“الشَمْس كَنِسْر هَرم” لِهادي دانيال : كِتابة القَصِيدة بِأمَل جَدِيد.

مصطفى الكيلاني
-1-
هُو لوْن جديد من الكتابة ابتدأه هادي دانيال في مجمُوعته الشعريّة الصادِرة في هذه الأيّام بِعُنوان “الشمس كَنِسْر هرم” (*).
لَوْنٌ لا يقطع تماما مع ما أنجزهُ طِيلةَ عُقود مُنذ أوّل قصيدة، بل يُمَهِّد لِكتابَة أمل جَدِيد رغم سِياق القصائد الزمنيّ الصعْب لِتَفشِي عَدْوى “الكورونا” الّتي أصابت الأنفس بِالقَلق أكثر مِن إصابتها لِلْأجساد. وبَدْءُ التغيير الحاصل في وعي الشاعر لِلْعالم والأشياء والآخر/الآخرين وَرُؤيته الخاصّة لِلْحياة والموْت واستمرار انتِصاره لِقضايا التَحرُّر الإنسانِيّ، وفي مُقدّمتها القضيّة الفلسطِينيّة بِالحادث مِن الوَقائع، مَهّدت لها تفاصيل حياة الشاعر في الأعوام الأَخِيرة بما خاضه مِن تجارب يوميّة كَثيرة، وما خبره مِن حياة الناس في المُجتمع التُونسيّ بعد 14 جانفي 2011، وما توَصَّل إليه مِن أفكار مُحَيَّنَة بِجَدِيد الوقائع، وما سَعِدَ به مِن استقرار سَكَنِيّ أشار إليه في آخر قصائد المجمُوعة. ولعلَّ زيارته لِإيطاليا في شتاء 2020 ما ساعَدَ كثيرا على تنامِي هذا الأَمَل الجَدِيد.
-2-
هِي سِتّ عشرة قصيدة مُؤرّخة بِالمُدّة الواصِلة بَيْن 14/1/2019 و 6/6/2020. وَأَوّل ما يشدّ الانتِباه عند قِراءَة هذه المجمُوعة الشعريّة الغلاف الذي رسمت لوحته “راميا حامد” بِتَصْمِيم لرامي شعبو الذي رسَمَ أيضاً عَدَداً مِن اللَّوْحات في الداخل. وما لاحَظناه بِخُصوصها هُو اشتِغال الرَسّامَين على السواد الغالب حيْث عَتمة يَتَوسّطْها مشهد لِنسر مُحلّق في أعالي سماء حُلميّة. كما الأشكال الطَيْفيّة مِن سَواد وبَياض مُوَزّعة في بعض صَفحات المجموعة، تبدُو في وضعيّات إقبال وإدْبار، وُقوف وجُلوس، انحِناء واستِلْقاء، بِالتفريد والتَجْمِيع، وبِتَغطية وتَعْرية خافتَتَيْن وِفق حَرَكات لِخيالات أجساد عارضة عابِرة استِيهامِيّة تُحِيل إلى زَمَن مَضَى وانقَضَى، أو في طريقه العاجل إلى الأفول.
وَمُنذ العُنوان: “الشمس كَنِسر هرم” نُدْرك دَلالة الاقتِراب مِن لحظة انتِهاء، ولكنْ أَيّ انتِهاء؟ هل هُو انتِهاء بِدايَة مَّا في انتِظار ابتِداء آخر، وذلكَ باستئناف الحَرَكة، الفِعل بِزَمَن آخر هُو الزَمَن المُسْتقبليّ؟ وَلِمَن هذا الزَمَن؟ ومن سَيَكُون الشاهد عليْه؟ وما هِي أحداثهُ القادِمَة المُمْكنة؟
إنَّ ثابت صُورة البَدْء الغارقة في سَواد الالتباس وَوُضوح الرغبة في التَحَرُّر مِن طوقها الّذِي تَقادم زَمَناً، ولا إمْكان لاستمراره إلى ما لا نِهاية، هُو بَدْء أُفُول لِمَشهد يُرَى مِن “شُرفة الحَياة” (حياة الشاعر)، كَالوارد في النَصّ التمهِيديّ: شمس لَطَالَما أشرقت، تُشَبّهُ ب “نِسر هَرم يخبط جناحَيْه على هواء لَزج تحت سَماء صافِية” (ص5). وَمَفادُ هذا المَشهد بَدْءاً هُو تقادُم مَوْجود بِثِقَلِ حَرَكتِه الدالّ على هَرَمه في وُجود شِبه ثابت، شِبْه أَزَلِيّ مُتَكَرّر (سَماء صافِيَة).
