام بالروح ، إزاحة الأنا المزيفة ، وما أدق وصف ( رامانا ماهاريشي ) حين قال ” إن التعاسة برمتها ناتجة عن الأنا ، معها تأتي كل المتاعب ، إذا رفضت الأنا ، وأحرقتها من خلال تجاهلها فستصبح حراً ” . لقد بدأنا رحلتنا في الجسد بكوننا ( لا أحد ) ، والمطلوب الآن الشعور بالرضا تجاه هذه الحالة ، بل إلى حد عدم الرغبة في مفارقتها . لكن في عصرنا منذ التنشئة تبنى كل شيء حولنا منهج ( التدريب على أن تكون شخصاً ما ).

تلح الأنا المزيفة كما يشير ( د. واين داير ) على عكس اتجاهنا من اللاشيء إلى شيء ما ! من كونك ( لا أحد ) إلى كونك (شخص ما ) ومثل هذا كفيل بجعلنا نضع الارتباط مع الله على الهامش ! ونبدأ في معاناتنا الطويلة لنثبت لكل من يواجهنا في الحياة بأننا ” شخص ما ” .. ويالها من حسرة ناتجة عن التزييف . في الحقيقة يمكن أن نختم بأن تفكيرنا متى ما تحرر من الأنا المزيفة كتب له العيش في عالم الروح ، حيث لا يجب عليك أن تقول للآخرين أنا حاصل على شهادة علمية كبيرة ، أو أعمل في منصب رفيع أو أملك الملايين ، وتنظر للحياة على أنها متعة بعيدة تماما عن التعقيد . بعيدا ً عن الذكاء الانتهازي ، والتمتع بالبحث في ما يحير .. في روحك .. كما يقول ( جلال الدين الرومي ) : “قم ببيع ذكائك ، واشتر الحيرة ! “

المراجع :

1- داير ، واين .(2010 م). النقلة . مكتبة جرير .

2- الغذامي ، عبدالله ( 2015 م) .مقالات الغذامي الجزء الأول . مقال بعنوان ” آفاق ما بعد الحداثة ” . دار الرياض .

3- تشوبرا ، ديباك .(2015 م) . تحقيق الرغبات . دار العلم للملايين .

4- تشوبرا ، تشوبرا .( 2015 م) . القوة والحرية والخير . دار العلم للملايين .

د. خليل الشريف

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى