الأخبار
الحمائل في غزة: السلطة الجديدة وسط انهيار حكم حماس

يارا المصري
في الوقت الذي تواصل فيه حماس زجّ سكان غزة في أتون الحرب، تتولى الحمائل المسؤولية الحقيقية عن إطعام الناس، حمايتهم وتنظيم حياتهم اليومية. الاتجاه واضح: مع انهيار الحكم العسكري، الحمائل تتحوّل تدريجيًا إلى البديل الفعلي للسلطة في القطاع.
تعيش قطاع غزة منذ فترة طويلة حالة من الانهيار الإنساني والاجتماعي العميق. فبين الدمار الكبير ونقص الغذاء والدواء، تتزايد الاتهامات الموجّهة إلى حركة حماس بارتكاب جرائم حرب بحق المدنيين، من خلال استخدامهم كدروع بشرية، وتخزين الأسلحة في المناطق السكنية، والسيطرة على المساعدات الإنسانية وتوجيهها لمصالحها السياسية والعسكرية.
في المقابل، يبرز عامل اجتماعي جديد/قديم: الحمائل المحلية، التي بدأت تملأ الفراغ الإداري والإنساني. هذه الحمائل باتت اليوم العمود الفقري للحياة اليومية في غزة، تدير توزيع المساعدات، وتنظّم الأمن المحلي، وتحاول الحفاظ على بقايا النظام الاجتماعي في غياب سلطة مسؤولة.
الوقائع على الأرض تشير إلى نمط واضح ومتكرر: عناصر حماس وقادتها العسكريون يعملون داخل الأحياء السكنية المكتظة، ويستخدمون المباني المدنية والمدارس والمساجد كمخابئ ومخازن أسلحة. هذا السلوك، الذي يشكّل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، يجعل المدنيين في مرمى النار ويعرض حياتهم للخطر بشكل دائم.
بالإضافة إلى ذلك، تُتهم حماس بالسيطرة على تدفق المساعدات الإنسانية، والاستيلاء على المواد الغذائية والوقود، ثم توزيعها وفقًا لاعتبارات الولاء السياسي. وبذلك، تحوّل السلع الأساسية إلى وسيلة ضغط سياسية، مما يزيد معاناة المدنيين ويعمّق حالة الغضب الشعبي داخل القطاع.
مع انهيار الخدمات العامة، من الكهرباء إلى المستشفيات، ظهرت الحاجة إلى سلطة بديلة تستطيع إدارة شؤون الناس اليومية. هنا تتدخل الحمائل الكبيرة لتسدّ الفراغ:
تنظيم توزيع الطعام والماء.
إدارة مراكز الإيواء.
حل النزاعات المحلية.
حماية الممتلكات العامة والخاصة.
الكثير من السكان يرون في الحمائل الجهة الوحيدة القادرة على التحرك فعليًا على الأرض، في حين تكتفي حماس بإصدار بيانات وبتحركات عسكرية لا تخدم الحياة المدنية. ومع مرور الوقت، بدأت الحمائل تكتسب شرعية اجتماعية حقيقية، باعتبارها الجهة التي “تحمي وتساعد” الناس، مقابل سلطة لا يرى المواطن منها سوى الضرائب والخوف.
تتعمق الفجوة بين حماس وبين المجتمع المحلي في غزة. فبينما تتمسك الحركة بخطاب المقاومة والسيطرة بالقوة، الحمائل تتحول تدريجيًا إلى مؤسسات حكم فعلية: هي التي تدير الأسواق، تنظم الأمن، وتوزع الموارد.
هذا الواقع يفتح الباب أمام تحوّل تدريجي في ميزان القوى داخل القطاع. فبدلاً من أن تكون حماس السلطة المطلقة، قد نشهد ظهور نظام اجتماعي-قبلي تديره الحمائل الكبرى، يستند إلى العلاقات التقليدية والثقة المحلية، لا إلى السلاح أو الأيديولوجيا.
ومع ذلك، هذا النموذج ليس خاليًا من التحديات: التنافس بين الحمائل على النفوذ، فرض الضرائب المحلية، أو استغلال الموارد قد يؤدي إلى نظام هشّ وغير ديمقراطي. لكن بالمقارنة مع الوضع الحالي، يرى بعض سكان غزة أن “الحكم الاجتماعي” أكثر إنسانية من حكم حماس القمعي.
هذا التحول الاجتماعي يطرح أسئلة صعبة أمام المجتمع الدولي:
كيف يمكن ضمان وصول المساعدات دون أن تقع بيد جماعات مسلحة أو نُخب قبلية؟
هل يمكن دعم الحكم الأهلي كمرحلة انتقالية لإعادة بناء المجتمع المدني في غزة؟
وهل تشكل الحمائل نواة لحكم محلي حقيقي، أم مجرد آلية بقاء مؤقتة تحت الحصار؟
الإجابة على هذه الأسئلة قد تحدد شكل غزة في اليوم التالي لانتهاء الحرب. فبينما تفقد حماس مشروعيتها السياسية والإنسانية، تبرز الحمائل كقوة واقعية على الأرض — قوة تنظيمية، اجتماعية وربما مستقبلية في إدارة القطاع.
غزة اليوم تقف على مفترق طرق: بين سلطة عسكرية غارقة في الصراع وبين مجتمع مدني يحاول إنقاذ نفسه بنفسه. ومع ازدياد عزلة حماس وتآكل ثقة الناس بها، تتحول الحمائل إلى البديل الفعلي للحكم.
ما بدأ كتنظيم اجتماعي طارئ، قد يتطور إلى بنية حكم محلية جديدة حكم يستند إلى التقاليد والعلاقات، لا إلى الشعارات والسلاح. في النهاية، بينما تنشغل حماس بالحرب، يبدو أن المجتمع الغزّي وجد طريقه للبقاء وربما طريقه نحو مستقبل مختلف.