-3-
مِن “شرفة الحَياة” أَدْرك الرائِي ما كان ويَكُون وَيُحدس، وما الّذِي تَبَقَّى مِن الحَياة. وَمفْرَدا مُتَفَرّدا تَطَلّع إلى الخارج، خارج جُوانِيّته المُنفَتِحَة على ما يُبْصر وما لا يُبصَر رُوحا. فَلاذَ بِعَمِيق إنِّيَّته مُتَوَجّساً شَرّا، بل شُرورا مِن الآخر/الآخرين بَعْد مُداوَمة طويلة على حَياة الجمْع، مُدْركا حَقِيقة ما تَوَصَّل إليْه الفيْلسُوف الفرنسيّ جان بول سارتر بِخُصوص الآخرين الّذِينَ وصفهُم بِالجَحِيم، على حَدّ قَوْله: “الآخرون هُم الجَحِيم”.
و”الآخرُون” هِي أقرب القَصائد إلى رُوح المعنى الوارد في العُنوان الرَئِيس، كَأَن يستجير الشاعر اختِياراً قبْل اضطِرار بِعميق إنِّيّته باحثا له عن أَصالةِ معنى بِمُجْمل فرديّته الّتِي خَبِرت طِيلةَ العُمُر معنى أن يَكُون الفرْد حُرّاً بِفائض الرغبة في أن يَكُون وبَيْن الخُضوع لِمُسْبَق فِكرة الانتِماء عَشِيرةً أو حِزباً. وَحِينما أنصت إلى نِداء رُوحه المُفرَدَة أدْرك حَقِيقة الأُصول والفُصول وتاريخ الدّم والثارات والمَعارك والجَحِيم والخَراب، فَتَطلّعَ إلى أُفُق جَدِيد خارج لَيْل العَتمة الّذِي طال عُقودا، بل قُرونا.
وَكَذا “شرفة الحَياة”، فهي قَصِيدة الحُرِّيّة المنشُودة، والحُرِّيّة المُتحَقِّقة بعد رِحلة طَوِيلة في عُمر الشاعر الِّذي طَوَّف بعيدا في أقاصِي الحَياة وخبر الكَثير مِن هَزائمها وخيْباتها وَتَوَصّلَ إلى أَنَّ السَعادَة لا تتحقّق إلَّا بِإنّيّة مُتَحَرِّرة من غيْرِيّة قاهرة مُسْتبِدّة.
وإذَا قَصِيدة البَدْء هِي نَشِيدة التَحرّر يستعِدّ بها الشاعر لِخَوْض تجربة جَدِيدة في كِتابة الشِعْر، لِيذهب مِن خلالها بَعِيدا في طَرِيق الانتِصار للرغبة على الضَرُورة والالْتِزام بِالمُسْبَق الإيديولوجِيّ والمسطور السِياسِيّ. فَيَتَوَلّد عن خَيْبة الأَمَل في الأزمنة السابقة أَمَلٌ جَدِيد بَدَأ في التَحَقُّق بِالتَوَجّه إلى الدَاخل الجُوانِيّ، كما أَسلَفْنا، تزامُناً مع الإخلاد إلى سَكنٍ سَعِيد، إلى منزوى دافئ.
