الذكاء الاستراتيجي وصناعة المستقبل في دولة الإمارات

بقلم : غازي الصبيحي
مستشار الجودة والتميز المؤسسي
Alsubaihi99@hotmail.com
يُعد الذكاء الاستراتيجي من المفاهيم الحديثة التي اكتسبت أهمية متزايدة في عالم الإدارة وصناعة القرار، خصوصًا في ظل عالم سريع التغير مليء بالتحديات والفرص. يمكن تعريفه بأنه القدرة على جمع المعلومات الدقيقة وتحليلها واستشراف المستقبل، ثم توظيف هذه المعرفة في صياغة سياسات واستراتيجيات طويلة الأمد تحقق ميزة تنافسية واستدامة في النمو والتطور. وبعبارة أخرى، هو فن الرؤية بعين المستقبل مع استخدام أدوات الحاضر.
يتأسس الذكاء الاستراتيجي على مجموعة من المكونات أو الركائز الأساسية أولها الوعي البيئي من خلال إدراك الاتجاهات والمتغيرات التي تشهدها البيئتان الداخلية والخارجية، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو تقنية.، وثانياً التحليل العميق للمعلومات من خلال جمع البيانات من مصادر متعددة وتحويلها إلى معرفة ذات قيمة عملية تساعد على اتخاذ القرار، وثالثاً الرؤية المستقبلية وامتلاك القدرة على التنبؤ بالسيناريوهات المحتملة للمستقبل، والاستعداد للتعامل معها.، وربعاً القدرة على التكيف من خلال تعديل السياسات والاستراتيجيات بناءً على المستجدات، وأخيراً الإبداع والابتكار: التفكير خارج الأطر التقليدية وتوليد حلول مبتكرة لمواجهة التحديات.
لقد أدركت القيادة الرشيدة في دولة الإمارات أهمية الذكاء الاستراتيجي كأداة محورية في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، فجعلت منه نهجًا مؤسسياً تتبناه في مختلف القطاعات. وتظهر تجليات هذا الذكاء في عدة مجالات منها رؤية الإمارات 2031، تمثل هذه الرؤية نموذجًا حيًا للذكاء الاستراتيجي، إذ لم تُبنَ على ردود أفعال آنية، بل على قراءة مستقبلية متعمقة للتحديات العالمية مثل التحولات المناخية، والتطور التكنولوجي، وتغير أنماط الاقتصاد. وقد تضمنت الرؤية محاور تعزز مكانة الإمارات كدولة رائدة في مجالات الاستدامة والاقتصاد الرقمي وجودة الحياة، كما ركزت دولة الإمارات في الاستثمار في الطاقة المتجددة من خلال إطلاق مشاريع كبرى مثل “مدينة مصدر” في أبو ظبي، جسدت الإمارات الذكاء الاستراتيجي في استشراف مستقبل الطاقة. ففي وقت ما زالت فيه العديد من الدول تعتمد بشكل كبير على النفط، بدأت الإمارات منذ سنوات في تنويع مصادر الطاقة لضمان استدامة النمو وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري.
ومنذ وقت مبكر سارعت دولة الإمارات في اعتماد منظومة التحول الرقمي والحكومة الذكية والتي تعكس وعيًا استراتيجيًا بالتحولات العالمية في عالم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. فمن خلال هذه الاستراتيجية، لم تكتفِ الدولة بتبسيط الخدمات، بل وضعت نفسها في طليعة الدول التي تستثمر في المستقبل الرقمي، أولت الإمارات اهتمامًا كبيرًا لأمن المجتمع وحمايته من التحديات المعاصرة مثل الجرائم الإلكترونية والتطرف. ويعد إدماج المرأة الإماراتية في مؤسسات الأمن والعدالة مثالاً بارزًا على الذكاء الاستراتيجي، حيث تسهم المرأة اليوم في الوقاية من الجريمة وتعزيز الاستقرار الأسري والاجتماعي، وتوجهت الإمارات نحو استراتيجية الفضاء وإطلاق “مسبار الأمل” عام 2020 الذي لم يكن مجرد إنجاز علمي، بل نموذجًا للذكاء الاستراتيجي، إذ أدركت الدولة مبكرًا أن الاستثمار في الفضاء سيعزز مكانتها العالمية، ويخلق فرصًا علمية واقتصادية جديدة، ويفتح آفاقًا للأجيال القادمة في مجالات البحث والابتكار.
يمكن القول إن الذكاء الاستراتيجي في الإمارات لم يكن شعارًا نظريًا، بل ممارسة عملية ساعدت على بناء ميزة تنافسية عالمية، مواجهة الأزمات (مثل جائحة كوفيد-19) بخطط مرنة وفعّالة، وتحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي.
إن الذكاء الاستراتيجي ليس رفاهية فكرية، بل هو ضرورة وجودية لأي دولة أو مؤسسة تسعى للاستدامة في بيئة مليئة بالتغيرات. وتجربة الإمارات تمثل نموذجًا عالميًا يحتذى به في كيفية توظيف الذكاء الاستراتيجي لصياغة مستقبل واعد. فقد استطاعت القيادة الإماراتية أن تمزج بين الرؤية البعيدة والقرارات الذكية، لتجعل من الدولة مركزًا عالميًا للابتكار والتنمية المستدامة.، وبذلك، فإن تعزيز الذكاء الاستراتيجي في المؤسسات والأفراد هو استثمار في المستقبل، وضمان لمسيرة تنموية تتجاوز الحاضر نحو آفاق أكثر إشراقًا.