-4-
الحُلم، ثُمّ الحُلم، ولا أَمَل، ولا سبيل إلى التَحَرّر مِن جَحِيم “الآخرين” إلَّا بِالحُلم يتحَدّى “جَلِيد الغُرْبة”. وَبِالانْزِواء يتخفّف الشاعر كثيرا مِن أثقال مَاض مُزدحِم بِالأَتْعاب والهَزائم والخَيْبات مُعْتبِراً مِن مراحل عُمُره السالِفة، مُتَهَيّئاً في الأثناء لِهَذه المرْحلة الجَدِيدة ابْتِداءً مِن لحظة فتْح الباب تَوَجُّهاً إلى الداخل: “أدفعُ مِفتاحا في قُفل الباب” (ص34). وهُناك في الداخل صمْت وسيادة النفي ووحشة انفِراد ومِيلاد حُلم جَدِيد يتَحرّر به هادي دانيال مِن سُلْطان العادة وجَحِيم الآخرين، مُحَرّرا لُغَته الشِعريّة أيْضاً مِن مَنطق التَداوُل اللِّساني المُعْتاد، فيذهب بعيدا في تداعِيات حال مِن الفَرَح الغامر، وذلكَ بِتحْوِيل لُغة الكِتابة إلى فِعل انْكِتاب بِما تجُود به اللَّحْظة (آن الكِتابة ذاته). وَإذَا الكَلام يَشِي بالبعض الكَثير مِن صَمْته الكَامن فِيه، غيْرَ أَنَّ “قابيل” (قاتل أَخيه الإنسان رَمْزاً) و”التاج والصَلِيب” وَالصُلبان والظَلام الأَمَرِيكيّ والقَراصنة وحَنَّبعل وقرْطاج وزنُّوبيا وَرُوما… ما يُومِئ إلى واقع مَعِيش مرْجعيّ له صِفَته المُباشرة مِمَّا يَسم الكِتابة الشِعريّة بالقَوْل كَلاما، وَالكَلام دَلالةً أو تِدْلالا لِصَمْت يُضفِي على الكَلام/الخِطاب الشعريّ دَلالةَ إيحاء هِي أَبْعد مَدى في اسْتِنطاق الحالات المُبهمَة في نَفس الشاعر الّذِي يلتفت ويسترهن (مِن الراهن) ويستشرف في الآن ذاته بالرغبة في كِتابَة مُختلِفة عن سابقتها تُقارب الفَراغ، الخواء، اللَّا- معْنى، العَبَث، اللَّا- معقُول أحيانا لِتَوْسِيع آفاق العِبارة في تَوْصِيف الوقائع والحالات المُلْتبِسة الناشئة.
-5-
وإثْرَ اتِّخاذ قَرار اللَّواذ بِالداخل اتِّقاءً ﻟِ “جَحِيم الآخرين” والابتِداء في حُلم شِعريّ جَدِيد، وبعد انتِهاج سَبِيل النفي أُسْلوبا في أَدَاء الخِطاب وإرْباك مَنطق اللُّغة المُتَداوَل المُعْتاد بِبَراديغمات جَدِيدة لا تُكَرّر أنساق المَجاز التقليديّ أو بَلاغة الإفهام، كَالّذِي وَسَم بعض قصائد هادي دانيال في مُختلِف أطوار الكِتابة الشِعريّة لَديْه بِدافع الالتِزام السِياسِيّ وَضَوابطه الإيديولوجِيّة شِبه الإلْزامِيّة أحيانا يتّبع الشاعر نَهج الاستفهام تَدْلِيلا على حيْرة جَدِيدة، ﻛ “التَطَيُّر” مِن الحَمامَة الحاطَّة على “الطاوِلة/بَيْن الحاسُوب ونبْتة الزِينة” (ص45) وارْتِعاب “الأشياء” داخلَ “الصالة” في سَكَن الشاعر حيْث رُؤية العالم تَعُود لِتَتَشكّل بِإنِّيّته المَخْصُوصة، تِلك المهزُوزة المُسْتنفَرَة بِمَشاهد رُوما المُزدَحِمة في ذاكرة تشتغل بِماض قَرِيب والعُزْلة الاضطرارِيّة بعد تَفشِّي مَرَض “الكورونا”، كَالمُتَمَثّل زمنا في قَصِيدة “المَخاض” بِتاريخ 31 مارس 2020 حيْث تدّاخل وقائع وحالات وذكريات سابقة ولاحِقة مِن فَضاءَيْن هُما تُونس ورُوما، وَمِن تواريخ مُتباعِدَة زمنا بِما يختصر ماضِي الرُومان والقرطاجنّيين والغرب والشَرق، وبِرَمْزيّة كُلّ مِن سبارتاكوس وقسطنطين وهانيبال وزنُّوبيا.
وَبِضَرْب مِن الافتِتان شِبه الخَفيّ وشِبه الظاهر يسكن حُبّ رُوما قلب الشاعر، رُوما الجَدِيدة كما تراءت لِلشاعر الحَفِيد في زيارة اسْتِطلاع أُولى له بَعْد غزْو الجدّ هانيبال لها عَقِبَهُ غزْو الرُومان لِقرْطاج. وَرُوما الجَدِيدة في نَظَر الشاعر هِي “بَياض قاتم- قاتم بياضها- ورُفات- وأَبَجَدِيّة جديدةٌ رُوما- يتهَجّى حُروفها- اللَّه والحَياة” (ص56).
وَرُوما الّتِي تَعَلَّقَ بها الشَاعر هِي رُوما العِمارة بِوفرة رُخامها وكثْرة صُلبانها، وهي رُوما الشوارع والنَهر، مَدِينة جيوردانو برونو (Giordano Bruno) (1548 م- 1600 م) الّذِي دافعَ عن حُرّيّة الفِكر والمُعتَقد بعيدا عن الأوْهام المَوْرُوثة لِمُدّة قُرون لِتنقضيَ حَياته بِحَرْق الكَنِيسة له، وَرُوما إلى ذلك هِي مَدِينة أمبرتو إيكو (Emberto Ecco)، روائيّ الرغبة المُتَوقّدة في الحَياة، وَرُوما هِي مَدِينة “المَخاض”، مَخاض الشاعر يَسْتعدّ لِولادة وُجودِيّة جَدِيدة.
فيحيا الشاعر في بَدْء مرْحلة جَدِيدة فَرح رُوما وسعادَةَ انزِوائه داخل سَكَنه الجَدِيد أيْضا، كما يحْيا قَلق الحِصار المفرُوض عليْه للتوَقّي مِن خَطَر “الكورونا” الداهم.
وإذَا زَمَن القَصائد (لَحظاتها) استثنائيّ فارق مُفارق بِالإحساس ونَقِيضه، وبِإدراك أقصى السَعادة رغم ذَهاب شمس الحَياة بعيدا في تَقادُمِها.
-6-
وإنِ اختارَ الشاعر عُزلته في قصيدة “الآخرون” (14 جانفي 2019) فقد اضطُرّ إلى اللّواذ بِبَيْته في “مِن الشرفة” (11 أفريل 2020) لِيَتأمّل العالم (عالمه) مِن “شرفة الإصغاء”. وَبِحُلم يَقَظة يستعيض به عن فَظاعة ما يحدث في الخارج حَيْث المَوْت يترصّد الخُطى باحثا له عن ضَحايَا جُدُد في غمْرة الفتك العامّ بِالصُدْفة الّتِي لا تستثني أحدا. وَبِحُلم اليَقَظة الشِعْريّ أَيْضا يتحدّى الشاعر حاصدة المَوْت القادم مِن كُلّ صَوْبٍ المُنْدسّ في جميع الأَمْكنة. وفي الداخل الجُوانِيّ والسَكَنِيّ يتأسّس عالَمٌ حُلميّ خاصّ ب “أَصوات العَصافير والسماء الزرْقاء والشَجر وذكرى الفراشات والعِطر والعَبَق المُزهرَيْن…”، وَتُغالب الذات الشاعرة المَوْت الهاجم فيتَبدّى بِالشُرفة، كَالوارد في قصيدة “الزهرة”، الحَدّ الواصل والفاصل بَيْن العالم الجُوانِيّ والعالم الخارجيّ، وَبَيْن الحَياة والموْت، إذْ تُطِلّ هذه الشرفة على مِقبرَة، لِيَتقابل بِذَلك وجهان لِلْحَياة والموْت أَيْضاً، وبِالموْت المُنتظَر والموْت الهاجم.
وإذَا هِي حالُ الْتِفاف يحياها الكائن اضطِرارا: الْتِفاف حَوْل نواة الذات الفرْدِيّة بِفائض الإنِّيّة، والْتِفاف داخل المَكان المُغلق (السَكَن) يفتح على الداخل الجُوانِيّ لِتتوالد صُوَر حُلم اليَقَظة شِعْراً بِالمُتَذكَّر الحِينيّ ودهشة اللّحظة تستقدم إلى عالم القَصِيدة كُلّ المحبّات السالِفة والحادِثة، ومحبّة الشام تُشرق أملا كُلّما أَحَسّ الشاعر بوحشة “منفاه” الاختياريّ.
حالٌ مَخاض تتأكدّ حَدَثا جديدا في زَمن الشاعر المُختلِف عن سابقه، زَمَن الأَحاسيس المُتفارقة المُتداخَلة بِالغبطة والحُزن معاً، وبالرغبة المُتَحَفِّزة داخل المنزوى الاضطِراريّ بِتَحَوُّلاتها العاجلة فسخاً وإعادةَ كِتابة، أداءً لِآلام “تفيض عن تعفّنات السُلالة الدَمَوِيّة” (ص71)، وبِهُويّة ناشئة تستفيق بها الذات الشاعِرة على فَرَح كَوْنِيّ، على صُورة آرتر رمبو (Arthur Rimbaud) على مهرجان كُلّ مِن الطَبيعة والشِعر الأَزَلِيّ. وتعلُو سَماء الفَرح، كما يمتدّ أُفُق النشوة، وتتّسع طريق الأَمل، وتُزهر عِشقا لا يُفارق غبطته بَيْن العاشق والمعشُوق.
وِلادةٌ جَدِيدة لِحَياةٍ أُخرى، تِلك هِي الدَلالة المرْجعيّة الوالِدَة المُتَكَرّرة في قصائد “الشمس كَنِسْر هرم” لِهادي دانيال: وِلادةٌ حدثتْ تَزامُنا مع التَحَرُّر مِن أوْهام وإلزامات كثيرة.
إنَّها يَقَظة وعي حادثة أَيْضاً، سَرّعتْ فِيها أحداث صادِمة، بعضُها مُفرح، وبعضها الآخر مُحْزن، وإذَا رُؤية الشاعر لِلْعالم تتغيّر في “نبض حجر” على غِرار القصائد السابقة. فَالزَمَن هُو ذاته وإنْ تغايرت لَحَظات القصائد داخل مَكان أو أَمْكنة مُغلقة لِتَتهاوى وُثوقات كثيرة أَلْمح إليْها الشاعر بِالكَثير مِن الإعتام المُتَعَمَّد مُكتفيا بِذكر أنوار مُعَتّقة، وقباب، وعمامة السُلْطان، وسيّاف الخليفة والشعب في قِدر…” وَبِالقصْد ذاته تعتيما لِدَلالةٍ وَبَوْحاً بِيَقظة وعي أوْ إدْراك حقيقة يُواصل الشاعر في قصيدته “قمر؟” كِتابة حالات مُبهمة في لَحظات حُلم يَقَظة وانتِظارٍ استثنائيّة تَصِل بَيْن الإحساس ونَقِيضه.
وإذَا عُزلة الشاعر اضطِرارا واختِيارا أوْ اختِيارا بَعْد اضطِرار تُحَفّز الشاعر على التَأَمّل في الطَبِيعة والمَكان وواقع انتِشار وَباء الكورونا كَوْنِيًّا وأخطاره المُحدقة بجميع الأَفراد.
-7-
فَالأَمَلُ، إذنْ، هُو نافذة الشاعر المفتُوحة على قادِم الأَيّام والأَمَل بِآفاقه الرحبة، وهو جَدِيد الشاعر مُنذ عَوْدته مِن رُوما في أَوَّل شتاء 2020. وما حَدَث لاحقا مِن فاجِعة الكورونا لم يُزعزع أَمَله الّذِي تَنامَى وأثمرَ حُلما، بل أحلاما جَدِيدة تتحدّى الحُكّام الجائرين والسُجون والجَلاّدين، كَالمُتَضمَّن دَلالات لِلتَحَدِّي والمُقاوَمة في “كَمنجات لِكي نَحْيا” المُهْداة إلى “أشرف فيَّاض”، صَدِيق الشاعر، “نزيل السُجون السعوديّة”، وهي قَصِيدة غنائيّة بترْجيع خاصّ يمزج فيها بَيْن صُوَر ومواقف مِن أزمنة وأَوْضاع شتّى، بَيْن سجن الشاعر و”الزَمن” الفلسطِينيّ والتَآمر العربيّ على القَضِيّة الفلسطينيّة.
فَيَظلّ الأَمَل أُفُق القَصيدة. كما “نجمة الضباب” الّتِي تُحِيل إلى حَدَث اغتِيال شُكري بلعيد، فهي مفتُوحة على مُستقبل مُضِيء رغم الّذِي حَدَث للزَعِيم مِن تراخي الرِفاق، إلَّا أنّ النِضال مُسْتمِّر ضِدّ أعْداء الوَطَن (تُونس) ب” المَرْأة المهرجان”.
كَذَا أَمَل الشاعر يتبدّى في الثابت الدَلالِيّ المُتَكَرّر شُرفةً مفتُوحةً على الزَمن القادم، على الكَوْن، كَلَحْظة “أعشاب اليأس” يُعِيد بها الشاعر كِتابَة المَشهد العُنصريّ ضِدّ السُود الأَمَريكيّين الّذِي فَجَّر الشارع الأَمَرِيكيّ انتِفاضةً شعبيّة خِلال ماي 2020 وَفَضح أكاذيب الدِيموقراطيّة الأَمَرِيكيّة. وفي هذه القَصِيدة إلْمَاح إلى أنجيلا ديفيس (Angela Davis) الناشطة في حُقوق الإنسان الأَمَرِيكيّة، وإلى نلسون مانديلا (Nilson Mandela) الزَعِيم ورئيس جَنُوب إفريقيا الأَسْبق.
فَلَحْظة هذه القَصِيدة تمثّلت في تَفاعُل الشاعر مع هبّة الشارع الأَمَرِيكيّ مُنذ 26 ماي 2020، لِمَقتل جورج فلويد (George Floyd)، وانتِشار المُظاهرات في خمسين وِلاية أمريكيّة إلى يَوْم 31 ماي، كما نتجَ عن ذلك أعمال تخرِيب في عَدَد كَثِير مِن الفضاءَات العُموميّة والخاصّة.
كُلّ هذه الأحداث تفاعَلَ معها الشاعر، مُنْضَمّاً بِذلكَ إلى مَلايِين الأحرار في العالم.
-8-
وآخرُ علامات الأَمَل وأبرزُها أُنثى استثنائيّة غَيَّرت حَياة الشاعر، كَالوارد في قَصِيدة “نِداء الأَيائل”. هُو عالم الحُروب والأَوْبئة والزَلازل والانحِباس داخل الفَضاءات المُغلقة يستحيل في عالم الشاعر (سَكَنه الخاصّ) إلى مُنزوى جَمِيل يُؤَثّثه جَمال أنثى ورفقة وَأُنس.
وإذَا طريق الشاعر في زَمَنه الحادث بِراهن القَصائد تُسْفِر عن بِدايَة وِلادة أُخرى لِأَمَل جَدِيد، كما أسلفْنَا، وتستحِيل به الغُرْبة إلى سَكَن جَمِيل، والمنفى إلى وَطَن بما تحقّق لِإنّيّة الشاعر مِن اكتِمال معنى بِغَيْرِيّة هذه الأُنثى الساحرة الآسِرة تختصر تكثيفا كُلّ الغَيْرِيّات الأُخرى.
كَذَا آخر الطَرِيق- أَوّل الطَريق في تجربة الشاعر السالِفة والحادِثة هُو مِيلاد قَصِيدة جَدِيدَة بِأَمَل حادث بَعْد يَأس، وامرأة مُختلفة عن غيْرها مِن النِساء في حَياة الشاعر، وفَرَح جَدِيد مُخصِب استثنائيّ، وإنهاء لِمَراحل وابْتِداء لِمرْحلة جَدِيدة بِالفسْخ، بِالبَياض، بِإعادة الكِتابَة أو قطعها ثُمّ استئنافها في قادم الأَيّام، وَبِطُفولة أُخرى وَلِيدة:
“صار قلبي بياضا
فَأَهدَيْتُها قلمي
كي تخطّ عليْه اسْمها
هكذَا اللَّام عُكَّاز رُوحي” (ص119).
فَيتوَسّط حرْف اللَّام أخيرا بِفائض رمْزِيّته الشفيفة الكِتابة الشعريّة السابقة والكِتابة اللَّاحقة مُرورا بِالبَياض إنهاءً وابتِداءً في الآن ذاته، بِالمَا- قَبْل المُنقَضِي، والما- بَعْد المَوْعُود.
وَبِالأَمَل والأُفُق الجَدِيدَيْن في مُتَضَمَّن قَصائد “الشمس كَنِسْر هَرم” ابتدأَ الشاعر هادي دانيال مرْحَلة جَدِيدة في تشبيب رُوح الشِعْر، بَعْد إعلان استمرار شباب الرُوح، رُوحه، في هذه الأَيّام.
………………………………………………………………………………………..
*هادِي دانيال، “الشمس كَنِسْر هَرم”، تُونس: دِيار للنشر والتوْزِيع، 2020.